ذاكرة فلسطين طموح وعقبات

26 فبراير 2023
صور لموقع ذاكرة فلسطين (ذاكرة فلسطين)
+ الخط -
لا تحيا الشعوب بلا ذاكرتها، ومن لا ذاكرة له لا تاريخ له، ومن تُطمس ذاكرته تضيع هُويته. استعادة الذاكرة لا تعني تذكّر الماضي واسترجاعه والتمسك به فحسب، ولا تقتصر على العيش في ظلاله والتغني بأمجاده أو الركون إليه، غير عابئين بتحديات الحاضر أو محاولة استشراف المستقبل. إن استلهام الذاكرة وتوثيقها يهدف أولًا إلى إعادة قراءة التاريخ والبحث فيه لاستيعاب حوادثه، ثم استخلاص دروسه وعبره.
أطلق المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مشروع ذاكرة فلسطين، بغرض الإسهام في حفظ تاريخ فلسطين، وتوثيق حركتها الوطنية، من خلال تأسيس قاعدة بيانات رقمية تحفظ أرشيف الكيانات والهيئات السياسية، والجمعيات المحلية، ومجموعة شخصيات، وأوراق عائلية.
لم تكن مهمة جمع الأرشيف الفلسطيني سهلة، فقد اصطدمت بعوائق ومشاكل كثيرة
موقع ذاكرة فلسطين مشروع إلكتروني موجه للباحثين الجادين، يتيح لهم الاطلاع على مواد ووثائق بلغ عددها في المرحلة الأولى نحو ثلاثمئة ألف صفحة مفهرسة، اختُصر محتواها بوصف دقيق وكلمات مفتاحية تساعد الباحثين وتمكنهم من جمع المعلومات التي يحتاجون إليها، وتوثيقها من مصادرها الأولية بسهولة ويسر. كما يتيح لهم إمكانية تحميل الوثائق الأصلية والتعليق عليها، وفي المقابل يمكّنهم من الإسهام بتنمية المشروع، عبر تزويد القائمين عليه بمجموعاتهم الأرشيفية الشخصية.
يضم الموقع مجموعات رئيسة، منها المجموعة الخاصة لشخصيات ساهمت في كتابة التاريخ الفلسطيني، مثل أكرم زعيتر وصلاح خلف وعوني عبد الهادي ووليد قمحاوي وغيرهم؛ ومجموعة المنظمات السياسية، التي تتضمن أدبياتها ووثائقها؛ ومجموعة الصحف والمجلات، التي تضم وصفًا تحليليًا لأهم ما ورد في أعدادها، الأمر الذي يختصر على الباحث الجهد والوقت المبذول في سبيل الوصول إلى المعلومة.
كما يهتم الموقع بالتاريخ الشفوي، إذ يورد شهادات وروايات شفوية عديدة، ويوثّق سجلات المحاكم الشرعية في فلسطين منذ العهد العثماني، ويتتبع المؤتمرات والمحاضرات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، ويفرد مجموعة خاصة تندرج فيها إسهامات الأفراد بما لديهم من وثائق وأوراق وصور توارثوها عن أجدادهم، كما تندرج تحتها الوثائق الأردنية، والبريطانية، والأميركية، والصهيونية، والوثائق الدولية المرتبطة بالقضية الفلسطينية ومسارها.
أيضًا؛ ثمة مجموعات مساندة للمجموعات الرئيسة، تضم: البيبليوغرافيا الفلسطينية، التي تعرض بيانات إصدارات الكتب المتعلقة بفلسطين، وفهرس الإعلام الذي يتضمن سيَرًا ذاتية لأبرز الإعلاميين، الذين أدّوا أدوارًا مؤثرة في التاريخ الفلسطيني، وفي كل صفحة من صفحات الإعلام يدرج الموقع آليًا كافة الوثائق المستخرجة من المجموعات المختلفة، والمتعلقة بالشخصية المشار إليها، وينطبق ذلك على فهارس الأماكن والموضوعات والمستعمرات والمستعمرين، إضافة إلى مسرد زمني يمكّن الباحث من البحث عن الوثائق في فترات زمنية محددة. يأخذ هذا المسرد خطًا زمنيًا مقسمًا إلى حِقبٍ تاريخيةٍ، تتحدد في كل حِقبة أعوام مقسمة إلى أشهر، وتتوزع تحت كل واحدة منها الوثائق المتعلقة به.
يلاحظ المستخدم لموقع ذاكرة فلسطين تعدد خيارات البحث وتنوعها، فهناك البحث المتقدم على مستوى الموقع كاملًا بجميع محتوياته، أو على صعيد المجموعات الرئيسة والفرعية والمساندة، وهناك البحث من خلال الوصف والمسرد الزمني والكلمات المفتاحية، أو من خلال تصنيفاته المتعددة، مثل اليوميات والرسائل والتسجيلات الصوتية والمرئية ومحاضر الاجتماعات والصور والبيانات والكتب الرقمية، التي تبلغ نحو خمسين تصنيفًا.
أطلق المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مشروع ذاكرة فلسطين، بغرض الإسهام في حفظ تاريخ فلسطين
استغرق العمل على هذا الموقع نحو خمسة أعوام، كي يصل إلى المتصفح بصورته الحالية، وهي صورة يسعى القائمون على الموقع دومًا إلى مراجعتها وتحسينها ورفدها بالمزيد من الوثائق والمجموعات، واستقطاب شركاء ومساهمين جدد، فهو مفتوح أمام جميع المهتمين والحريصين على جمع شتات الذاكرة الفلسطينية، ويحسبها كاتب المقالة مهمة تتولاها عادةً الدول، عبر مؤسساتها ومكتباتها الوطنية، وقد تولاها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات؛ بتشجيع من إدارته، نظرًا إلى خصوصية القضية الفلسطينية وعدالتها ومركزيتها. وقد وضع القائمون على هذا المشروع هدفًا بأن يتجاوز عدد الصفحات المفهرسة على الموقع المليون صفحة خلال هذا العام.
