تتواصل الأزمة في سريلانكا رغم فرار الرئيس غوتابايا راجاباكسا إلى المالديف، وإعلان حالة الطورئ في البلاد، حيث اقتحم محتجون مكتب رئيس الوزراء رانيل ويكريمسينغه، الذي عيّن رئيسًا بالإنابة، بعدما فشل عناصر الشرطة والجيش في صدّهم على الرغم من إطلاق الغاز المسيل للدموع واستخدام خراطيم المياه.
عقب هذه التطورات، أمر رئيس الوزراء السريلانكي الجيش والشرطة بـ"اتّخاذ ما يلزم من تدابير لإعادة إرساء النظام"، قائلا إن المتظاهرين "يريدون منعي من تولي مسؤولياتي بصفتي رئيسا بالإنابة"، مضيفا "لا يمكن أن نسمح لفاشيين بالسيطرة" على السلطة.
وعصفت "أزمة ثلاثية الأبعاد" بهذا البلد الآسيوي الذي يقع جنوب شبه القارة الهندية، حيث ضربت هذه الأزمة الاقتصاد السريلانكي، مما تسبب في انفجار اجتماعي انعكس مباشرة على المشهد السياسي بعد الاحتجاجات الشعبية العارمة التي اجتاحت كل المدن السريلانكية، وخاصة العاصمة كولومبو.
ووسط هذا المشهد الفوضوي الذي يعصف بسريلانكا، يبدو أن السؤال الأكثر إلحاحاً هو كيف وصلت سريلانكا لهذا الوضع؟
تنطلق القصة منذ 21 أبريل/ نيسان سنة 2019، حيث قام انتحاريون ينتمون لـ"جماعة التوحيد الوطنية" وهي فصيل متطرف يتبع لتنظيم "داعش"، بمهاجمة ثلاث كنائس مسيحيَة وخمسة فنادق بعدة مدن في سريلانكا، مما تسبب في مقتل 279 شخصاً بينهم 45 أجنبياً، وهو ما شكل ضربة قاصمة لقطاع السياحة السريلانكي الذي يعد عماد اقتصاد هذه الجزيرة الواقعة في المحيط الهندي، إذ يشكّل 12 في المائة من الناتج الداخلي الخام، ويشغل قرابة مليوني عامل، من جملة 23 مليون نسمة هو تعداد سكان هذا البلد.
من أزمة الاقتصاد إلى أزمة السياسة
ولم تكف "جائحة" الإرهاب التي تسببت في تراجع القطاع السياحي، حتى انطلقت جائحة كورونا لتزيد الطين بلّة، ويزداد تراجع الاقتصاد مع إجراءات العزل التي اتخذتها أغلب دول العالم.
وليس هذا هو السبب الوحيد وراء الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها سريلانكا، بل يبدو أن الاقتصاد السريلانكي مرّ بأزمة هيكلية أثرت على الميزانية العامة مع تدهور الميزان التجاري وعجزه المستفحل عاماً بعد عام.
في هذا السياق يشير موقع التلفزيون البريطاني "بي بي سي"، إلى أن السلطات في العاصمة كولومبو اختارت، منذ انتهاء الحرب الأهلية سنة 2009، التوجه نحو توفير البضائع للسوق الداخلية، ولم تفكر في الإنتاج وتصدير السلع إلى الخارج ومحاولة افتكاك أسواق خارجية، وهو ما أثر على الميزان التجاري بسبب ارتفاع قيمة الواردات، مقابل انخفاض قيمة الصادرات.
سياسات اقتصادية خاطئة
وفي مقابل ذلك، اتبع رئيس البلاد غوتابايا راجاباكسا، سياسة التخفيض من الضرائب منذ سنة 2019، وهو ما تسبب في خسائر كبيرة للميزانية العامة للبلاد قدرت بـ 1.4 مليار دولار سنوياًٍ حسب تصريحات وزير المالية علي صبري لقناة "بي بي سي".
