"لا شيء مضموناً". بهذه العبارة اختتم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مساء أول من أمس الأحد، خطابه الذي ألقاه أمام مناصريه من مقره الانتخابي في بورت دو فرساي، بعدما تأكد انتقاله مع زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان إلى الدورة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية، التي ستجري يوم الأحد في 24 إبريل/ نيسان الحالي.
وعلى الرغم من الارتياح المبدئي لضمان الانتقال إلى الدور الثاني، مع تصدره نتائج الدورة الأولى من الرئاسيات التي جرت أول من أمس، بدا القلق مسيطراً على رئيس فرنسا، الذي توجه بالشكر إلى كافة المرشحين الذين تنافسوا، الأحد، وخسروا رهاناتهم بإمكانية العبور إلى الدور الثاني، في رسالة ضمنية تفيد بحاجته إلى أصواتهم من دون التحالف معهم، لـ"صدّ اليمين المتطرف".
و"صدُّ اليمين المتطرف" هي عبارة تتكرّر منذ عام 2002، على لسان كل من صعد للدورة الثانية من رئاسيات فرنسا، في وجه عائلة لوبان. ويبدو التوتر الذي رافق خطاب ماكرون مبرّراً: ففي الشكل، لم تأت الدورة الأولى هذا العام بنتائج مغايرة لسابقتها في 2017، حين انتقل ماكرون ولوبان أيضاً للدورة الثانية.
لكن المضمون تبدل كثيراً منذ ذلك الحين، ويمكن اختصاره بـ3 أمور: مزيد من التطبيع الشعبي الفرنسي مع خطاب اليمين المتطرف الفرنسي، الذي أفرز إلى جانب لوبان مرشحاً آخر أكثر شعبوية وتطرفاً، هو إيريك زيمور، ونقمة شعبية على ماكرون الذي لم يعد ذاك الوجه الواعد بالتغيير، حيث بات عدد كبير من الفرنسيين يرون فيه رئيساً تكنوقراطياً حوّل البلاد إلى "شركة خاصة"، وأخيراً الانحدار الدراماتيكي لليسار واليمين التقليديين، الحزب الاشتراكي و"الجمهوريون"، واللذين بالكاد تمكنت مرشحتاهما آن هيدالغو وفاليري بيكريس من أن تجمعا معاً بحدود 7 في المائة من الأصوات.
تتوقع الاستطلاعات فوز ماكرون بالرئاسة بفارق قد لا يتجاوز النقطتين
واختتمت الدورة الأولى من رئاسيات فرنسا لعام 2022 بانتظار مبارزة جديدة بعد أسبوعين بين ماكرون ولوبان، اللذين حصلا على التوالي على 27.84 و23.15 في المائة من الأصوات، بحسب النتائج النهائية لتصويت الأحد، الذي شهد نسبة امتناع بحدود الـ25 في المائة. وحلّ ثالثاً، كما عام 2017، زعيم اليسار الراديكالي جان لوك ميلانشون، بحصوله على 21.95 في المائة من الأصوات، بعدما كان قد حصد 19.58 في المائة قبل 5 أعوام.
وجاء زيمور رابعاً مع نحو 7 في المائة، تلته بيكريس (4.78 في المائة)، وزعيم الخضر يانيك جادو (4.63)، وجان لاسال - وسطي (3.13)، وزعيم الحزب الشيوعي فابيان روسيل (2.28)، يليه نيكولا دوبون إينيان (ديغول سيادي)، الذي حصد 2.06 في المائة من أصوات الناخبين، وعمدة باريس الاشتراكية آن هيدالغو (1.75)، وفيليب بوتو عن "الحزب الجديد المعارض للرأسمالية" (0.77)، وأخيراً ناتالي أرتو عن "النضال العمالي" (0.56).
واحتفل ميلانشون مع أنصاره، مساء أول من أمس، بـ"الانتصار" الذي طبع رغم كل شيء هزيمته الانتخابية، على اعتبار أن أرقامها أكدت تربعه على زعامة اليسار الفرنسي. وشدّد زعيم حزب "فرنسا الأبية" على عدم التصويت للوبان في الدورة الثانية، مكرراً ذلك 3 مرّات، من دون دعوة أنصاره للتصويت لماكرون، الذي لم يذكر ميلانشون اسمه ولو لمرة واحدة. وأكد النائب عن منطقة بوش دو رون انطلاق التحضير للانتخابات التشريعية المقررة في يونيو/ حزيران المقبل، معتبراً أن على الجيل الشاب إثبات نفسه، بعدما كان قد أكد في مقابلة صحافية (جورنال دو ديمانش) في 5 إبريل أنه "أخذ حصته" من الترشح للانتخابات (3 مرات).
