ظل رئيس أساقفة جنوب أفريقيا ديزموند توتو، الذي توفي أمس الأحد عن تسعين عاماً، ثائراً على مختلف المفاهيم.
لم يكن في الكثير من مواقفه متلائماً مع حلفائه، وحدّة مواقفه جعلته أول رئيس أسود للكنيسة الأنغليكانية في جوهانسبرغ، في ذروة عصر نظام "الأبارتهايد" (الفصل العنصري بين الأقلية البيضاء والأكثرية السوداء) في جنوب أفريقيا.
ونال جائزة نوبل للسلام في عام 1984 لمعارضته نظام بلاده، بعد ثلاثة ترشيحات متتالية فاشلة في أعوام 1981 و1982 و1983.
وسبق له أن أبدى أسفه في سنواته الأخيرة لعدم تحقق حلمه في أن تصبح جنوب أفريقيا "أمة قوس قزح"، في إشارة إلى تعدد الألوان والأجناس فيها، في مؤشر إلى المسار الطويل الذي ما تزال تخطوه البلاد بعد نحو عقدين ونيّف على الانتهاء من النظام العنصري.
قاد توتو مسيرات منددة بنظام "الأبارتهايد" في الثمانينيات
في جوهانسبرغ، أعلنت الرئاسة في جنوب أفريقيا وفاة توتو، وقال الرئيس سيريل رامافوزا: "يفتح رحيل كبير الأساقفة الفخري ديزموند توتو فصلاً آخر من فصول الحزن في توديع أمتنا لجيل من العظماء، الذين تركوا لنا جنوب أفريقيا محرّرة". وأضاف "ديزموند توتو كان وطنياً لا مثيل له".
ولم تورد الرئاسة أي تفاصيل عن سبب الوفاة. وقال الرئيس: "أصالة عن الشعب برمّته، أعبّر عن عميق الحزن بوفاة" وجه بارز من وجوه التاريخ في البلد.
وأضاف رامافوزا أن توتو كان "رجلاً يتميّز بذكاء لافت ونزاهة ولم تقوَ عليه قوات الفصل العنصري. وكان على قدر كبير من الرقّة في تعاطفه مع الذين كابدوا القمع والظلم والعنف في نظام الفصل العنصري، ومع المظلومين والظالمين على حد سواء في العالم أجمع".
وتدهورت صحة توتو في الأشهر الأخيرة، ولم تعد له إطلالات علنية، لكنه كان يوجّه دوما تحية إلى الصحافيين الذين يتابعون تنقلاته، ببسمة أو نظرة معبّرة، كما حدث مثلاً خلال تلقّيه اللقاح المضاد لفيروس كورونا في أحد المستشفيات، أو خلال قداس في مدينة كابتاون احتفاءً ببلوغه سن الـ90 في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وكان الأطباء قد اكتشفوا إصابة توتو بسرطان البروستات في أواخر التسعينيات، ودخل المستشفى عدة مرات في السنوات الأخيرة للعلاج من التهابات تتصل بعلاجه من السرطان.
توتو أول رئيس أسود للكنيسة الأنغليكانية
وُلد توتو لعائلة تنتمي لإثنيتي كوسا وتسوانا، وهما من أكبر الإثنيات في جنوب أفريقيا وجوارها، في عام 1931.
وفي سنّ الـ12، انتمت عائلته، المعمدانية الأصل، إلى الطائفة الأنغليكانية، وبات خادماً في الكنيسة.
وبعمر الـ24 باشر التدريس في أحد المعاهد في جوهانسبرغ، لكنه ترك المهنة بعد ثلاث سنوات، معلّلاً ذلك بسوء المناهج التعليمية الموجّهة ضد السود.
وفي عام 1962 غادر بلاده إلى إنكلترا، حيث تعلّم اللاهوت، قبل العودة إلى جنوب أفريقيا، مدرّساً المادة نفسها في كيب تاون.
وفي عام 1975 بات أول رئيس أسود للكنيسة الأنغليكانية في البلاد، ثم أصبح الأمين العام لمجلس الكنائس في جنوب أفريقيا في عام 1977.
وفي عام 1980 تحوّل إلى مواجهة نظام بلاده العنصري بقوة، مع دعوته رئيس الوزراء، المنتمي إلى الأقلية البيضاء، بييتر فيللم بوثا، إلى إنهاء نظام "الأبارتهايد"، في أول لقاء من نوعه بين قائد أسود والحكومة العنصرية.
ودفعت مواقفه الحكومة في حينها إلى مصادرة جواز سفره. وعلى الرغم من سجنه لمشاركته في مسيرات منددة بالنظام العنصري، إلا أن توتو لم يدعُ يوماً إلى حمل السلاح.
ولخّص ذلك بقوله: "لن أدعو أحداً إلى أن يحمل سلاحاً قط. لكنني سأصلّي من أجل الذين يحملون سلاحاً، داعياً إلى أن يكونوا أقلّ قسوة".
