تطرح كتلٌ متباينة من الأحزاب السياسية في الجزائر، المعارضة والموالية، في هذه الفترة، سلسلة مبادرات تتناغم من حيث العناوين السياسية المتعلقة بتحصين الجبهة الداخلية وتحقيق توافق مشترك بين القوى الوطنية كافة.
لكن تخمة المبادرات هذه تفتح في الوقت ذاته أسئلة عديدة حول الدوافع والخلفيات وراءها، وما إذا كانت إقراراً سياسياً بوجود أزمة أو استشعاراً لتوترات داخلية وخارجية، أم أنها مجرد تحركات ترتبط بترتيبات الانتخابات الرئاسية المقبلة المقررة في (أواخر) عام 2024. يضاف إلى ذلك الغموض حول الآليات التي تملكها هذه القوى لإلزام السلطة بتنفيذ مضمون المبادرات، ومدى إمكانية تفاعل السلطة معها في الأساس.
مبادرة لـ"لمّ الشمل" في الجزائر
ووقّعت مجموعة أحزاب سياسية، أمس الأحد، على مبادرة سياسية للمّ الشمل، تُسلّم إلى الرئيس عبد المجيد تبون خلال استقباله قادة هذه الأحزاب والتنظيمات يوم الخميس المقبل، وأطلقت عليها اسم "المبادرة الوطنية لتعزيز التلاحم وتحقيق النهضة".
مبادرة لمّ الشمل هي مشروع تبون نفسه الذي طرحه بأنقرة في مايو 2022
وتقف خلف المبادرة خمسة أحزاب مشاركة في الحكومة، هي حركة البناء الوطني، وجبهة التحرير الوطني، والتجمع الوطني الديمقراطي، وصوت الشعب، وجبهة المستقبل، إضافة إلى حزب الكرامة، واتحاد القوى الديمقراطية الاجتماعية، وتجمع أمل الجزائر. كما تقف خلفها نقابات عمالية، كالاتحاد العام للعمّال الجزائريين وكونفدرالية أرباب الأعمال وثلاث منظمات مدنية: منظمة أبناء الشهداء والكشافة وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
وأوضح رئيس حزب الكرامة، محمد الداوي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن المبادرة تستهدف تشكيل كتلة من القوى الوطنية لدعم مؤسسات الدولة وتحصين الجبهة الداخلية ضد المخاطر القائمة، ودعم الإصلاحات الاجتماعية والحفاظ على الطابع الاجتماعي للدولة. كما تقترح المبادرة استكمال ضمان الأمن القومي بكل أبعاده، والتوافق حول خطة اقتصادية تمتد إلى عام 2040، وتقترح موعداً لبدء تنفيذها بحلول نوفمبر/تشرين الثاني المقبل بالتزامن مع عيد ثورة الجزائر.
مبادرتان للقوى الاشتراكية والأحزاب التقدمية
من جهتها، تطرح جبهة القوى الاشتراكية (أقدم أحزب المعارضة الجزائرية)، في المقابل، مبادرة سياسية موجهة إلى من وصفتهم بـ"الشركاء السياسيين". وأعلن السكرتير الأول للحزب، يوسف أوشيش، يوم الجمعة الماضي، أن الحزب سيعلن قريباً عن "مبادرة شاملة من دون إقصاء، تنأى بنا عن الانقسامات الأيديولوجية، وتتوجه إلى جميع القوى السياسية المتشبثة بقيم الديمقراطية".
وتتضمن المبادرة "دعوة الأحزاب إلى مشاورات بهدف التوجه نحو عقد تاريخي لاستكمال المشروع الوطني، والوقوف في وجه محاولات، داخلية كانت أم خارجية، من شأنها المساس تحت أي ذريعة كانت بسلامة البلاد ووحدتها وبالدولة ومؤسساتها، ومنع النظام من العودة بالبلاد إلى ما قبل الحراك الشعبي 2019".
