روسيا تطبّق سياسة "الأرض المحروقة": استراتيجية "الاحتواء" في الحرب الباردة

19 ابريل 2022
قصفت القوات الروسية التجمعات المدنية في لفيف، غربي أوكرانيا، أمس (جو رايدلي/Getty)
+ الخط -

في اليوم الـ54 على الغزو الروسي لأوكرانيا، بات جلياً أن الروس انتقلوا من أسلوب "الحرب الخاطفة"، التي أرادوا من خلالها إخضاع العاصمة الأوكرانية كييف سريعاً في الأيام الأولى للغزو الذي بدأ في 24 فبراير/شباط الماضي، إلى أسلوب "الأرض المحروقة"، الهادف إلى تدمير كامل وممنهج لكل تجمّع مديني.

وهو ما ظهر في ماريوبول، على ساحل بحر آزوف، المتفرّع من البحر الأسود التي لا يزال آخر المقاتلين الأوكرانيين فيها يرفضون الاستسلام، وفي خاركيف وكراماتورسك، في الشرق الأوكراني. ولهذا التحوّل الميداني الروسي انعكاسات عدة، محلياً وخارجياً.

على المستوى المحلي، تُظهر الكثافة النارية المستخدمة من القوات الروسية، خشيتها عملياً من حرب شوارع فعلية، وهو ما ترغب في تفاديه بعد نكسة الأيام الأولى من الحرب. كما ستؤثر هذه الهجمات على المفاوضات الروسية ـ الأوكرانية المتعثرة.

عودة "الحرب الباردة"

في المقابل، فإن الانزلاق الروسي إلى هذا النوع من الحروب، يعزز فرضية استعادة روحية "الحرب الباردة" (1947 ـ 1991)، التي سادت بين الاتحاد السوفييتي، سلف روسيا، والولايات المتحدة، والذي أدى إلى انقسام العالم بين قطبين أساسيين.

ويبدو أن الكلمة الرئيسية في الأيام المقبلة ستكون للميدان بشكل رئيسي، بعدما اتهم الكرملين أوكرانيا، أمس الاثنين، بتغيير مواقفها باستمرار في ما يتعلق بالقضايا التي تم الاتفاق عليها بالفعل في محادثات السلام.

وقال المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، للصحافيين في مؤتمر عبر الهاتف: "الاتصالات مستمرة على مستوى الخبراء في إطار عملية المفاوضات". وأضاف: "للأسف الجانب الأوكراني غير متسق في ما يتعلق بالنقاط التي تم الاتفاق عليها"، معتبراً "أنه يغير باستمرار مواقفه واتجاه عملية المفاوضات".

وشدّد بيسكوف على أن "العملية العسكرية الخاصة (الاسم الرسمي الروسي لغزو أوكرانيا) مستمرة. الرئيس (الروسي فلاديمير بوتين) قال إنها تسير وفقاً للخطة التي تم وضعها".

القوات الأوكرانية تواصل صمودها في ماريوبول الساحلية رغم كثافة النيران

 

وفي ظلّ التعثر السياسي، طالبت إيرينا فيريشتشوك نائبة رئيس الوزراء الأوكراني دينيس شميغال "القيادة في روسيا بفتح ممر إنساني من ماريوبول إلى بيرديانسك"، بعد أن أوقفت كييف عمليات إجلاء المدنيين من المدن والبلدات الواقعة على خط المواجهة في شرق البلاد، متهمة القوات الروسية بإغلاق وقصف الممرات الإنسانية.

وذكرت فيريشتشوك في بيان على مواقع التواصل الاجتماعي: "في انتهاك للقانون الإنساني الدولي، لم يتوقف المحتلون الروس عن إغلاق وقصف الممرات الإنسانية".

وفي ملف الأسرى، ظهر أمس المقاتلان البريطانيان شون بينر وأيدن أسلين، اللذان أسرتهما القوات الروسية في أوكرانيا على التلفزيون الرسمي الروسي، وطلبا مبادلتهما بالسياسي الأوكراني الموالي لروسيا فيكتور ميدفيدتشوك، الذي تحتجزه السلطات الأوكرانية.