وبعد فوزه بجائزة نوبل للسلام في عام 1984، بات توتو أول أسقف أسود في جوهانسبرغ، ودافع علناً عن المقاطعة الاقتصادية لجنوب أفريقيا، مؤيداً العصيان المدني كوسيلة لتفكيك نظام الفصل العنصري.
ومع استشعار الرئيس الأبيض، فريديريك فيللم دي كليرك، توسّع عصيان الأكثرية السوداء في البلاد، باشر سلسلة إصلاحات، مطيحاً بنظام الفصل العنصري، ومفرجاً عن كبار القادة المعارضين لهذا النظام، وأبرزهم نيلسون مانديلا.
وفي عام 1994، انتُخب مانديلا، الذي سُجن بين عامي 1962 و1990، رئيساً لجنوب أفريقيا، فقرر تعيين توتو رئيساً لـ"لجنة البحث عن الحقيقة والمصالحة" (عملت بين عامي 1996 و2003)، التي اهتمت بالكشف عن الفظائع التي ارتُكبت في زمن "الأبارتهايد".
رفض دي كليرك عمل اللجنة، مقترحاً تقديم الاعتذار ومنح العفو عن الجرائم. وعلى الرغم من استقالة توتو من عمله الكنسي للتفرّغ للجنة، إلا أنه تعرّض للانتقاد بسبب ضعف نتائجها، قياساً على فداحة الفظائع المُرتكبة ضد السود.
لم يرَ توتو بداً من مواجهة النظام الجديد في جنوب أفريقيا، منتقداً الرئيسين السابقين، ثابو مبيكي وجايكوب زوما.
ورأى أن حزب "المؤتمر الوطني" الحاكم، لم يقم بما يكفي من أجل محاربة الفقر، وأن قدراً كبيراً من الثروة والسلطة السياسية تتركز في أيدي نخبة سياسية سوداء جديدة.
كما كان توتو شديد الانتقاد لحكومة روبرت موغابي في زيمبابوي، التي تحرّرت من الاستعمار البريطاني، لكنها لم تخرج من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية، بسبب ديكتاتورية رئيسها.
إسرائيل لن تحصل أبداً على الأمن بواسطة الأسوار والبنادق
الفلسطينيون يدفعون ثمن المحرقة اليهودية
ولم تنحصر مواقف توتو ونشاطه على بلاده وجوارها فحسب، بل كان رئيساً للجنة تقصي الحقائق المستقلة، المكلفة من قبل مجلس حقوق الإنسان، حين زار قطاع غزة في عام 2008.
وفي تقرير له حول مجزرة بيت حانون، التي استشهد فيها 19 فلسطينياً في 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2006، اتهم توتو المجتمع الدولي بالفشل في القيام بدوره في احترام معاناة الفلسطينيين في غزة، وذلك بسبب صمته والذي يعتبر تواطؤاً كبيراً من قبله.
وأعرب عن صدمته بما شاهده في غزة. وجاء في تقرير البعثة، أن الإسرائيليين انتهكوا حق الفلسطينيين في الحياة، ليس فقط بالقتل، ولكن أيضاً من خلال انتهاكهم لحقوقهم النفسية والجسدية، التي ما زالت تُنتهك بطرق عديدة.
أساساً لم تكن العلاقة بين توتو والإسرائيليين على ما يُرام، إذ سبق له أن شبّه السود في جنوب أفريقيا بالفلسطينيين الذين يقطنون الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة.
وقال: لا أستطيع أن أستوعب كيف يمكن لشعب عانى الأمرّين كاليهود، أن يفرض هذا الكم من المعاناة على الشعب الفلسطيني.
وكان لافتاً، أنه حين كان توتو في الأراضي المحتلة، إجراؤه مقابلة مع صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، اعتبر فيها أن "الفلسطينيين يدفعون ثمن المحرقة اليهودية إبان الحكم النازي (الألماني)، وأن إسرائيل لن تحصل أبداً على الأمن بواسطة الأسوار والبنادق".
وقال توتو: "الغرب يشعر بالذنب تجاه إسرائيل بسبب المحرقة، لكن من الذي يدفع الغرامة؟ إنهم العرب، الفلسطينيون".
وأشار إلى أن النظام العنصري في جنوب أفريقيا حاول الحصول على الأمن بواسطة البندقية "لكن تم تحقيق ذلك فقط بعد أن اعترف بحقوق الإنسان لكافة البشر واحترمها من دون تمييز".
تجاوز توتو ثوابت أساسية في كنيسته، ومنها دفاعه عن حقوق المثليين، معتبراً أنه "لن يعبد إلهاً يكره المثليين".
ومع أنه لم يقترب من مبدأ "لاهوت التحرير" الذي ساد في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي في أميركا اللاتينية، إلا أنه لم يكن بعيداً عن ثوابت المساواة المجتمعية بين كل أركان المجتمع.
ولم تخلُ ثورته الخاصة من تأييد مبدأ "المساعدة على الانتحار"، مناقضاً جوهراً منصوصاً في مختلف أدبيات الكنائس، وهو "حق الحياة"، مشيراً إلى أنه "لا ينبغي المحافظة على الحياة بأي ثمن".
(العربي الجديد، رويترز، فرانس برس)