يبدو الرئيس التونسي، قيس سعيّد، ممسكاً بخناق الحكومة، عبر منع رئيسها هشام المشيشي من إدخال أي تغيير على تركيبتها لا يراه مناسباً من وجهة نظره، وتوجيهه اتهامات بالفساد وتضارب المصالح لبعض الوزراء من دون تقديم أي إثبات قضائي، بالتوازي مع رفضه أداء وزراء لليمين الدستورية، على الرغم من أن البرلمان منحهم ثقته بأغلبية كبيرة. كما أن سعيّد يمسك بخناق البرلمان أيضاً، فلا يوقّع على أي قانون لا يراه مناسباً أو غير متجانس مع الدستور كما يفسره هو، بما أنه أصبح في غياب المحكمة الدستورية المفسّر المتفرد للدستور، وهو بذلك يهدد التوازن الهش أساساً. ولكن هذا الوضع كشف في المقابل عن مشاكل هذا الدستور وخروقاته الكبيرة ومطباته التي لم يتفطن إليها المؤسسون، أو ربما اعتمدوا حين وضعوه على حسابات انقلبت عليهم.
يرفض سعيّد أداء وزراء لليمين الدستورية، على الرغم من أن البرلمان منحهم ثقته بأغلبية كبيرة
آخر تصريح لسعيّد كان الثلاثاء الماضي، فوجّه هجومه إلى حركة "النهضة" من دون أن يسميها، قائلاً: "هم وضعوا الدستور (2014) وقالوا إنه سيتم إرساء المحكمة الدستورية في غضون سنة، وضعوا النص ولم يرسوها، ولما أحسوا بالخطر اليوم أو استشعروا بعض الخطر بدأوا الحديث عن إرساء المحكمة الدستورية... هل ستكون بالفعل محكمة أم ملكية لتصفية الحسابات الدستورية... لن أدخل معهم هذه المجالات والنقاشات". ويدل كلام سعيّد على أنه يعتبر أن بإمكانه الاستناد إلى مبدأ عدم إتمام المحكمة الدستورية بعد عام من إصدار قانونها ليبقى صاحب التأويل الدستوري الوحيد، لأن من يسميهم بـ"هم" يريدونها لتصفية الحسابات، والتفكير في عزله، وفق تفكيره.
وعن ذلك، قال أستاذ القانون الدستوري عبد الرزاق المختار، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن ما حصل "مؤشر على أن رئيس الجمهورية اختار نهجاً قائماً على الصراع، ويعتقد أنه استعمل فيه أدوات دستورية، ولكنها في الواقع غير دستورية، فالامتناع عن التوقيع على التعديلات، كما رفض سابقاً قبول أداء الوزراء لليمين الدستورية، مؤشر خطير قد يقود إلى المجهول، وهو ما برز في خطابه الثلاثاء، الذي لا يخلو من تهديدات مبطنة باستعمال بعض فصول الدستور". واعتبر أن "سعيّد خرق الدستور، ووصلنا إلى صراع لم تعد فيه أي خطوط حمراء، لا دستورية ولا مؤسساتية"، مشيراً إلى أن الرئيس "أصبح يقرأ الدستور كما يريد، ويحاول فرض أمر واقع سياسي مستغلاً غياب المحكمة الدستورية، وارتخاء بقية الأطراف، تحت عنوان احترام الدستور، ولكنه بذلك يخرقه".
ولفت المختار إلى أن "الخوف اليوم أن يصل سعيّد بمواقفه إلى عزل نفسه في أسوار قرطاج، وفي إطار فهم أحادي للنص الدستوري"، مبيناً أن "هذا الوضع سيقود إلى أزمة دستورية لا سابق لها، ما قد ينتج عطالة دستورية". واعتبر أن "اتهام رئيس الجمهورية للآخرين بتوظيف الدستور، جعله ينتهك الدستور أيضاً، فهو يلعب لعبتهم بشكل مكشوف"، مبيناً أن "عدم قبول أداء الوزراء اليمين ورفض التوقيع على التعديلات لا مبرر لهما، وما يحصل خارج المنطق الدستوري والمؤسساتي والجمهورية، وهذا نفق خطير لأننا قد نرى بدايته ولكننا لا نعرف نهايته".
وحذر المختار من أن خطاب سعيّد خطير فهو يتحدث بمنطق "لا مفر أمامكم"، معتبراً "أن هناك مراهنة على سيناريوهات عدة، أساسها ترصّد أخطاء خصومه واستغلالها لضربهم أوالدفع نحو مزيد من التأزيم، ما قد يقود إلى ما يسمى بالدكتاتورية الدستورية وهو السيناريو الأسوأ، لأن ما يحصل الآن غير عادي".
مواقف سعيّد بعيدة عن الإجماع والتوافقات الحاصلة منذ الثورة
من جهته، اعتبر المحلل السياسي، منذر بالضيافي، أن "مواقف الرئيس سعيّد المتواترة قد تكون فاجأت البعض، ولكن بالعودة إلى مواقفه منذ وصوله إلى قصر قرطاج فقد حافظ على التصورات السياسية نفسها، والتي هي في الأصل مختلفة عما هو سائد في العمل السياسي". وأوضح في تصريح لـ"العربي الجديد" أن مواقف سعيّد "بعيدة عن الإجماع والتوافقات الحاصلة منذ الثورة وهذا يعود إلى برنامجه ومشروعه السياسي المناقض للممارسة السياسية ولما تعاقد عليه التونسيون".
ورأى بالضيافي أن سعيّد "برفضه التوقيع على القوانين وعلى مشروع تعديل المحكمة الدستورية، هو بصدد خنق الجمهورية وتصفية الفاعلين السياسيين وتكبيل المؤسسات الموجودة وتعطيلها من أجل توفير الأرضية الملائمة لمشروعه الذي يؤمن به، وكأنه يستثمر في مزيد من تعقيد الأجواء وترذيل الفاعلين السياسيين، وهو بذلك يدفع بالأزمة إلى أقصاها، لكي يظهر بصورة الزعيم المنقذ".
واعتبر أن هذا "التقدير خاطئ لأن تعقيد الوضع يدفع إلى المجهول، وخنق الجمهورية لن يستفيد منه أي طرف، بل سيتضرر منه الجميع بمن فيهم رئيس الجمهورية نفسه"، مشيراً إلى أن "سعيّد أصبح جزءاً من المنظومة السياسية التي يخنقها ويعمل على شيطنتها، وهي التي جاءت به إلى قصر قرطاج". وتابع أن "انقلاب سعيّد على المنظومة الدستورية التي أتت به لصالح مشروع هلامي، سيقود نحو مزيد تعقيد الوضع"، لافتاً إلى أن سعيّد "بعد سنة ونصف السنة من الحكم لا يزال بلا أي منجز ولا مبادرة جديدة باستثناء خطب وأحاديث عن مؤامرات وغرف مظلمة، وكل تصريحاته تقسم المجتمع التونسي في الوقت الذي يجب أن يكون فيه رئيساً لكل التونسيين وعنصراً موحداً".
وذكّر بالضيافي بالرئيس الأسبق الباجي قائد السبسي، "فعلى الرغم من كل الخلافات والتجاذبات السياسية مع رئيس الحكومة حينها، يوسف الشاهد، إلا أنه عمل على إدارة الصراعات ضمن التوافقات والحوار الوطني، ولم يعطّل البرلمان ولا أداء الحكومة على الرغم من اختلافه معها، في المقابل فإن سعيّد تحوّل إلى قوة تعطيل لمؤسسات الدولة وللبرلمان وللحكومة".