يجري الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون منذ أشهر سلسلة زيارات إلى الخارج، قادته حتى الآن إلى سبع عواصم عربية وإسلامية وغربية، فيما تجرى الترتيبات لزيارة مرتقبة له إلى موسكو في وقت لاحق، وأخرى مماثلة إلى بكين، إذ تُعد الصين شريكاً اقتصادياً وداعماً سياسياً للجزائر منذ عقود.
ويعطي ذلك انطباعاً بعودة الجزائر إلى حلفائها التقليديين والتاريخيين، لكن اللافت أن هذه الزيارات التي تضع العامل الاقتصادي والمصالح السياسية المشتركة في صدارة دوافعها تأتي في ظرف دولي حرج. كما تمثل إعادة هندسة لعلاقات الجزائر الحيوية، غير أنها تبرز مخاوف من ألا تؤدي الغرض منها على المدى المتوسط والطويل في ظل إكراهات داخلية.
أولوية الخارج على الداخل بالنسبة للسلطة الجزائرية
وتؤكد سلسلة الزيارات الخارجية المتتالية لتبون، والتي قادته في الفترة الأخيرة إلى كل من تركيا وإيطاليا، وسبقتها زيارات إلى كل من السعودية وتونس ومصر وقطر والكويت، وتليها زيارات لاحقة إلى كل من روسيا والصين، ثلاثة مؤشرات مهمة. أول مؤشر هو إعطاء السلطة السياسية في الجزائر أولوية الخارج على الداخل في مجال تطبيع العلاقات وهندسة الخيارات. وبخلاف سلسلة الزيارات الخارجية، لم يقم تبون حتى الآن بأي زيارة إلى الداخل والولايات الجزائرية، بعد ما يقارب الثلاث سنوات من تسلمه الحكم في ديسمبر/ كانون الأول 2019، وهو يطرح تساؤلات في فضاءات النقاش في الجزائر.
على المستوى الثاني، تؤكد الزيارات الرغبة الواضحة لدى الجزائر لإعادة هندسة علاقاتها الإقليمية والدولية على أساس الأولويات السياسية والاقتصادية، وإعادة ترتيب الشركاء على هذا الأساس، وتجاوز كامل لمشكلات القلق الدولي الذي يثار بين الفترة والأخرى حول المسألة الديمقراطية في الجزائر.
لم يقم تبون حتى الآن بأي زيارة إلى الداخل والولايات الجزائرية
ويدخل اعتبار ثالث يخص استغلال الجزائر لظرف دولي يتسم بخلط كبير وترتيبات جديدة للعالم والعلاقات الدولية، لاستعادة دورها الإقليمي، وإنهاء فترة من الانعزال الداخلي، طال منذ عام 2013. تلك الفترة اتسمت بانكماش الدور الإقليمي للجزائر في منطقتها الحيوية، استغلته أطراف أخرى كفرنسا للتمركز أكثر في المنطقة، خصوصاً في ليبيا والساحل، ووضع نفسها على الخريطة الدولية. هذا الأمر كان قد ألمح إليه بوضوح قائد أركان الجيش الجزائري الفريق سعيد شنقريحة قبل أيام بقوله "الحرص في المحصلة على ألا تعاد هيكلة العالم في كل مرة في غيابنا، وعلى حساب مصالحنا الحيوية، وعدم الاكتفاء بالاندماج السلبي في خريطة العالم الجديدة ونماذجها الاقتصادية والثقافية".
وفي السياق، قال عضو لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الجزائري، عبد السلام باشاغا، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "الظاهر من هذه الزيارات المتبادلة أنها منتقاة بدقة وبحسب طبيعة العلاقات الجيدة التي تربطنا بهذه البلدان منذ فترة طويلة، باعتبارها دول شقيقة وصديقة منذ زمن طويل". وأضاف: "كما أنها جاءت بشكل متبادل، فبعد زيارة كل من الرئيس التركي والإيطالي للجزائر، جاءت زيارات الطرف الجزائري لتعزز طبيعة هذه العلاقات القوية. وبالنسبة لموسكو أيضاً، وهذا التوجّه كان حتى قبل الأزمة الأوكرانية".
ولفت باشاغا إلى أن "السياسة الخارجية للجزائر حالياً تعمل على أن تكون البلاد فاعلة في محيطها الإقليمي بما تتمتع به من إمكانات ومن علاقات طيبة مع الجميع باستثناء الجار الغربي وأخيراً التوتر الإسباني الذي جاء امتداداً للوضع مع المغرب، وهذا جعل الجزائر تتوجه شيئاً فشيئاً نحو الشرق في إطار التوازنات الدولية، لكن من دون قطيعة مع باقي الأطراف". وأضاف: "هذا ما لاحظناه خلال الزيارات المتعددة الأطراف للجزائر من قِبل مسؤولين أميركيين وأوروبيين، وأيضاً زيارات وفود من حلف شمال الأطلسي"، لافتاً إلى أن "خطاب الجزائر كان يؤكد دوماً احترام الحلول السلمية ضمن المواثيق الدولية والابتعاد عن الازدواجية في التعامل مع الأحداث الدولية".
