انتهت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر، من دون أن يحمل الأخير الكثير في جعبته، لتبدو مخرجات الزيارة أقل بكثير مما كان متوقعاً لها، إذ لم توقّع اتفاقات شراكة ولم تصدر تفاهمات توحي بوجود تغيّر إيجابي في العلاقات بين البلدين، بقدر ما ظهر أن المسافة ما زالت متباعدة.
ملفات عالقة بين فرنسا والجزائر
ولم تسعف السياقات المحلية والإقليمية هذه المرة ماكرون في تحقيق منجز نوعي في زيارته التي دامت ثلاثة أيام إلى الجزائر. فجملة الملفات التي أُريد أن تتم معالجتها خلال هذه الزيارة وتجاوز تداعيات الأزمة السياسية السابقة، لم يتم حسمها، وظلت معلّقة بانتظار مزيد من التفاهمات.
التاريخ والذاكرة بدا أكثر الملفات التي تتباعد فيها المسافة بين البلدين
ملف التاريخ والذاكرة بدا أكثر الملفات التي تتباعد فيها المسافة والمقاربات بين البلدين، فبين ما يطرحه ماكرون من فكرة تشكيل لجنة مشتركة لمعالجة الملف، وبين ارتفاع سقف المطالب الجزائرية حول التاريخ الاستعماري، هامش كبير لم يتح التوصل إلى أي اتفاق واضح.
كما أن ملف التأشيرات بقي يراوح مكانه، بعد إعلان ماكرون تمسك باريس بسياستها الجديدة في منح التأشيرات الانتقائية لفئات معينة من الجزائريين، والتركيز على استقطاب الشباب أصحاب الأفكار والمشاريع.
أما ملف الغاز، فظل بعيداً عن النقاش، بحسب ما أعلن عنه ماكرون، فيما لم يحظ الشق الاقتصادي بالكثير من النقاش، إذ لم يتم عقد اتفاقات ذات بُعد اقتصادي وتجاري تعطي أهمية لهذه الزيارة. ويعود ذلك بالأساس إلى أن الجزائر حسمت خياراتها وشراكاتها الاقتصادية الجديدة مع أقطاب ومحاور أكثر استجابة للاستحقاقات والحاجات الاقتصادية لها، وبما يتماشى مع الخطط الجديدة التي ترسمها لبعث اقتصادها الجديد، وتقليص حجم النفوذ الفرنسي في البلاد.
وفي المحصلة، بدا أن مخرجات زيارة ماكرون هي الأضعف مقارنة مع مجموع الزيارات السابقة للرؤساء الفرنسيين إلى الجزائر. ما يعزز هذا الاعتقاد، تعمّد السلطات الجزائرية ضخ مزيد من الرسائل ذات الرمزية السياسية، بشأن الإصرار على إحداث قطيعة جدية مع النفوذ الفرنسي في الجزائر.
واتضح ذلك من خلال جملة مشاهد وتعبيرات سياسية؛ بداية من تغييب اللغة الفرنسية للمرة الأولى من محطات الزيارة، بما في ذلك ضمن المؤتمر الصحافي لماكرون مع الرئيس عبد المجيد تبون الذي تحدث باللغة العربية.
كما حثت السلطات مجموع الشباب أصحاب المشاريع الناشئة، على الحديث باللغة العربية أو الإنكليزية حصراً، خلال لقائهم بماكرون، في سياق يتماشى مع قرار سيادي بالبدء في تدريس اللغة الإنكليزية وإبعاد اللغة الفرنسية إلى صفوف متأخرة.
مباحثات أمنية بين تبون وماكرون
خارج هذه الملفات، كان للسلطات الجزائرية اهتمام أساسي آخر، يخص ملف التنسيق الأمني وتسليم مطلوبين للقضاء الجزائري تحتضنهم باريس، وتعتبر الجزائر أنهم يقومون بأعمال تحريضية ضدها، كقيادات حركة "الماك" التي تطالب بانفصال منطقة القبائل، ونشطاء حركة "رشاد"، وهما حركتان تصنفهما السلطات الجزائرية تنظيمات إرهابية. إضافة إلى مطالبتها بتسليم مسؤولين أمنيين وعسكريين جزائريين فارين من العدالة، وهو ما استدعى عقد اجتماع ذي طابع أمني غير مسبوق، للمرة الأولى منذ الاستقلال، بين تبون وماكرون، ضم مسؤولي الأجهزة الأمنية للبلدين، بهدف مناقشة ملفات أمنية حساسة بالنسبة للجزائر، تخص التنسيق الأمني.
وأفاد بيان للرئاسة الجزائرية، أن الاجتماع حضره عن الجانب الجزائري الفريق أول سعيد شنقريحة، رئيس أركان الجيش، والمدير العام لمكافحة التخريب والمدير العام للأمن الداخلي والمدير العام للوثائق والأمن الخارجي. أما عن الجانب الفرنسي، فحضره سيبستيان لوكورنو، وزير الجيوش الفرنسية، والفريق أول تييري بوركار رئيس أركان الجيوش، وكذا المدير العام للأمن الخارجي.
