استمع إلى الملخص
- خلال فترة حكمه، اختار العمل من وراء الكواليس مفضلاً تحقيق أهدافه بعيدًا عن الأضواء، لكنه لم يتردد في مواجهة خصومه مما أدى إلى سقوطه وسجنه، مظهرًا قوة إرادته وتأثيره حتى من خلف القضبان.
- السياق السياسي والاجتماعي في سوريا خلال تلك الفترة يعكس التعقيدات والصراعات الداخلية والخارجية، مع تجسيد شخصيات مثل نور الدين الأتاسي ويوسف زعيّن للنضال من أجل السلطة والنفوذ، والتذكير بالجانب الإنساني للقادة والتحديات التي واجهوها.
صلاح جديد: الرجل القوي
لم تظهر حتى الآن أية شهادة مكتوبة أو مسجلة للواء صلاح جديد (1926-1993) باستثناء رسالة إلى ابنته وفاء سرّبها من سجنه في رواية "مذلون مهانون" لدوستويفسكي التي كان يقرأها.
تقول الرسالة التي كتبها جديد قبل وفاته بأيام: "إلى أحب الناس إلي، وأعز ما في الوجود، إلى ابنتي الحبيبة وفاء، ذكرى آلام وأيام صعبة نمر بها، لعلنا نجد ترجيعها وأصداءها في هذه الرواية. وكلي أمل أن يكون في وسعنا مستقبلاً ترديد ما جاء في نهايتها: فانيا، فانيا، كان هذا كله حلماً أليس كذلك؟ ما الذي كان حلماً؟ كل شيء، كل شيء... قد نلتقي يوماً ما بدون رقابة وبدون سجن فنتحدث، ونتحدث طويلاً، ولكن هذا حلم، حلم بعيد قد لا يتحقق أبداً، إذن ليس لي الآن إلا الصمت، والأحلام والصمود، على طريق الرسالة التي نذرت نفسي لها، وسأموت من أجلها، فهل سنلتقي يا وفاء على هذه الطريق؟
7/ 8/ 1993 أبوك صلاح".
كل ما وصل إلينا عن جديد هو شهادات من رفاقه وخصومه ومن الباحثين الذين تناولوا مرحلة حكمه.
ولعل أكثر من كتب عنه هو زوج أخته ورفيق السلاح والحزب محمود جديد الذي يصفه بأنه "كان وسيماً ومن دون تكلف، طويل القامة بهي الطلعة، ذا مهابة كبيرة، نظراته أفصح من كلامه".
أما عضو القيادة القومية للحزب وشريك اللواء جديد في سجنه، ضافي الجمعاني، فكتب يصفه: "كان اللواء صلاح جديد شديد الوسامة، قوي الذكاء، جلداً على العمل، طويل النفس، ذا قدرة كبيرة على إخفاء نواياه، يعرف كيف يتعامل مع وسطه من الرجال، قادراً بشكل قل نظيره على تفريق صفوف المعادين له، ذا إرادة غير عادية يفرضها على نفسه في مواجهة واقع لا يستسيغه، فقد أمضى أكثر من عشرين عاماً في غرفته في سجن المزة العسكري لا يخرج منها إلى الساحة العامة التي كنا نقضي فيها ساعتين ونصف الساعة للتنفس، لا يخرج إلا لقضاء حاجاته الطبيعية". يضيف: "لم يكن له تطلع إلى المركز الأول في سورية لكنه كان حريصاً على أن يكون في المركز الأقوى".
يرى الجمعاني أن جديد كان بإمكانه أن يهزم الأسد، لكنه تهيّب من نتائج الصراع في الجيش واختار السجن على المواجهة.
ومثلما ذكرنا سابقاً فإن الجمعاني وجديد تصاهرا من خلال زواج موسى ابن ضافي الجمعاني وأمل ابنة صلاح جديد.