الجزائر نحو التخلص من تبعية اقتصاد النفط
لكن بعض المحللين يدرجون التحركات الدولية الراهنة للجزائر، ضمن سياق فرضته خيارات اقتصادية بالأساس بالنسبة للبلاد، عنوانه الرئيس التخلص من التبعية لاقتصاد النفط، والتوجه نحو اقتصاد متوازن. ولذلك كان يتعيّن توجيه البوصلة نحو دول أكثر تجربة في مجال اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة، إذ تطمح الجزائر إلى نسيج صناعي من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والبحث عن دول مرافقة للجزائر وتتسم العلاقات معها بأكثر عقلانية وأنفع على صعيد المصالح المشتركة، وبأقل جدل ممكن.
ورأى أستاذ العلوم السياسية في جامعة الجزائر، ادريس عطية، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "كل زيارات الرئيس تبون للخارج، سواء لإيطاليا أو تركيا وحتى زيارته إلى الصين، تتعلّق بالتوجهات الاقتصادية الجديدة للجزائر، لأن الجزائر تبحث عن تجاوز التعاون في مجال الطاقة في علاقاتها الخارجية، وتريد منهم مصاحبتها اقتصادياً وتكنولوجياً وصناعياً، لأن تحدي اكتساب التكنولوجية الصناعية هو الرهان الحقيقي بالنسبة للجزائر اليوم".
الجزائر تبحث عن تجاوز التعاون في مجال الطاقة في علاقاتها الخارجية
ولفت إلى أن "هناك هندسة جديدة لكبرى الخيارات الاستراتيجية للجزائر، خصوصاً أن الغرب مصمم على خلق حالة اللاتوازن في أفريقيا والعالم العربي، مع تخوّف أوروبا من التوازن الاستراتيجي مع دول جنوب المتوسط". وأكد أن "الجزائر جادة في مراجعة علاقاتها الإقليمية والدولية وفق ما تقتضيه مصلحتها الوطنية، لتصبح الصين الشريك الاقتصادي الأول لها، وروسيا الحليف التقليدي، وإيطاليا الحليف الاستراتيجي، وتركيا الشريك الجديد".
انعكاسات الواقع الداخلي المأزوم في الجزائر
غير أن الأبعاد والمكاسب السياسية والاقتصادية لهذه الزيارات، على صعيد تنويع الشركاء وتعزيز التعاون وتوفير سند تقني مساعد للخيارات الاقتصادية الجديدة التي يتبناها تبون، تبقى نسبية. فبالقدر الذي تأخذ هذه الزيارات تفسيرات سياسية واقتصادية في الجزائر، فإنها تطرح في الوقت نفسه مخاوف جدية من أن تكون هي الأخرى، تكراراً لما قام به الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة في ولايته الرئاسية الأولى. حينها زار بوتفليقة عدداً كبيراً جداً من الدول والعواصم الكبرى في مختلف القارات، من دون أن ينعكس ذلك جدياً بالفائدة الاقتصادية والسياسية، أو يضع الجزائر في مكانها الطبيعي، بسبب هشاشة الاقتصاد الداخلي الذي كان يعتمد على الريع النفطي، وفشل خطط الإصلاح الاقتصادي في البلاد.
الزيارات المتتالية لتبون إلى الخارج لا تلغي حقيقة واقع سياسي مأزوم في الداخل الجزائري
وقال الكاتب في الشؤون السياسية محمد ايوانوغان، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن هناك تجارب سابقة في مثل هذه السياقات، "وهذه الزيارات المتتالية للرئيس تبون إلى الخارج، قد تعني للسلطة شيئاً، لكنها لا تلغي حقيقة واقع سياسي مأزوم في الداخل الجزائري، وهو الأولى بأن تقر به السلطة وتضع خريطة طريق لحل أزمة الحريات والتغيير السياسي الحقيقي". وأضاف أن "السلطة تسعى لفك العزلة ولذلك تتوجه إلى دول حليفة لإسنادها ضد الضغوط الغربية"، لكنه رأى أن "الوضع الداخلي لا يجعل الجزائر في موقع يسمح لها باختيار شركائها، بل يضعها ذلك محل تنازلات ربما لقوى حليفة تقليدياً بالنسبة للجزائر، مثل روسيا، ولا تعبّر بالضرورة وليست في مستوى المصالح الجزائرية".
وفي السياق نفسه، تُطرح مخاوف جدية لدى ناشطين وقوى المعارضة السياسية في الجزائر، بشأن اندفاع السلطة لتسوية مشكلات وترتيب العلاقات مع الخارج، من دون تسوية المشكلات السياسية الداخلية المتعلقة بالحريات والمطالب الديمقراطية، وتحقيق التوافقات الداخلية وإنهاء الإغلاق السياسي والإعلامي. وتبرز مخاوف جدية من أن تضغط السلطة أكثر في المستقبل على المعارضة وتلغي المطالب الديمقراطية وترجئها بسبب الأولويات الاقتصادية، بعدما تتهيأ لها الظروف المناسبة لذلك، عندما تحل مشكلات العزلة السياسية السابقة وتوظف ملف الطاقة ضد أي دول أو أطراف تعود إلى إثارة مشكل الحريات أو استخدام هذا الملف للضغط على السلطة السياسية في الجزائر.