كل هذه العوامل أدت مباشرة إلى إفراغ خزينة الدولة من احتياطات النقد الأجنبي، من 7.6 مليارات دولار سنة 2019 إلى 50 مليون دولار فقط بحلول هذه السنة، مقابل ارتفاع ديون الجزيرة إلى أن بلغت قرابة 51 مليار دولار في أبريل/نيسان من هذه السنة، إضافة لبلوغ نسبة التضخم لأكثر من 50 في المائة، وهو ما يعني ارتفاعا مهولا لأسعار البضائع، خصوصًا منها الوقود والدواء والطعام التي لم تعد موجودة بكثرة في هذا البلد، لاسيما مع عدم تمكن الدولة من سداد فاتورة الاستيراد مع خلو الخزينة من العملات الأجنبية.
هذا التراجع الكبير في المؤشرات الاقتصادية العامة في البلاد أدى من جهته، إلى ازدياد الأزمة الاجتماعية قتامة، حيث يعيش السريلانكيون منذ أشهر في ظلّ نقص الغذاء والدواء وانقطاع التيار الكهربائي، بسبب نقص الوقود الذي يحدّ أيضاً من التنقّل.
وحسب وكالة "فرانس برس"، فإن التضخّم المتسارع، والذي حددته الوكالة بـ 55 في المائة في يونيو/حزيران، يجعل من المتعذّر الحصول على الأشياء القليلة التي لا يزال العثور عليها ممكناً. وحذرت الأمم المتحدة من أن البلاد تواجه خطر أزمة إنسانية كبيرة.
وأشارت صحيفة "واشنطن بوست" إلى أن مسحاً أجرته الأمم المتحدة أكد أن حوالي 70 في المائة من الأسر في سريلانكا خفضوا استهلاكهم الغذائي.
وعلى الرغم من المساعدات من الهند ودول أخرى في أبريل/نيسان 2022، تخلّفت الدولة عن سداد ديونها الخارجية البالغة 51 مليار دولار، وتسعى إلى الحصول على خطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي.
كيف بدأت التظاهرات؟
كل هذه المؤشرات دفعت السريلانكيين للخروج إلى الشوارع والاحتجاج، والتوجه مباشرة إلى رئيس البلاد وتحميله المسؤولية المباشرة عما وصلت إليه البلاد، مما تسبب في دخولها في دوامة أزمة سياسية أطاحت بشقيق الرئيس (ماهيندا راجاباكسا) من منصبه كرئيس وزراء في مايو/أيار الماضي، كما تسبب في هروبه من منزله الخاص وإقامته الرئاسية التي حاصرها المواطنون قبل اقتحامها والاعتصام بها مطالبين راجاباكسا بالاستقالة.
وبالرغم من محاولات الرئيس راجاباكسا التضحية بأخيه، بغاية تخفيض مستوى التصعيد الاحتجاجي في الشارع، وتعويضه بالنائب المعارض رانيل ويكرمسينغ رئيساً للحكومة، إلا أن المحتجين أشاروا مباشرة إلى عائلة راجاباكسا بأصابع الاتهام.
هذه العائلة التي سيطرت على الحياة السياسية في سريلانكا منذ عقدين، وتمسكت بالسلطة إلى آخر رمق، وحسب صحيفة "واشنطن بوست" فقد تمكن ماهيندا راجاباكسا (شقيق الرئيس الحالي) خلال فترة رئاسته الممتدة من سنة 2005 إلى سنة 2015 من إنهاء الحرب الأهلية في الجزيرة التي استمرت 26 عامًا في سريلانكا في عام 2009 وسحق تمرد نمور التاميل، في وقت شغل فيه أخوه غوتابايا وزيراً للدفاع حيث اتهم بانتهاك حقوق الإنسان، فيما كان شقيقهم الأكبر شامال رئيساً للبرلمان وشقيق آخر وهو باسيل وزيراً في الحكومة.
وقد تمكنت هذه العائلة من لعب ورقة المخلص من جحيم الحرب الأهلية على أكمل وجه وزادت في التغول السياسي في أجهزة الدولة السريلانكية، وهو ما استغله الأخوان راجاباكسا في الدخول في لعبة "تبادل الأدوار السياسية" بعد فوز الرئيس الحالي بالرئاسة سنة 2019، وتعيين شقيقه ماهيندا (الذي كان رئيساً للبلاد بين سنتى 2005 و2015) رئيساً للوزراء.