ولم يتضح إلى أي مدى تحدث بينر وأسلين بحرية في التسجيل. وتحدث الاثنان كل على حدة بناء على طلب رجل لم تتحدد هويته. وعرضت اللقطات على قناة "روسيا 24" الرسمية. وطلب كلاهما من رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون المساعدة في إعادتهما إلى الوطن مقابل إطلاق أوكرانيا سراح ميدفيدتشوك.

وبالتزامن، أصدر جهاز المخابرات الأوكراني شريطاً لميدفيدتشوك ناشد فيه بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مبادلته بالمدافعين عن مدينة ماريوبول وأي مدنيين يسمح لهم بالمغادرة.

وبدا رجل الأعمال في الفيديو غير المؤرخ، مرتدياً ثياباً سوداء ويجلس إلى طاولة. وسبق لزيلينسكي أن اقترح في 12 إبريل/نيسان الحالي على موسكو استبدال ميدفيدتشوك بالأوكرانيين المحتجزين في روسيا.

في هذه الأثناء، أعلنت روسيا أنها ضربت مئات الأهداف العسكرية الأوكرانية ليل الأحد ـ الإثنين، ودمّرت مواقع قيادة بصواريخ أطلقت من الجو، بينما قالت السلطات في مدينة لفيف في غرب البلاد، التي لم تشهد قصفاً مكثفاً، إن هجوماً صاروخياً أودى بحياة سبعة أشخاص.

وأكدت وزارة الدفاع الروسية في بيان أن صواريخها دمرت 16 منشأة عسكرية أوكرانية في مناطق خاركيف وزابوريجيا ودونيتسك ودنيبروبتروفسك وفي مدينة ميكولاييف الساحلية في جنوب وشرق البلاد.

وأضافت أن القوات الجوية الروسية شنت ضربات على 108 مناطق تتمركز فيها القوات الأوكرانية، وأن المدفعية ضربت 315 هدفاً في أوكرانيا في المجمل خلال الليل.

من جهتها، أفادت السلطات الأوكرانية بأن الصواريخ أصابت منشآت عسكرية ومركزاً لخدمة إطارات السيارات في لفيف التي تبعد 60 كيلومتراً عن الحدود البولندية.

وقال رئيس بلدية لفيف أندريه سادوفي، إن سبعة أشخاص قُتلوا وأصيب 11 بجروح. وفي لوغانسك، قال حاكمها سيرغي جايداي إن القتال في الشوارع بدأ بين القوات الأوكرانية والروسية، مكرراً نداءه للناس للمغادرة.

وأضاف في خطاب بثه التلفزيون أمس، أن القوات الروسية تقدمت خلال الليل واستولت على كريمينا، قائلاً إن السلطات لم تعد قادرة على إجلاء الناس من البلدة.

العنف الذي يتميز به الجيش الروسي لم يتغيّر، على الرغم من محاولة تحويله إلى جيش أكثر احترافية في العقدين الأخيرين

 

وقال إن أربعة مدنيين قُتلوا بالرصاص في أثناء محاولتهم الفرار بالسيارة من كريمينا. وفي رسالة بالفيديو، وجّهها مساء أول من أمس الأحد، اتهم الرئيس الأوكراني روسيا بالرغبة في "تدمير" منطقة دونباس الواقعة في الشرق تماماً، واعداً ببذل كل ما في وسعه للدفاع عنها، بدءاً بمدينة ماريوبول، طالباً من الجنود المحاصرين القتال "حتى النهاية".

وقال زيلينسكي: "مثلما يدمر الجنود الروس ماريوبول، فإنهم يريدون تدمير مدن أخرى ومجتمعات أخرى في منطقتي دونيتسك ولوغانسك".

