تشهد الساحة الحزبية التونسية حالة من الركود. أكثر من مئتي حزب في تونس تبدو وكأنها ثُبّتت في الصورة وصارت عاجزة عن الحركة بعد قرارات الرئيس التونسي قيس سعيد في 25 يوليو/ تموز الماضي بتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه وحل الحكومة والقرارات الأخرى التالية. وتتابع هذه الأحزاب الأحداث بنفس دهشة المواطنين، وتتفاعل معها بشكل محتشم ومضطرب، وأحياناً متناقض، وهي تبدو في حالة ضياع تامة وعامة، باستثناء بعض المواقف والتحركات والبيانات من حين إلى آخر. وعلى الرغم من حجم الصدمة التي أحدثها سعيّد بقراراته وتداعياتها التاريخية الممكنة على البلاد، فإن أياً من هذه الأحزاب لم تجتمع وتبادر لتقديم مقترح يجنب تونس انزلاقات خطيرة.
وضرب سعيّد كل الأحزاب في مقتل، وشلّ حركتها وسلبها المبادرة وجعلها تتابع نشرات الأخبار كأي مشاهد. وبينما يتساءل متابعون ما إذا كانت حركة النهضة هي من تحرك الفعل السياسي والحزبي في تونس، خصوصاً أنها عندما سكتت صمت الجميع، يذهب آخرون إلى التأكيد على أن الأحزاب سُلبت وسيلتها الاتصالية الأبرز؛ جلسات البرلمان، لتظهر وكأنها كانت مجرد ظواهر صوتية لا أثر حقيقياً لها بين الناس وفي الشوارع.
شلّ سعيّد حركة الأحزاب وسلبها المبادرة
في السياق، أكد القيادي البارز بحزب "تحيا تونس"، وليد جلاد، أن "المبادرة اليوم هي بيد رئيس الجمهورية، وهو الفاعل الرئيسي بعد تجميد عمل البرلمان حيث كانت الأحزاب تعبر عن رأيها. وفي هذه الفترة الاستثنائية، من الطبيعي أن يكون الوضع كما هو عليه، فالأحزاب لا يسعها التعبير عن مواقفها إلا في شكل بيانات، وهي في حالة انتظار لما سيقرره رئيس الجمهورية، الذي يؤكد أنه متمسك بالقانون والدستور". وشدد جلاد في حديث مع "العربي الجديد" على أن "الأحداث لم تفاجئنا، وكنّا ننتظر هذه النهاية في ظلّ العبث الذي كان يسيطر على المجلس، وهو ما حذرنا منه من قبل، حين صرحنا بأننا متجهون نحو نفق خطير جداً. وهناك أطراف من داخل المؤسسة البرلمانية لم تكن تبالي بما تفعله، ولم تقدّر تأثير ما تقوم به على المجتمع التونسي الذي صنف البرلمان من ضمن أكثر المؤسسات كراهية بالنسبة له، وهذا ما يفسر الترحيب الذي لاقته قرارات رئيس الجمهورية. وبالتالي، ما حدث لا يُعدّ مفاجئاً، بل كان متوقعاً نتيجة الطريق الخاطئ الذي سلكه البرلمان طوال السنوات الأخيرة".
وبرّأ جلاد حزبه من أي مسؤولية عن الوضع الذي وصلت إليه البلاد، قائلاً: "من الجيد أننا لم نكن طرفاً في هذا العبث، ولم نكن نملك صوتاً مسموعاً وتأثيراً كبيراً في البرلمان، وفي كل مداخلاتنا ووقت الأزمات، حمّلنا كل الأطراف الأساسية في مجلس نواب الشعب مسؤولية ما يحصل والقرارات المتخذة، ولذلك تمسكنا بقرار سحب الثقة من (رئيس البرلمان) راشد الغنوشي لسوء إدارته للبرلمان، ولتحميله المسؤولية المباشرة عما آلت له الأوضاع داخل هذه المؤسسة".
