منذ بروز ظاهرة التسويات في سورية، بعد التدخّل الروسي الذي هندس معظمها، يعمد النظام السوري دائماً على الالتفاف عليها، لكن أسلوبه بالتحايل بات يتخذ منحى مختلفاً. ولم يعد خافياً وضع النظام خطة لسحب السلاح الفردي من يد المقاتلين السابقين في المعارضة، الذين رضخوا للتسويات عبر تسليم السلاح الثقيل للروس والنظام مقابل إبقاء السلاح الفردي معهم. وتشمل خطته معظم المناطق التي شهدت تسويات، لا سيما في محافظتي درعا والقنيطرة. وضمن هذا السياق، يندرج الحصار المفروض من قبل قوات النظام والمليشيات المدعومة من إيران على العديد من المناطق في درعا، مع مطالبة النظام العديد من عناصر الفصائل بتسليم سلاحهم الفردي مقابل عدم اقتحام تلك المناطق، وفرض مزيد من الحصار عليها.
وبات النظام يصدر يومياً لوائح لأشخاص يتهمهم بحيازة السلاح، مشترطاً تسليم سلاحهم مقابل تسوية وضعهم الأمني وإيقاف الملاحقة بحقهم. وعلى الرغم من أن العديد من الشبان في درعا، من المدرجة أسماؤهم في قوائم المتهمين بحيازة السلاح أيضاً، لا يملكون أي نوع من السلاح، إلا أن إدراج النظام أسماءهم وطلبهم للتسوية وتسليم بندقية مقابلها، يشي بلجوئه لإفراغ المناطق الجنوبية من السلاح، بأي شكل. مع العلم أنها مناطق ترفض الانصياع لفكرة السيطرة المطلقة للنظام عليها، وفرض سطوته مجدداً من خلال التفرد بالقوة والهيمنة.
لم تقتصر مطالبات النظام على درعا بل طالب 20 شاباً من أبناء بلدة الهامة بتسليم سلاحهم الفردي
ولم تقتصر مطالبات النظام على درعا، بل طالب 20 شاباً من أبناء بلدة الهامة، غربي دمشق، بتسليم سلاحهم الفردي، مقدماً تقارير أمنية تفيد بامتلاكهم السلاح. وخضع الشبان للتسوية الجديدة بتسليم السلاح، على الرغم من إبرام تسوية لمقاتلي المعارضة في البلدة في عام 2016. لكن لجنة المصالحة التابعة للنظام في الهامة، تعمد دائماً إلى إجراء تسويات جديدة، بذريعة بقاء السلاح بين أيدي بعض العناصر السابقين في الفصائل.
وفي ريف القنيطرة، الذي خضع للتسوية مع درعا في عام 2018، كان الحال مشابهاً نوعاً ما، حين أقدم النظام على افتعال مشاكل أمنية في محيط البلدة ليبرر المطالبة بتسليم مطلوبين مع سلاحهم، وانتهى الأمر بتهجير 30 عائلة من عائلات المطلوبين نحو الشمال السوري في مايو/أيار الماضي.
وفي بلدة كناكر، التي تتوسط الطريق بين درعا ودمشق، وتتبع إدارياً لمحافظة ريف دمشق، لجأ النظام لابتزاز أهالي موقوفين بتهم جنائية، لا تتعلق بمشاكل أمنية أو سياسية، بتقديم قطعة سلاح عن كل شخص يفرج عنه. وشهدت البلدة نهاية الشهر الماضي، التفاوض على إخراج خمسة شبان من البلدة مقابل مبلغ مالي وتسليم خمس بنادق، لتتم الصفقة بالإفراج عنهم.
ويشير مصدر من داخل لجنة بلدة درعا البلد، إلى أنه تمّ تسليم سلاح الفصائل بشكل كامل عقب إبرام التسوية صيف 2018، منوهاً إلى أنه بحكم طبيعة المجتمع العشائري في درعا، فإن وجود السلاح الفردي في كل بيت أمر اعتيادي ومتوارث وغير مقتصر على مظاهر المعارضة. ويضيف المصدر، في حديث مع "العربي الجديد"، أن هذا السلاح غير قابل للتفاوض على أي طاولة، مؤكداً أن سلاح الفصائل تم تسليمه للروس بوثائق لا يزالون يحتفظون بها إلى اليوم. ويلفت المصدر إلى أن مسألة سحب السلاح، ليست فكرة النظام بمفرده، معتقداً أنه لا يملك أمره لتطبيقها وتحقيقها، ويؤكد أن هذا المشروع هو مشروع إيراني تنفذه المليشيات المدعومة من إيران لتحقيق مزيد من التوغل الإيراني في الجنوب السوري.