وعن امتناع جديد عن التنفس سرد عضو القيادة القومية وأحد نزلاء سجن المزة، مجلي النصراوين، رواية أخرى تضع مسؤولية ذلك على ضافي "واجهنا عام 1976 وتحديداً في الصيف أن الرفيق صلاح جديد امتنع عن الخروج إلى باحة السجن في أوقات التنفس، والسبب أنه في أحد الأيام وكان الوقت عصراً، وهو وقت التنفس المسائي، رأيت الرفيق صلاح وهو يتمشى في منطقة محددة في الساحة يضع جهاز مذياع على حافة الجدار.. يدخل إلى الغرفة بصورة أثارت انتباهنا، فلحقت به أسأله عن السبب، قال ربما أنك لم تلاحظ أن رفيقنا ضافي يتمازح مع رئيس الحرس حيث يحاول كل منهما أن يرمي الآخر أرضاً وهذه العملية فيها تمادٍ علينا، ولا ننسى أننا كنا نحكم البلد والعالم كله يحسب لنا ألف حساب ولا يجوز ذلك لأن فيه انتقاصاً لهيبتنا".
يضيف النصراوين واصفاً بعض يوميات جديد في السجن وبعض صفاته: "كان يمضي معظم وقته جالساً على سرير منكباً على المطالعة حيث يقضي ساعات وساعات، وإذا أحس بالتعب وأراد أن يروّض قدميه كان يتمشى على طول سريره فقط".
"يمثل القائد الحزبي الفذ ويحمل القدرة على الصبر وتحمل المصاعب.. كان واضح الرؤية لا يغادره الفهم العلمي والتحليلي للظروف والأحداث واتخاذ الموقف الذي تتطلبه".
وعن وفاته في السجن كتب عضو القيادة القطرية، مروان حبش، في مقال له بعنوان "ما يقارب ربع قرن في المعتقل": "لم يكن يعاني إلا من الروماتيزم في المفاصل وبعض الالتهابات المزمنة في المعدة والقولون. وفي المعتقل، ليلة الأربعاء/الخميس 11-12 آب (أغسطس) 1993، بعد حوالي 12 ساعة فقط من شعوره بتوعك في صحته، نُقل بعد ست ساعات من المعتقل إلى مستشفى المزة العسكري، ولم يلق هناك أية رعاية أو اهتمام، ولما ازداد وضعه سوءاً تقرر نقله (النقل يحتاج إلى موافقة من أعلى مسؤول في السلطة) حوالي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل إلى مستشفى تشرين العسكري، ولما وصل بعض الأطباء المختصين في حوالي الساعة الثالثة صباحاً كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، وصدر عن إدارة المستشفى تقرير حدد أسباب الوفاة بـ: هبوط دوراني أدى إلى قصور كلوي وهذا أدى إلى إنتان في الدم".
يجيب مروان حبش عن سؤالي عن تفرد جديد بالقرار خلال حقبة 23 شباط/ فبراير: "كان المرحوم اللواء جديد ديمقراطياً في اجتماعات القيادة وكان يلتزم بقراراتها، وأهم حدثين يدلان على ذلك وكان يمكن أن يغيرا تاريخ سورية، الأول: عندما طرح اللواء تغيير قيادة الجيش بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967 وسقط القرار بفارق صوت واحد والتزم اللواء بالقرار. والثاني: خلال محاكمة سليم حاطوم على عصيانه في الثامن من أيلول/ سبتمبر 1966 وبعد أن عاد لسورية وسجن وحكمت المحكمة العسكرية الاستثنائية برئاسة مصطفى طلاس عليه وعلى رفيقه بدر جمعة بالإعدام، طلب حافظ الأسد من اللواء جديد بصفته الأمين العام المساعد عقد اجتماع للقيادة في الليل لتنفيذ أحكام الإعدام فوراً بحق المتهمين، لم يكن اللواء صلاح من الموافقين على تنفيذ الإعدام فوراً، ولكنه التزم أيضاً بقرار الاجتماع ونفذ الإعدام في صباح 26 حزيران عام 1967".
الرئيس نور الدين الأتاسي
حاول الأسد استمالة نور الدين الأتاسي (1929-1992) بعد اعتقاله جديد وقبل إعلان انقلابه، ولم يقبل الأتاسي التعاون معه مشترطاً عليه إطلاق سراح أعضاء القيادة الذين اعتقلهم والقبول بقرارات المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي مع إيجاد تسوية فيما يخص توقيت التنفيذ، فكان رد الأسد زج الأتاسي في سجن المزة.