من جهته، أكد شميغال أن القوات في ماريوبول ما زالت تقاتل على الرغم من مطالبة روسيا لها بالاستسلام. وأبلغ رئيس الوزراء الأوكراني برنامج "هذا الأسبوع" الذي يبث على شبكة "إيه بي سي"، أن "المدينة لم تسقط بعد"، مضيفاً أن الجنود الأوكرانيين يواصلون السيطرة على أجزاء من المدينة الواقعة في جنوب شرق البلاد.

وسيؤدي الاستيلاء على ماريوبول إلى توحيد القوات الروسية على محورين رئيسيين للغزو، وإطلاق يدها للانضمام إلى هجوم جديد متوقع ضد القوات الرئيسية الأوكرانية في الشرق.

وقال المتحدث باسم وزارة الدفاع الأوكرانية أولكسندر موتوزيانيك، إن الوضع في ماريوبول "صعب جداً" لكن القوات الروسية لم تسيطر بالكامل بعد على المدينة.

وأضاف أن عمليات القصف التي تشنها الطائرات الحربية الروسية زادت في الآونة الأخيرة بنسبة تزيد على 50 في المائة، وأن القوات الروسية بدأت في استهداف البنية التحتية الأوكرانية على نحو متزايد.

وتؤكد التطورات الأخيرة في ماريوبول أن الروس استعادوا عملياً أساليبهم المدمّرة، التي ارتكبوها في الشيشان في تسعينيات القرن الماضي، وفي مدينة حلب السورية في عام 2016، وباشروا بتكثيفها في المدن الأوكرانية في الفترة الأخيرة.

وعدا ماريوبول، فإن مدناً مثل خاركيف وكراماتورسك، وبدرجة أقل في دنيبرو ولفيف بدأت تعاني من أسلوب "الأرض المحروقة". في بوتشا مثلاً، في ضواحي كييف، حيث اكتُشفت مقابر جماعية، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تقريراً عن مواطنة شيشانية تحدثت عن تشابه مشاهد الحرب بين أوكرانيا والشيشان.

ونقلت الصحيفة عنها قولها: "أرى تماماً ما الذي يحصل: الجيش نفسه، التكتيكات الروسية نفسها". وهو ما عدّه الفيلسوف الأوكراني، فولوديمير ييرمولنكو، بمثابة "ثقافة العنف"، معتبراً أن الروس يتصرّفون على قاعدة "الهيمنة الكاملة".

وأضاف التقرير أن "العنف الذي يتميز به الجيش الروسي لم يتغيّر، على الرغم من محاولة تحويله إلى جيش أكثر احترافية في العقدين الأخيرين".

وتطرّق التقرير إلى حادثة إطلاق جندي روسي النار على رفاقه في سيبيريا في عام 2019، وقتله ثمانية منهم، ونقل عن الجندي القاتل قوله: الجنود جعلوا حياتي لا تُطاق.

ونقلت "نيويورك تايمز" عن سيرغي كريفينكو، الذي يقود مجموعة تقدّم المساعدة القانونية للجنود الروس، قوله إن "العنف المتفشي، في غياب أي رقابة مستقلة، يجعل جرائم الحرب قابلة للحدوث"، مضيفاً "الجنود الروس قادرون على التعامل بعنف ضد إخوانهم الروس، مثلما يفعلون ضد الأوكرانيين".

وقائع من إيزيوم 

بدورها، كشفت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، في تقرير لها، في 7 إبريل/نيسان الحالي، ما حصل في مدينة إيزيوم، شرقي أوكرانيا.

وذكرت الصحيفة أن حاكم المدينة، فاليري مارشينكو، تلقى اتصالاً من شخص يتحدث الروسية سأله بهدوء: متى نلتقي لمناقشة شروط الاستسلام للقوات الروسية؟ وأضاف المتكلم: إذا وافقتم على شروطنا سنعفي عن المدينة وسكانها الـ40 ألفا. رد مارشينكو قائلاً: المدينة ستبقى أوكرانية. فردّ المتصل الروسي: "إن لم تُسلّم المدينة، لدينا النية لتدميرها وتسويتها بالأرض". وبعد أيام قليلة قصف الروس بشدّة إيزيوم.