قطاطة: الجميع في حالة انتظار لأن المبادرة كلها بيد الرئيس
من جهته، اعتبر النائب عن "التيار الديمقراطي"، سالم قطاطة، أن "التيار كان متفاعلاً مع تطور الأحداث منذ خطاب 25 يوليو، وبحث مواقفه تباعاً في مؤسسات التيار المختلفة ونشرها للعموم، وهناك من الأحزاب الأخرى من حاول أن يبادر ويقدم مقترحات لخريطة طريق، ولكن الجميع عموماً في حالة انتظار، لأن المبادرة كلها بيد الرئيس. البعض ينتظر بتفاؤل، وآخرون بتشاؤم، بشأن المستقبل السياسي للبلاد، أو ربما متخوفون من عودة الديكتاتورية وتجميع السلطات في يد واحدة". وكان القيادي في ائتلاف الكرامة، النائب عبد اللطيف العلوي، كتب على صفحته بموقع "فيسبوك" أخيراً: "سألني الكثيرون: أين ائتلاف الكرامة؟ فأجبت: نحن هنا، عبّرنا عن موقفنا الرافض للانقلاب في بيانات رسمية وفي تدخلات إعلامية، ويوم 26 (يوليو) كنا أمام البرلمان. وهذا السؤال يُطرح على كامل الشعب التونسي، وعلى أحزابه وعلى منظماته وعلى نخبه وكل مكوناته". وأضاف العلوي: "هناك أشياء لا ينفع معها الخطابات ولا الشعارات ولا البطولات ولا الفروسية، أشياء تحتاج فيها الشعوب فقط إلى الزمن، وإلى المحن، وإلى الكي بالتجربة، وكل ما نحتاجه الآن هو أن نتوقف قليلاً عن النباح، وأن نغمض أعيننا ونسترخي تماماً، ونحن نستمع بكل جوارحنا إلى أغنية أم كلثوم حسيبك للزمن".
ويعكس المشهد خلال الأسابيع الماضية هشاشة المنظومة الحزبية في تونس، من دون إغفال أن بعض الأحزاب تنتظر أن تُصفى الحسابات مع الغريم، أي حركة النهضة، على يد قيس سعيد، وأن تحقق مكاسب من إضعاف الحركة وربما إخراجها من المشهد. ولكن الثابت أن سعيّد يعامل كل الأحزاب وينظر إليها من المنظار نفسه، فقد كان أكد مراراً أن "الأحزاب مآلها الاندثار، وهي مرحلة وانتهت في التاريخ".
وفي حوار مع صحيفة "الشارع المغاربي"، قبل أن يصبح رئيساً، قال سعيّد: "لا يمكن أن أبيع الوهم"، وتساءل: "الأحزاب ماذا تعني؟ جاءت في وقت معين من تاريخ البشرية وبلغت أوجها في القرن الـ19، ثم في القرن 20، ثم صارت بعد الثورة التي وصلت عن طريق وسائل التواصل والتكنولوجيات الحديثة، أحزاباً على هامش الدنيا في حالة احتضار. ربما يطول الاحتضار، لكن بالتأكيد بعد سنوات قليلة سينتهي دورها". وعن سؤال "هذا يعني في صورة فوزك في الانتخابات الرئاسية ستحذف الانتخابات التشريعية؟"، يجيب سعيّد في الحوار نفسه "نعم، والتعديلات ستشمل أن يكون البناء قاعدياً؛ ينطلق من المحلي نحو المركز"، موضحاً أنه سيكون "هناك انتخابات محلية تنتخب منها مجالس محلية، وبالاقتراع يتم تشكيل مجلس جهوي، ويتم اختيار نواب من المجالس المحلية ولن تكون هناك انتخابات مباشرة للبرلمان". واعتبر سعيّد أن "الديمقراطية النيابية في الدول الغربية نفسها أفلست، وانتهى عهدها".
كل التجارب السابقة على مدى عامين تقريباً، أكدت أن سعيّد لا يريد أن يتعامل مع الأحزاب
وإذ يبدو مشروع سعيّد بخصوص المنظومة السياسية والحزبية واضحاً في ذهنه منذ البداية، ولم يفاجئ به أحداً، فإن الغريب أن بعض الأحزاب لا تزال تبحث عن غنيمة ممكنة واستفادة من الوضع، إذ يدعي بعضها قربه من الرئيس، فيما ركب آخرون متأخرين في القطار الجديد، في حين أن كل التجارب السابقة على مدى عامين تقريباً، أكدت أن سعيّد لا يريد أن يتعامل مع الأحزاب، فهو لا يستشيرها ولا يتحدث معها. وحتى عندما أراد احترام الشكليات الدستورية، طلب منها أن تقدّم ترشيحاتها لرئاسة الحكومة عن طريق مكتب الرئاسة، ثمّ لم يأخذ بأي منها. غير أنّ ما يطرح اليوم لا يتعلق بحكومة عابرة أو قضية ثانوية، وإنما بمستقبل بلد ومستقبل ديمقراطيته.
وحول الوضع الذي بات عليه المشهد الحزبي في تونس، اعتبر القيادي في حزب "قلب تونس"، فؤاد ثامر، أن "الأصل، هو أن الحياة السياسية تقوم على الأحزاب، وهي ملجأ كل من يريد خدمة الصالح العام. والديمقراطية الحقيقية هي تلك القائمة على أحزاب قادرة على استيعاب نبض الشارع وترجمته، لكن للأسف في تونس واقع الأحزاب كان مختلفاً. واتضح بالممارسة، أن الأحزاب لم تكن مؤثرة لناحية تأطير المطالب الشعبية، وكان دورها يقتصر على تبني المطالب من دون ترجمة منهجية على مستوى الخطاب والقرار السياسي والتغييرات الجذرية التي حصلت خلال العشرية الأخيرة. فالأحزاب لم تكن في 14 يناير/ كانون الثاني 2011 (الثورة التونسية) ولا في 25 يوليو 2021 حاضرة، عكس ما حصل في 2013 إذ نجحت في التأطير والتعبير عن المرحلة، بل هي من كانت صاحبة الحل من خلال الحوار الوطني آنذاك".