ويفهم من انعقاد هذا الاجتماع أن الجزائر تعتبر أن تجاوب باريس مع المطالب الجزائرية، سيحدد طبيعة الموقف الفرنسي ومستوى التعاون مع الجزائر، على الرغم من تحجج باريس باستقلالية العدالة لرفض الاستجابة لمطالب الجزائر الأمنية.
وفي السياق، قال الباحث المتخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية عمار سيغة، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "هناك تنازلات ملزمة باريس بتقديمها، حتى تمر العلاقات الثنائية إلى مرحلة جديدة، وفق قاعدة المصالح المشتركة، ومن بينها ما يتعلق بملف المطلوبين".
ولفت إلى أن "فرنسا تدرك أن مصالحها الاقتصادية في الجزائر تراجعت بشكل ملحوظ بعد سقوط نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وتدرك كذلك جيداً حجم الجزائر وتأثيرها في الوقت الراهن على صعيد القضايا الإقليمية، خصوصاً بعد تعافي سياستها الخارجية في أعقاب الحراك الشعبي وقدوم رئيس منتخب، وهو تغيير قاد الجزائر إلى إعادة ترتيب بيتها الداخلي، وكذا إعادة ترتيب علاقاتها الخارجية، ومن ضمن ذلك العلاقات مع الطرف الفرنسي".
باريس ملزمة بتقديم تنازلات حتى تمر العلاقات إلى مرحلة جديدة
ملف التاريخ والذاكرة في العلاقات الفرنسية الجزائرية
وسمح إلغاء تبون سفره إلى تونس للمشاركة في قمة "اليابان ــ أفريقيا" المنعقدة بتونس (بعد الإعلان عن تغيّب رئيس الحكومة اليابانية فوميو كيشيدا) لماكرون بإجراء تغيير طفيف على برنامج اختتام زيارته الذي كان مقرراً أن يكون من وهران باتجاه باريس. إذ تقرر أن يعود الرئيس الفرنسي إلى العاصمة الجزائرية للتوقيع على بيان مشترك حول الزيارة، يتضمن الملفات التي تمت مناقشتها والتعبير عن الرغبة في علاقات جدية.
لكن تنفيذ التفاهمات ما زال بحاجة إلى مزيد من الحوار السياسي بين البلدين، خصوصاً مع وجود معوّق مركزي يتعلق بملف الذاكرة والتاريخ والذي ما زال يسيّج العلاقات بين الجزائر وفرنسا، ويحدد إلى حد كبير نتائج الزيارات، على الرغم من وجود ملفات أخرى بالغة الأهمية. وظهر هذا الملف بوضوح في المؤتمر الصحافي المشترك بين تبون ونظيره الفرنسي والذي دام 19 دقيقة.
كما أن أغلب التصريحات التي أدلى بها الرئيس الفرنسي خلال ثلاثة أيام من زيارته، تركزت في أغلبها على نطاق ملف الذاكرة الذي أخذ القسط الأهم من الانشغالات السياسية في الجزائر. وتبدو المطالب التاريخية للجزائر في حالة تصاعد، بخلاف المقاربة التي يطرحها ماكرون، من خلال دعوته الجزائريين إلى تجاوز الماضي والنظر إلى المستقبل.
في الإطار، اعتبر الكاتب وأستاذ التاريخ في جامعة خميس مليانة، غربي الجزائر، أحمد بن يغرز، أنه "من المبكر الحكم على مخرجات الزيارة"، مشيراً في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن هذه الزيارة "أظهرت بوضوح أن ملف الذاكرة ما زال معقداً ومتحكماً في الاتجاهات الكبرى للعلاقات الجزائرية الفرنسية".
وقال بن يغرز إنه "لا يمكن الجزم بأنه تم الكشف عن كل مخرجات زيارة الرئيس الفرنسي للجزائر، وقد تعودنا في مثل هذه الزيارات ألا نتعامل مع التصريحات والمواقف المُعلنة التي تُقدم على أنها تُعبر عن كل شيء. وحتى التصريحات التي رافقت الزيارة كانت تبدو محسوبة بشكل دقيق من الطرفين، وكأن هناك حرصا غير طبيعي على تجنّب أي خروج على النص، تجنباً لكل تأويل غير متوقع".
ورأى بن يغرز أن "هناك حالة جمود في ملف التاريخ والذاكرة، فلا جديد يُعتد به على مستوى هذا الملف، وربما يكون من المهم أن تنتظر الجزائر مبادرة الطرف الآخر للتحرّك على أساسها".
وتابع: "يبدو أنه ليس هناك أي جديد من الطرف الفرنسي، وكأن ماكرون يريد أن يقول إن حدوده في هذه المسألة اكتملت، وحتى فكرة تشكيل لجنة مشتركة من المؤرخين تبدو محاولة للقفز عن هذا الملف الذي تعتبره الجزائر محورياً في علاقتها مع فرنسا".