لم تكن مهمة جمع الأرشيف الفلسطيني سهلةً، فقد اصطدمت هذه المهمة بعوائق ومشاكل كثيرةٍ، بدايةً من مشكلة النهب المنتظم الذي مارسه الصهاينة منذ عام 1948، لما ضمّته المكتبات والمنازل والمؤسسات الفلسطينية من أرشيف ووثائق، حتى بات جزء كبير منها مسروقًا لديهم، وبات واجب استعادة ذاكرتنا المنهوبة مهمةً وطنيةً.
في حرب النكسة عام 1967؛ استولى الاحتلال الإسرائيلي على الأرشيف الأردني الذي كان موجودًا في الضفة الغربية، كما سرق أرشيف مركز الأبحاث الفلسطيني، الذي نُهب عند اجتياح بيروت عام 1982، وتكفلت أجهزة الأمن العربية بمصادرة وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية عند اعتقال الناشطين؛ من الممكن القول "إن الأرشيف الأكبر لذاكرة فلسطين موجود في أقبية هذه الأجهزة".
إضافةً إلى ذلك؛ ساهم كل من الهجرة والشتات الفلسطيني بدورهما في فقدان جزء كبير من الذاكرة، شأنهما شأن الحروب والمعارك، ما كان منها مع العدو، وما نشب منها مع الصديق، وقلة هي القيادات الفلسطينية التي تمكنت من المحافظة على أوراقها ومقتنياتها خلال هذه الحروب والأزمات المتلاحقة، ومع اضطرارها إلى الرحيل المستمر من مكان إلى آخر في ظروفٍ صعبةٍ، عبر مسيرتها الطويلة.
بمقدار ما تنطبق هذه الحالة على الأفراد تنطبق أيضًا على المؤسسات والفصائل والأحزاب، فكم بقي من أرشيف تلك المؤسسات والهيئات بعد حوادث سبتمبر/أيلول 1970، أو بعد حرب عام 1982 وخروج المقاومة من بيروت، أو خلال سنوات الخلاف السوري – الفلسطيني، وفي أثناء حرب المخيمات والانشقاق وحصار طرابلس، سابقًا؛ تعرض أرشيف الهيئة العربية العليا للمصير ذاته، سواء كان ذلك في أثناء حرب عام 1948، أو بعد فشل حكومة عموم فلسطين، أو حين أُقفلت مكتبها في القاهرة وصودرت سجلاتها، وكذلك حين حُرق ونُهب منزل الحاج أمين الحسيني في الحازمية في بيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وقصص أخرى كثيرة مشابهة، منها ما تعرض له أرشيف السينما الفلسطينية، الذي أودع لدى السفارة الفرنسية وقت خروج القوات الفلسطينية من بيروت، وبعد إغلاق السفارة نُقل إلى مسجد، ثم إلى مستشفى، وأخيرًا ضاقت السبل فنُقل إلى مستودع أحد التجار الذي دهمته المخابرات السورية، حين اعتقلت صاحب المستودع للاشتباه بارتباطه بحركة فتح، ومنذ ذلك الحين اختفى ذلك الأرشيف الثمين، وفقدت الذاكرة الفلسطينية الجزء الأكبر من أرشيفها المصور.
لم تكن مهمة جمع الأرشيف الفلسطيني سهلةً، فقد اصطدمت هذه المهمة بعوائق ومشاكل كثيرةٍ
ثمة عقبات أخرى اعترضت طريق العمل، تمثلت في قلة عدد القيادات التي دونت يومياتها، أو كتبت مذكراتها لاحقًا، قياسًا بشخصيات تاريخية مثل أكرم زعيتر وعوني عبد الهادي وغيرهما، وربما لم يحالف الوقت بعض أصحابها، إذ استشهدوا قبل أن يفعلوا ذلك، ومن كان حريصًا منهم على التدوين ما زالت عائلته تحتفظ بأوراقه أو تخشى نشرها، وبعضهم لم يقدّر ورثته قيمة ما ترك، فانتقل جزء من أرشيفه مع أثاث منزله الذي بيع لأحد تجار الأثاث المستعمل، فحالفنا الحظ أحيانًا بالعثور على بعض منه، بعد أن فُقد منه ما فُقد.
تتمثل العقبة الأخيرة في حرص السلطة الفلسطينية على عدم نشر هذه الوثائق، التي تكشف الكثير من تاريخ الثورة الفلسطينية، وتُظهر تراجع البرامج السياسية، فهي مثلًا لا تتيح للباحثين الاطلاع على أرشيف ياسر عرفات، الذي كان يُعرف عنه اهتمامه بتسجيل كل كلمة وحدث، وكان يحتفظ بأرشيفٍ غنيٍ وكبيرٍ. هذا غيض من فيض، لكن في المقابل ثمة ظواهر مشرقة تتمثل في تنبه العديد من روابط القرى والمدن الفلسطينية، ومخيمات اللاجئين، والعائلات، والمؤسسات البحثية والجمعيات الأهلية لأهمية هذه المسألة، وتوجهها إلى جمع الوثائق المتاحة كّلٌ في محيطه، وتدوينها وفهرستها، وهو جهدٌ كبيرٌ يحتاج إلى متابعةٍ ورعايةٍ واهتمامٍ مستمرٍ.