وحاولت العائلة في سنة 2015 أن تقوم بتعديل دستوري يمنح ماهيندا الرئاسة لمدة ثالثة، ولكنه لم يتمكن من ذلك.
فساد العائلة
وكانت صحيفة "نيويورك تايمز" عنونت مقالاً لها في سنة 2021 بـ"في سريلانكا.. الحكومة تبدو كشركة عائلية"، في توصيف لتغلغل العائلة في أجهزة الدولة ومؤسساتها.
وأشارت الصحيفة إلى أن 3 أشقاء للرئيس غوتابايا راجاباكسا ونجلين من أبناء أخيه يحتلون مناصب هامة في الدولة، مضيفة أنه منذ أن تم انتخاب غوتابايا رئيساً "ختمت عائلة راجاباكسا اسمها على حكومة سريلانكا بشكل بدت وكأنها شركة عائلية"، عزز من ذلك تعيين شقيق للرئيس غوتابايا، باسل راجاباكسا، وزيراً للمالية.
وأكدت الصحيفة الأميركية أن غوتابايا راجاباكسا الذي عين نفسه كذلك وزيراً للدفاع بعد استلامه للسلطة، قام بتعيين شقيقه ماهيندا رئيساً للوزراء ومنحه فوق هذا المنصب حقيبتي الشؤون الدينية والتنمية، وعين الأخ الأكبر شامال راجاباكسا وزيراً للري ومنحه معها وزارة الدولة للشؤون الداخلية والأمن القومي وإدارة الكوارث.
هذا الأمر، امتد حتى شمل الجيل الثاني لآل راجاباكسا، حيث عيّن نامال نجل ماهيندا وزيراً للشباب والرياضة، ووزير دولة للتكنولوجيا الرقمية وتطوير المؤسسات، كما عين ابن شامال "شهيندرا راجاباكسا"، وزيراً الدولة مكلفاً بالأرز والحبوب والأغذية العضوية والخضروات والفواكه والفلفل الحار والبصل والبطاطا وإنتاج البذور والزراعة عالية التقنية.
ويبدو أن تمكن هذه العائلة من أروقة وكواليس صنع السياسة، قد جرّها إلى مزاعم حول تورطها في شبهات فساد، إذ تشير صحيفة "واشنطن بوست" إلى وثائق مالية مسربة ضمن تحقيق "أوراق باندورا" سنة 2021، أثبتت أن ابنة أخت الأخوين راجاباكسا قامت بإخفاء ملايين الدولارات في حسابات خارجية، فيما أشار تلفزيون "بي بي سي" إلى ما "تراكم على الحكومة من ديون ضخمة مع دول من بينها الصين، لتمويل ما وصفه النقاد بمشاريع البنية التحتية غير الضرورية"، وهو ما يفتح الباب أمام شبهات بالتورط في الفساد من أعلى هرم الدولة، وهم في هذه الحالة من عائلة راجاباكسا.
بطاقة تعريف
سريلانكا، والتي كانت تسمى بين 1948 و1972 باسم سيلان، هي جزيرة تقع في شمال المحيط الهندي جنوب شبه القارة الهندية، في جنوب آسيا، وتوصف بأنها لؤلؤة المحيط الهندي. لسريلانكا حدود بحرية، شمالاً، مع الهند، التي تبعد عنها حوالي 31 كيلومتراً، ومع جزر المالديف، في جنوبها الغربي.
احتلت من قبل بريطانيا سنة 1815 ونالت استقلالها سنة 1948، وعانت من حرب أهلية طويلة امتدت على 25 سنة، من سنة 1983 إلى سنة 2009، بين متمردي نمور التاميل الانفصاليين والجيش السريلانكي.
ويدين 70 في المائة من سكان الهند (1.38 مليار) بالبوذية والباقي موزع بين الهندوسيين بنسبة 12 بالمائة والمسلمين 10 في المائة والكاثوليكيين 6 في المائة والبروتستانتيين 1 في المائة.
عرقياً يشكل السنهاليون غالبية السكان بـ 75 في المائة، إضافة إلى التاميل 11 في المائة.