وتساءل ثامر، في حديث مع "العربي الجديد": "لماذا نجحت الأحزاب في 2013 وفشلت في 2021؟"، مشيراً إلى أن "هناك فتوراً اليوم وبهتة غير مفهومة من الجميع، حكماً ومعارضة، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات عن مستقبل العمل الحزبي في تونس". وأكد ثامر في الوقت نفسه: "نحن نعتقد أنه لا مناص من المحافظة على دور الأحزاب السياسية حتى تكون الديمقراطية سليمة، ونعتقد أنه لا وجود لديمقراطية في غياب ممثل عن الشعب، ولا مفر من المحافظة على سلامة البناء الديمقراطي الحزبي، على هشاشته. وحتى تكون ديمقراطيتنا سليمة، وجب تدعيم المشهد الديمقراطي وتعزيزه وليس تقويض أسسه". ولفت إلى أن "هناك إشكالاً في صلب المجتمع، ويعني مباشرة أهم مكوناته وهم الشباب، إذ إن أغلب شباب اليوم، إن لم أقل كلهم، غير منتظمين ولا تابعين ولا متحزّبين، وبالتالي لا أحد يمكنه حقيقة تمثيلهم والتعبير عن طموحاتهم وانشغالاتهم ورؤيتهم للحاضر قبل المستقبل".
وأوضح ثامر: "نحن أمام شباب يرون السياسة والسياسيين، سراقاً ومحتالين، فتكوا بحقهم في العيش برفاه، وبالتالي لا يمكن بهكذا منظومة حزبية، وهكذا سياسيين استيعاب هذه الشريحة وإعادة ثقتها في ممثلي الأحزاب". وأضاف ثامر: "نحن بصدد التفاعل مع كل هذا، وبصدد القيام بمراجعات في اتجاه إعادة تفعيل دور حزبنا في تأطير الشباب والأنصار"، معتبراً أنّ "العمل الحزبي والتعددية والديمقراطية اليوم على المحك، ويجب مقاومة محاولات فرض الرأي الواحد على حساب التعددية والتشاركية السياسية، وأدعو الشباب إلى المشاركة في الحياة السياسية مباشرة عبر الانتظام بالأحزاب، وعليهم أن يكونوا هم المتصدرون وهم القادة والمفكرون إذا كانت الديمقراطية والحرية لا تزال تعني شيئاً طبعاً".
الغربي: صمت حركة النهضة مقصود واختياري
في السياق، قال المحلل السياسي قاسم الغربي، إن حالة الجمود التي تعيشها الأحزاب التونسية "تعود لأسباب هيكلية، ولأنها أحزاب انتخابية في أغلبها، لا وجود لها على أرض الواقع بين الناس، باستثناء حزب أو اثنين". وأضاف الغربي في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "فضاء الأحزاب الوحيد الذي كانت تتحرك فيه، وهو البرلمان، وتخاطب من خلاله الناس، فُقد منها".
وأوضح الغربي أن "تحرّك سعيّد لم يكن مفاجئاً، وكان الجميع يتوقع أن يتجه نحو تغيير المشهد، ليس بهذه الطريقة بالضرورة ولا بالقرارات التي اتخذها تحديداً، على غرار تجميد عمل البر لمان مثلاً، ولكن كان منتظراً أن يتحرك وجرى الحديث من قبل عن تفعيل الفصل 80 من الدستور". وأشار الغربي إلى أنه "على الرغم من ذلك، وباستثناء حركة النهضة والحزب الدستوري الحر، فإن أغلبية الأحزاب أصابها الجمود بعد قرارات سعيّد، وحتى حركة النهضة لم تنجح في إقناع أنصارها يوم 26 يوليو بالاحتجاج على قرارات الرئيس". ولفت إلى أن "غالبية الأحزاب تقوم على شخص واحد، ولذلك لم تبرز على الساحة إلا مواقف فردية لشخصيات وليس لأحزاب، أو تحركات للمجتمع المدني، ونرى مثلاً أن حزب مثل قلب تونس، الذي أسسه نبيل القروي، غائب تماماً على الرغم من أنه حصد في الانتخابات 38 مقعداً في البرلمان". واعتبر الغربي أن "صمت حركة النهضة مقصود واختياري، لأن كل موقف سيحسب على أساس أنها رأس الحربة الذي يقود الصراع مع مشروع قيس سعيد، مما يخلق حالة استقطاب ثنائية جديدة بينها وبينه".