سمح الأسد للأتاسي بالإقامة بعد عام 1980 ستة أشهر في الاستراحة التي خصصت لمن يريد النزول إليها من أعضاء القيادة للاجتماع بعائلاتهم، وأرسل له محمد الخولي مدير المخابرات الجوية حينها للتفاوض معه على إطلاق سراح القيادة السجينة مقابل تأييدهم للنظام في صراعه مع الإخوان المسلمين وكانت إجابة الرفاق نخرج أولاً ثم نرى.
أصيب الأتاسي بنوبة قلبية في سجن المزة وطلب رفاقه إسعافه فوراً، وحسب شهادة مجلي النصراوين "لم يتم إسعاف الأتاسي للمشفى إلا بعد 24 ساعة بعد إصابته بنوبة قلبية، بل أحضر له السجانون طبيب أسنان أولاً واكتشفوا في المشفى إصابته بسرطان المريء"، وبعد ثلاثة أشهر تقريباً من مكوثه في المشفى وبعد أن عرفوا أنه لن يعيش طويلاً وأن حالته الصحية أصبحت ميؤوساً منها أخرجوه من السجن، وبقي ثلاثة أشهر وعائلته تطلب إعطاءه جواز سفر من أجل علاجه في الخارج، وبعد مماطلة حصلوا على جواز السفر ونقلوه إلى المستشفى الأميركي في فرنسا، وهناك فحصوه وأخبروا زوجته أن المرض قد انتشر في الكبد، ولو أنهم أحضروه قبل شهر لكان هناك أمل في إنقاذ حياته.
رئيس الوزراء يوسف زعيّن
نشر الصحافي المصري، إلهامي المليجي، ما قال عنه مذكرات رئيس الوزراء الأسبق يوسف زعيّن (1931- 2016) والذي التقاه في بودابست عاصمة المجر، ولم أجد أي تأكيد أن ما نشره موثق لزعيّن.
كتب مروان حبش في مقاله "قرابة ربع قرن في المعتقل" أن "ابنة الدكتور يوسف زعيّن طلبت من والدها في إحدى الزيارات عام 1980 أن يأذن لها بعقد قرانها، وتمنت لو كان باستطاعته مشاركتها تلك المناسبة، وسجل المراقب في تقريره ما سمع"، وفعلاً كان زعيّن أول من أقام في الاستراحة مدة أسبوع وتم زفاف ابنته فيها، وقد قابل الأسد الذي أخبره أنه يعتزم إطلاق سراح الرفاق قريباً.
قابل الأسد زعيّن، ولاحقاً قابل عضو القيادة القطرية، محمد رباح الطويل، الذي أفرج عنه قبل أشهر قليلة من وفاته عام 1992. كما قابل مروان حبش وعادل نعيسة وأخبرهما أنه فعل ما فعل استباقاً لما قد يفعلونه معه.
أفرج الأسد عن زعيّن عام 1981 بسبب إصابته بالسرطان وعولج الرجل وتعافى، مما جعل حافظ الأسد يقول إن إطلاق سراح زعيّن خطأ لن يتكرر.
محمد عيد عشاوي: وزير الداخلية المتجهم
يصف مجلي النصراوين وزير الداخلية الأسبق محمد عيد عشاوي الذي شاركه الزنزانة "لقد كان الرفيق عشاوي واحداً من مراكز القوة في السلطة وقد شمله قرار تغيير مراكز القوة، فغادر وزارة الداخلية واستلم حقيبة الخارجية ثم انتقل إلى ميدان العمل الفدائي. الصمت هو طبيعة الرفيق عشاوي، قليل التشكي علماً أنه يعاني من مسائل كثيرة تتجلى بنهمه في التدخين والضغط على السيجارة بين شفتيه وبين إصبعيه وطريقة نفث الدخان.. إلا أنه في حالة النوم ينطلق ذلك الصوت المزعج حيث تعالي الشخير وتوالي الكوابيس وتنطلق صرخاته".
فيما يصف ضافي الجمعاني الرفيق (أبو وسمة) خلال مشاركته بقيادة العمل الفدائي في أغوار الأردن بـ: "الشجاعة والقدرة على قيادة الرجال. وكان القطاع الأوسط أكثر القطاعات فاعلية تحت قيادته".
مات عشاوي غرقاً في نهر الفرات بعد إطلاق سراحه وهو يحاول إنقاذ أحدهم من الغرق.