وحول دور الضامن الروسي للتسوية من كل ذلك، ينوه المصدر إلى أن الروس دائماً ما يكون لهم موقف لصالح النظام، واصفاً الروس بأنهم "ضامن غير نزيه". وينوّه إلى أن المسؤول الروسي عن ملف التسويات في درعا، تسلّم الملف حديثاً من قرابة الشهر ونصف الشهر، ولا دراية كافية له بملف حوران ودرعا والتسوية عموماً.
ويكشف المصدر كذلك بأنهم تسلموا في اللجنة رسالة من الروس تطالبهم بتسليم 200 بندقية، و20 قطعة رشاش من نوع "ب ك س"، مقابل حل المليشيات المحلية التي تتبع للنظام وسحب سلاحهم الفردي، مؤكداً أن الجواب: "نريد الأمن والأمان والاستقرار، ولا نملك السلاح". ويضيف أن اللجنة المركزية لمحافظة درعا طلبت منهم في لجنة درعا البلاد الذهاب للتفاوض مع النظام لفك الحصار، مشيراً إلى أن الرد كان بعدم القبول بالتفاوض قبل رفع الحصار عن درعا البلد، وفتح جميع المعابر والمداخل إليها.
من جهته، يرى المحلل العسكري العميد فاتح حسون أن "لجوء النظام لسحب السلاح، يكمن في تخوّفه من استخدام هذا السلاح لإخراجه من الجنوب أو بعض مناطقه، لا سيما مع بقاء روح المعارضة لدى السكان والعناصر السابقين في المعارضة. وتكمن الخشية في خطورة تنظيم الصفوف والقيام بعملية تحرير هذه المناطق مرة أخرى، بالإضافة للتخوف في زيادة وتيرة أعمال المقاومة وحرب العصابات التي نشهدها في تلك المنطقة بين فترة وأخرى".
السلاح الفردي غير قابل للتفاوض على أي طاولة
ويضيف حسون، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "هذه الأسباب ربما تكون هي الجزء المعلن من الموضوع"، مشيراً إلى أن "الأسباب الأبعد والأعمق تكمن في خشية النظام من إعادة دعم عناصر فصائل المعارضة في جنوب سورية الذين خضعوا للتسويات والمصالحات، من قبل المتضررين من الوجود الإيراني هناك. والحديث هنا عن الولايات المتحدة التي تتلقى ضغوطاً إسرائيلية كبيرة في هذا الخصوص، بعد فشل الروس في إبعاد إيران ومليشياتها عن الجنوب السوري، بعد التسوية".
ويعتبر أن "النظام يكون غبياً إذا اعتقد أنه يستطيع سحب السلاح من الجنوب، فعمليات التخبئة والمناورة لعدم تسليمه كاملاً كانت قائمة من قبل المعارضة هناك، منذ مدة طويلة، وحتى السلاح الثقيل لم يسلم كاملاً. وهذا ليس بمعرض إفشاء أسرار عسكرية، وإنما هذا واقع يعرفه النظام والروس والإيرانيون، واللجوء للتصعيد لسحب السلاح سيقابله مقاومة". ويعتقد حسون أن "النظام حالياً في عنق الزجاجة في جنوب سورية، وقد يكون هناك توجّه غربي لإعادة تفعيل الجبهة الجنوبية من خلال دعم المعارضة، بعد فشل روسيا بإنهاء تموضع المليشيات المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني هناك".
وأخضع الروس درعا والقنيطرة والعديد من مناطق ريف دمشق وحمص الشمالي للتسويات، بعد الضغط العسكري عليها سواء بالعمليات الدموية وارتكاب المجازر أو فرض الحصار المطبق على كل منها على حدة، لتضطر الفصائل في تلك المناطق للقبول بالتسوية بشروط تختلف بين منطقة عن أخرى. ففي درعا كان الاتفاق على بقاء السلاح الفردي مع عناصر الفصائل، أما في حمص وريف دمشق لم يكن هذا الخيار متاحاً. وعموماً رفض الكثير من العناصر التسوية ليتم تهجيرهم مع عائلاتهم نحو مناطق الشمال السوري الخاضعة لسيطرة المعارضة في كل من ريفي حلب وإدلب، ومن تبقّى منهم يتعرضون بشكل يومي للضغط والتهديدات الأمنية من خلال الملاحقة أو الاغتيال، في طريق لإنهاء كافة المظاهر المعارضة في مناطق التسويات، لا سيما في الجنوب السوري.