من جانب آخر، كانت ثلاثة أحزاب سياسية تقدمية، هي حزب العمّال، والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، والاتحاد من أجل التغيير والرقي، قد أعلنت قبل أسبوعين عن وثيقة سياسية تمثل خلاصة سلسلة مشاورات جمعت بين هذه القوى، دعت فيها إلى مبادرة سياسية تشمل خطوات تهدئة سياسية في البلاد.
ومن هذه بين الخطوات، "الإفراج عن النشطاء الموقوفين، وإعادة فتح المجالين السياسي والإعلامي، واتخاذ إجراءات تعزّز الدولة وتعيد بناء الروابط الإيجابية مع المواطنين، والتعبئة لحماية البلاد من الانزلاقات المحتملة، وضد أي ابتزاز أجنبي، واحترام الحريات، وإعادة صورة بلدنا على الصعيد الدولي". وهذه المبادرة لا تنفصل عن مشروع مرشح توافقي محتمل بين هذه الأحزاب لانتخابات الرئاسة عام 2024.
اللافت أن مجموع هذه المبادرات السياسية، يتوافق من حيث توصيف مصاعب الوضع الداخلي وعلى وجود مخاطر خارجية، وتؤكد فعلياً وجود واستشعار أزمة داخلية وتأثيرات لتوترات إقليمية محتملة، وتفسّر وجود قلق سياسي وشعبي من غموض الآفاق الداخلية، والحاجة إلى هدنة سياسية واجتماعية، على الرغم من خطاب السلطة الذي يوحي بأنها تتحكّم بالكامل في الوضع.
لكن المبادرات تختلف بشكل كامل في الغايات السياسية، فبينما تذهب أحزاب الموالاة إلى وضع مبادراتها ضمن سياق إسناد السلطة ومؤسسات الدولة، تضع قوى المعارضة مبادراتها ضمن العودة إلى المطالب الديمقراطية ورفع الإكراهات السياسية والتغيير ضمن شراكة وطنية.
أزمة سياسية أم تموقع قبيل الرئاسيات؟
واعتبر مراقبون أن توالي هذه المبادرات يكشف وجود أزمة حركية سياسية قبل أن تكون أزمة مخاطر تواجه البلاد. ورأى أستاذ العلوم السياسية في جامعة الجزائر، توفيق بوقاعدة، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "هذه المبادرات في حد ذاتها تعبير عن حالة الأزمة التي تعيشها الأحزاب السياسية في الجزائر منذ مدة، بسبب الانسداد الذي تعرفه الحياة السياسية وعدم اتضاح أفق العمل الحزبي، وهو الدافع الحقيقي لبعث هذه الحركية المبادراتية من أكثر من الجهة، أكثر مما تتعلق بوجود مزاعم لصد مخاطر".
توفيق بوقاعدة: تتجه المبادرات إلى العناوين الكبرى التي لا تثير حفيظة السلطة وفيها إجماع لدى كل الجزائريين
ولفت بوقاعدة إلى "أننا لا نرصد أي تهديدات جديدة لكيان الدولة ومؤسساتها ولا أمنها القومي، ما عدا ما هو معروف من تحديات أمنية تقليدية، وتتعاطى معها مؤسسات البلاد الأمنية وفق ما استجد في مجالنا الجيوسياسي"، معتبراً أن "هذه المبادرات غير قادرة على ملامسة قضايا بعينها، لذلك نلاحظ أنها تتجه إلى العناوين الكبرى التي لا تثير حفيظة السلطة وفيها إجماع لدى كل الجزائريين".
وردّاً على سؤال حول مدى تفاعل السلطة مع هذه المبادرات، استبعد بوقاعدة "حصول تفاعل مهم إلا من حيث العناوين التي تخدم ترتيبات السلطة السياسية". وأضاف: "إذا كانت البلاد بحاجة إلى مبادرة سياسية، فهي بحاجة في الأساس فعلياً إلى مبادرة للمّ الشمل، وإعادة الروح للحياة السياسية، وبعث نقاش وطني لمجمل القضايا المهمة في سياق التحصين الوطني والانبعاث الاقتصادي، عبر فتح فضاءات النقاش العمومي في إطار نسق الحريات التي تُحترم فيه أبجديات التعبير عن الرأي".