أحمد السويداني: رئيس الأركان الغاضب
استقال السويداني في فبراير/ شباط 1968 وحل محله مصطفى طلاس رئيساً للأركان، وقد ذكر حافظ الأسد خلال مداخلته الطويلة في المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي، كما ترد في كتابي مصطفى طلاس ومحمد حيدر، بأنه (السويداني) كان غاضباً من القيادة، وغالباً ما يصفهم بأسوأ النعوت ويهددهم بإطلاق الرصاص.
يؤكد مروان حبش أن هذه الرواية غير صحيحة، وأنه كان يحترم رفاقه خلال تسلمه رئاسة الأركان وبعدها وفي السجن وخارجه، رغم أنه "ينفعل بسرعة ولكنه طيب القلب"، ويسرد تفاصيل ما حدث له بعد محاولته الفاشلة تنظيم تمرد في أغسطس/ آب 1968 "هرب إلى العراق واستقبله الرئيس أحمد حسن البكر، ثم طلب من الرئيس نور الدين الأتاسي السماح بالعودة، فطلب الأتاسي منه التريث بسبب الصراع مع وزير الدفاع وعدم القدرة على حمايته، ومع ذلك عاد السويداني فاعتقله الاسد، ولما سئل الأسد عن سبب اعتقاله أجاب بأنه عسكري فار، ولا سيما أنه لم يتبين أية علاقة للسويداني مع التنظيم العسكري الموالي للعراق ومنهم حسين زيدان وجلال مرهج".
ينقل عنه ضافي الجمعاني عندما كانا معاً في سجن المزة ما يلي: "تسلمت قيادة الجبهة فور وقوع الحرب بأمر من وزير الدفاع الفريق حافظ الأسد، وحسب الخطة المعدة لمثل تلك الحالة أعطيت الأوامر والتعليمات إلى الوحدات العسكرية ذات الوجبات، أن تأخذ مواقعها، إلا أن أي أوامر لم تنفذ، ولم تقم أي من الوحدات بواجباتها المحددة حسب الخطة، ولذلك لم نستطع أن نقوم بأية مبادرة هجومية".
الثمن الغالي
اتصلت بقيادي بعثي سجن لحوالى 23 عاما لتسجيل شهادته، ففضّل عدم ذكر اسمه وعدم الخوض في تفاصيل العلاقة والخلاف مع نظام حافظ الأسد؛ لأن ما يشغل عقله الآن هو "ما يجري في غزة".
وأكد أن ما يحصل الآن على صعيد القضية الفلسطينية ليس منفصلا عما حدث في مرحلتهم، فـ"جوهر الخلاف والصراع والثمن الذي دفعناه سببه الموقف من القضية الفلسطينية تحديدا، كانت لنا مساهمة في تصور شكل المواجهة مع إسرائيل، ولم نكن لنقوم بحركة 23 شباط (فبراير) لولا أننا اتفقنا على استراتيجية جديدة لمواجهة الكيان الصهيوني. كنا نعرف أنه من الصعب تحقيق توازن استراتيجي مع إسرائيل، حيث كنا نشتري الأسلحة من بلدان الكتلة الشرقية، لنكتشف أنها أسلحة ليست متطورة بالقدر الكافي، وبعد سنوات ننسقها ونشتري غيرها.. وهكذا".
يضيف محدّثي: "كان الحل بالنسبة لنا هو فكرة الحرب الشعبية طويلة الأمد، لأننا كنا نعي أن المواجهة مع إسرائيل لن تنتهي بالضربة القاضية، وإنما بجعل الوضع في إسرائيل قلقاً ومضطرباً، وبالتالي نحوّل الكيان إلى عبء على الغرب بدل أن يكون أداة قوة. كانت هناك فرص للنجاح، ولكن للأسف كنا مخترقين".
أشار ضيفي إلى أن "القيادات البعثية السجينة في المزة اتفقت فيما بينها على تسجيل تفاصيل مرحلة 23 شباط، ولكن حصلت اعتراضات حالت دون ذلك".
يختم حديثه بالقول إن حزب البعث الذي حكم سورية والعراق ليس بحزب البعث، وإنما هو حزب حافظ الأسد الذي طرح شعار قائد المسيرة، وحزب صدام حسين الذي تبنّى شعار القائد الضرورة.