يبدو أن الغرب باشر تحويل الغزو الروسي لأوكرانيا إلى فرصة تاريخية، عبر تراكم العسكرة إلى أكثر مما كانت عليه في الحرب الباردة (1947 ـ 1991).
وذلك ينسف أهداف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المعلنة عن إبعاد شبح حلف شمال الأطلسي عن حدود بلاده. وتوقفت دول كثيرة عن لغة مجاملة بوتين بل باتت تميل إلى جرأة غير معهودة، بما في ذلك دول "الكتلة الشرقية سابقاً"، وبدأ ما يشبه التمرّد في القوقاز على تجنيد ثرواتهم لحرب موسكو.
حتى وإن لم تصل أوروبا لمستوى واشنطن بنعت بوتين بـ"مجرم حرب"، فإن التيار العام بات معادياً حتى للأوروبيين المهادنين للكرملين. وهو ما يحدث مثلاً مع المستشار الألماني السابق، غيرهارد شرودر.
من الواضح أن جهود الحلف الغربي تتجاوز اليوم ما يسمونه استهداف "غطرسة بوتين". فخلال أقل من شهر امتد الانتشار والتأهب العسكري الغربي، من الدائرة القطبية الشمالية وبحر البلطيق وإسكندنافيا، إلى الخاصرة الجنوبية الغربية لروسيا، ومُررت قرارات عسكرية وأمنية كان يصعب تبنيها قبل الغزو. وعند مراكز الأبحاث الأوروبية فإن الرسالة واضحة للكرملين: أردتم نزع سلاح أوكرانيا فحصلتم على العكس.
إذاً، تنفض أوروبا عن نفسها صفة "القارة العجوز"، وتراجع حساباتها وتغيّر خططها، بما يُصعّب تعبيد الطريق مجدداً لعلاقة وسطية ومسترخية مع جارهم الروسي، من دون حصره في الزاوية وانفلات مخالبه العسكرية، وبشكل خاص أسلحة الدمار الشامل.
تدفق مشاهد الدمار من أوكرانيا فتح جدياً ملفات سياسات روسيا حول العالم، إذ تعج الصحافة ومراكز الدراسات باستدعاء مقارنات مع "جرائم في سورية"، وهو ما يسهل عملياً على صنّاع القرار في الغرب خلق اصطفافات تنسف مراهنات مستشاري بوتين القوميين لتقسيم القارة الأوروبية، ليفشل حتى في إبعاد السويد وفنلندا عن الأطلسي.
قد يتحقق لروسيا احتلال كل أوكرانيا، وتنصيب ما يسميه الغرب "دمية" في كييف، لكن المتغيرات التي تتسارع حول روسيا، ستحتاج إلى حروب وليس "عملية عسكرية خاصة" للعودة بالخريطة إلى ما كانت عليه قبل الغزو، وهو أمر غير متاح لموسكو حالياً.
في المجمل، إن الإطباق العسكري الأوروبي المتزايد ليس بمعزل عن العزلة والمقاطعة، ولا عن تعميق أثمان الخروج من المستنقع الأوكراني. فمثلما تتغير أوروبا، يراهن الغربيون على أن "روسيا الاتحادية" ستتغير مع تزايد صعود بوتين إلى أعلى الشجرة لتحقيق أحلام قيصرية.
بالتأكيد الغرب لن يذهب إلى إذلال روسيا البلد العريق والكبير، لكنه أيضاً يخلط الأمور على الكرملين، وإن في ذلك للأسف تكاليف كبيرة، دماراً وأرواحاً.