وفي اعتقاد أستاذ العلوم السياسية، فإن السلطة "ليست بحاجة في الظروف الزمنية الراهنة إلى التفاعل مع مبادرات كانت هي أول من قالت بها، وأثبت الواقع أنها مبادرات خطابية تفتقر إلى أدوات عملية لتجسيدها في الواقع". وبرأيه، فإنه "لا يمكن فصل هذه المبادرات عن رهان الانتخابات الرئاسية المقبلة والتحضير لعمليات التموقع وفق ما سيستجد من سياقاتها".
ويقود هذا إلى البحث في علاقة المبادرات السياسية مع بداية حديث مبكر عن الانتخابات الرئاسية المقبلة المقررة العام المقبل، خصوصاً أن مبادرة أحزاب الموالاة التي تم التوقيع عليها أمس، بدا واضحاً أنها ترتيب لتشكيل تكتل سياسي ومدني يسند الرئيس تبون تمهيداً لإعلان ترشحه لولاية رئاسية ثانية في انتخابات 2024.
عبد الرحمن سعيدي: السلطة منشغلة بالقضايا الدولية والإقليمية، ويبدو أنّ الرئاسيات غير مدرجة ضمن الأولويات
ويأتي ذلك خصوصاً أن مبادرة "لمّ الشمل"، هي مشروع الرئيس تبون نفسه الذي كان قد طرحه في مايو/أيار 2022. وكان تبون قد أعلن خلال لقائه أعضاء الجالية الجزائرية في تركيا خلال زيارته أنقرة في ذلك الوقت أنه يحضّر للقاء مع مجموع قادة الأحزاب السياسية للمّ الشمل، لكنه لم يبدأ أي خطوات في هذا الاتجاه.
وربط الرئيس السابق لمجلس شورى حركة مجتمع السلم، عبد الرحمن سعيدي، بين هذه المبادرات وبين الاستحقاق الرئاسي. وأكد سعيدي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "هذه المبادرات جاءت لتحريك الساحة السياسية لدى الأحزاب نفسها بحكم الركود الذي جمّد الطبقة السياسية والذي لم يترك لها هوامش تذكر"، معتبراً أن "اقتراب الانتخابات الرئاسية، هو الذي دفع الأحزاب إلى التحرك في شكل مبادرات سياسية، محاولة إيجاد موقع سياسي تحضيري لهذا الموعد المهم".
وأشار سعيدي إلى جملة من الملاحظات حول هذه المبادرات، معتبراً أنها "اتسمت بالسطحية ولا تطرح رؤية سياسية واضحة، إذ تتضمن مقترحات يمكن لكل الأحزاب مناقشتها". وبرأيه، فإن جملة هذه المبادرات "تبدو فضفاضة من حيث تحديد الأهداف أو كأنها لا تعرف أهدافها بدقة، وما إذا كان الهدف تقوية الجبهة الداخلية أم إيجاد تكتل سياسي قبل موعد الرئاسيات للمشاركة فيها، وهو ما يجعل التجاوب معها متفاوتاً".
ولفت سعيدي إلى أن "السلطة منشغلة بالقضايا الدولية والإقليمية، ويبدو أن موضوع الرئاسيات غير مدرج في الأولويات، بحكم أن الموعد ما زال يفصلنا عنه وقت كثير".
وأشار إلى أن "كثرة المبادرات تظهر أن كل كتلة سياسية لها خيارها، وأنه ليس هناك تقاطعات مشتركة حتى الآن". وأعرب عن اعتقاده أخيراً بأن "هذه المبادرات وكثافتها لا تقدم ولا تؤخر في الحقيقة، لسبب أن العمق الجماهيري للأحزاب يعرف انقطاعات رهيبة في عمليات التواصل، بينما الفاعل الأساسي حالياً مع الجماهير هي السلطة وليست الأحزاب".