لكن نتائج الدورة الأولى الحالية كرّست يسار اليسار الفرنسي كبديل شعبي، أو كـ"قطب شعبي"، بحسب تعبير ميلانشون نفسه، بعيداً عن الشخصانية وكاريزما الرجل، الذي صوّتت له "تصويتاً مفيداً" نسبة كبيرة من مؤيدي اليسار ويسار ميلانشون وطروحاته وبرنامجه السياسي، رغم اختلاف طائفة واسعة منهم مع مواقف الرجل على صعيد السياسة الخارجية. ويقف "القطب الشعبي" ليسار اليسار الفرنسي، اليوم، في مواجهة "قطب أعلى الهرم"، الممثل بماكرون، ولكن أيضاً في مواجهة "القطب الشعبي" لليمين المتطرف، وسط ضمور غير مسبوق للحزبين التقليديين اللذين هيمنا على المشهد السياسي للجمهورية الخامسة منذ عقود.
دعا زيمور ودوبون إينيان ناخبيهما للتصويت للوبان في الدورة الثانية
وإضافة إلى يسار اليسار، أصبح حزب ماكرون (الجمهورية إلى الأمام)، بحسب نتائج الدورة الأولى، الممثل الأكثر شرعية لليمين الفرنسي، ولوبان وحزبها المنظّم جيداً ممثلان لليمين المتطرف، وهي ثلاثية حزبية جديدة على المشهد السياسي الفرنسي، وقد تكون عنوان مرحلته المقبلة.
ويتحضر حزب لوبان إلى معركة حامية بعد أسبوعين، سيكون التركيز فيها على الجمهور الذي لم يصوت لماكرون في الدورة الأولى، والممتعض بشكل أساسي من سياسته الاقتصادية وتلك المتعلقة بالهجرة. وقالت لوبان بعد إعلان النتائج إن "المعركة تدور حول خيار المجتمع والحضارة"، بحسب تعبيرها، فيما دعا زيمور ودوبون إينيان ناخبيهما للتصويت للوبان في الدورة الثانية.
وأكدت بيكريس وجادو وروسيل وهيدالغو على ضرورة قطع الطريق أمام وصول اليمين المتطرف إلى الإليزيه، داعين للتصويت لماكرون. وأكد فيليب بوتو أنه يجب عدم التصويت للوبان، دون الدعوة للتصويت لماكرون، وهو ما فعلته ناتالي أرتو وجان لاسال. وتشكل أصوات الداعين للتصويت لماكرون بحدود 15 في المائة، من دون أصوات مؤيدي ميلانشون. وتوقعت استطلاعات جديدة فوز ماكرون بولاية جديدة، ولكن بفارق قد لا يتجاوز النقطتين عن لوبان.
وأظهر استطلاع لشبكة التلفزة "أل سي إي" أن ماكرون قد يحصل على 51 في المائة من الأصوات، مقابل 49 في المائة للوبان. وكان ماكرون قد تخطى لوبان بالدورة الثانية قبل 5 أعوام بأكثر من 30 نقطة (66.10 مقابل 33.90 في المائة). ورأى متابعون أن هذه الأرقام ستبقى متحركة حتى 24 إبريل، مع توقع خروج حملة التحشيد التقليدية التي سيطلقها مثقفون وسياسيون وفنانون وغيرهم للتحذير من خطر اليمين المتطرف على فرنسا وأوروبا.
لكن كلاً من المرشحين يدركان أن فوزهما معقودٌ في مكان آخر. فعلى غرار أميركا، تبدو الطبقة العمّالية الفرنسية التي تستوطن الضواحي، في حالة غليان. هذا الأمر حمل الرئيس الفرنسي، الذي يخشى أن تخذله هذه المرة "الجبهة الجمهورية" التي تتشكل عادة لصدّ اليمين المتطرف، أمس، إلى قلب فرنسا الصناعية في الشمال، بحثاً عن أصوات الياقات الزرقاء. إقرار "مصطنع" بأخطاء تجبره أخيراً على الالتفات إلى الفرنسيين، وعلى قتال شرس وغير مضمون حتى 24 إبريل.