مع ذلك، فإن العنف الروسي لا يبدو شديد التأثير على معنويات المقاتلين الأوكرانيين، العسكريين منهم والمدنيين، فـ"وحدات الدفاع الإقليمي"، المؤلفة من مدنيين متدربين على أيدي الجيش، يتمركزون في نقاط تفتيش ووجودهم واضح في المدن.

وتعتبر الوحدات آخر قوة منيعة في وجه الروس بعد الجيش النظامي. ويتحدث هؤلاء عن يومياتهم في المعارك ومعنوياتهم المرتفعة. وسمح وجودهم في الشرق، خصوصاً في إيزيوم، بتشكيل ظهير منيع للجيش الذي يصدّ الغزو، في صورة تؤكد، وفقاً لهؤلاء، أن الروس سيعانون بشدّة في أي محاولة للتوغّل الميداني في الأراضي الأوكرانية.

الجيش الروسي يعلن استهداف مئات الأهداف العسكرية في ساعات

 

في غضون ذلك، يزداد النقاش في العالم حول احتمال "عودة الحرب الباردة"، خصوصاً بعد أن ذهب الغرب بعيداً في مواجهة روسيا اقتصادياً، بفرض أقسى عقوبات في التاريخ عليها، على خلفية الغزو.

وهو ما دفع بوتين للقول أمس، إن "القيود التي فرضتها الدول غير الصديقة أثرت على الأعمال وعلى التبادل التجاري لبلادنا". وتزامن الاعتراف مع نشر صحيفة "واشنطن بوست"، تقريراً عن بدء تفكير خبراء في حلف الأطلسي في موعد انتهاء حرب أوكرانيا وكيف ستنتهي، وتوقع كثيرين منهم صراعاً طويل الأمد.

وأفادت الصحيفة بأنه في واشنطن والعديد من العواصم الأوروبية، يخطط المسؤولون لممارسة الضغط على الكرملين لسنوات مقبلة. ومع أن معظم قادة الأطلسي، لم يعبّروا عن رغبة علنية في تغيير النظام في موسكو، إلا أن واشنطن تعمل وفق استراتيجية طويلة الأمد لعزل روسيا.

روسيا "محطة مفصلية"

وبالنسبة للأميركيين، فإن روسيا "محطة مفصلية" في الطريق إلى آسيا، علماً أن الرئيس الأسبق باراك أوباما أهمل النفوذ الروسي في آسيا والمحيط الهادئ، معتبراَ انها "قوة إقليمية" ذات تأثير وقدرة محدودين.

غير أن البيت الأبيض الآن، بقيادة بايدن، بات يرى روسيا، إلى جانب الصين، خصماً أساسياً، وهو ما دفعه لإحياء نسخة محدثة من "الحرب الباردة"، المتمثلة في "احتواء روسيا".

وذكرت الصحيفة أن حلف الأطلسي سيُطلق أول وثيقة "مفهوم استراتيجي" منذ عام 2010، لكن الأمور اختلفت بعد 12 عاماً، خصوصاً أن طموح الحلف وقتها كان يهدف إلى إرساء "شراكة استراتيجية حقيقية" مع روسيا، غير أنه من المحتمل، وفق "واشنطن بوست" أن تتخذ الوثيقة المرتقبة موقفاً أكثر عدوانية تجاه نظام بوتين.

ومن المرجح أن تلتزم حكومات الأطلسي بنشر قوات أكبر على طول الحدود الروسية، خصوصاً في ظلّ استعداداتها لاستقبال فنلندا والسويد في التجمّع. كما ستُشدّد هذه الحكومات على التخلّص من الطاقة الروسية بالكامل.

(العربي الجديد، الأناضول، فرانس برس، رويترز)

المساهمون