أظهرت النتائج النهائية للاستفتاء الدنماركي، الذي جرى أمس الأربعاء، عن اختيار أغلبية كبيرة من الدنماركيين التصويت بـ"نعم" لشطب تحفظات بلدهم على التعاون الدفاعي تحت مظلة الاتحاد الأوروبي.
وأفادت النتائج النهائية، صباح اليوم الخميس، أن 66.9 في المائة وافقوا على انخراط كوبنهاغن في التعاون الأوروبي الدفاعي.
واعتبرت رئيسة الحكومة ميته فريدركسن هذه النتيجة "تاريخية"، وذلك مع تواصل رفض الدنماركيين منذ 1992 مشاركتهم في التعاون العسكري والأمني الأوروبي، من بين قضايا أخرى تحفظوا عليها، مثل منطقة اليورو والتعاون القضائي.
والنتيجة اليوم، وفقا للقراءات المحلية، تعتبر هزيمة كبيرة لمعسكر اليمين القومي المتشدد في حزبي "الشعب الدنماركي" و"البرجوازية الجديدة"، ودفعة قوية لأحزاب الوسط.
ويراها متخصصون إشارة إلى نتائج انتخابات سبتمبر/ أيلول العام المقبل، أو في انتخابات مبكرة إن أرادت فريدركسن استغلال تقدم معسكرها.
واستطاعت رئيسة الوزراء جمع تحالف أحزاب البرلمان من شتى المعسكرات لمصلحة تزكية إزالة معوقات انخراط البلد في الجهود الدفاعية والأمنية الأوروبية.
وجاء الغزو الروسي لأوكرانيا، في 24 فبراير/شباط الماضي، ليعطي زخما جديدا وقويا لمعسكر الاتجاه الأوروبي بوجه تيار قومي متعصب كان يبشر بضرورة خروج البلد من أوروبا.
"انتصار كبير"
واعتبرت فريدركسن أن ما جرى "انتصار كبير لمعسكر تأييد التعاون في الاتحاد الأوروبي".
طعم الانتصار الذي يشعر فيه يسار ويمين الوسط المؤيد لأوروبا يستند إلى محاولات مريرة خلال 30 سنة لقلب النتيجة المتحفظة عند شعب البلد، وخصوصا مع موجة صعود القوميين المتشددين في عام 1995، بعد تأسيس "الشعب الدنماركي" (دي إف) الشعبوي.
وسيطر، صباح اليوم الخميس، مشهد عناق فريدركسن وزعيم المعارضة (من حزب فينسترا الليبرالي) ياكوب إلمان ينسن، بعد فرز 73 في المائة من الأصوات، في رسالة واضحة على "التعاون في المنتصف من أجل المصالح الوطنية للدنمارك".
ويرى هؤلاء أن هذا التعاون يعني إمكانية أن يحتل ينسن موقعا جديا في إطار تسوية تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات القادمة، وبما يعزز فرص عزل التعصب القومي.
وبدأت بالفعل ملامح أزمة "الشعب الدنماركي" من خلال تراشق واستهداف بين قياديه. فقد ذهب زعيم الحزب، مورتن ميسرشميت، إلى اعتبار ما جرى "هزيمة يتحمل مسؤوليتها رئيس الحزب السابق كريستيان ثولسن دال".
ويتوقع المراقبون والمحللون أن تنحدر شعبية الحزب، الذي يعاني أزمات قيادية وعضوية منذ عامين، سعى للتغلب عليها بضم وزيرة الهجرة السابقة إنغر ستويبرغ، المحسوبة على جناح التشدد في الدنمارك، بعد إنهاء حكم بالسجن المنزلي على خلفية تلاعبها بقضايا فصل أزواج سوريين قصر عن بعضهم.
وفي عام 2016، فُصل 23 زوجا، غالبيتهم الفوارق العمرية بينهم ضئيلة، من دون دراسة ملفاتهم بشكل فردي، بناء على توصيات الوزيرة. ووضعوا حينها في مراكز مختلفة خلال دراسة ملفاتهم.
ويستغل الحزب المتشدد الآخر، البرجوازية الجديدة، بزعامة بيرنيلا فيرموند، تراجع "الشعب" لتقديم نفسها وحزبها لزعامة معسكر التعصب القومي، من خلال التصويب على المهاجرين بصورة رئيسة والتعهد بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
إلى ذلك، اعتبر حزب "راديكال فينسترا" من يسار الوسط، على لسان زعيمته صوفي كارستن نيلسن، أن النتيجة "هي ما انتظرناه منذ 30 سنة، إنه لأمر رائع ويعني الكثير".
بل إن حزب "الشعب الاشتراكي" اليساري، الذي ساهم منذ 1993 في جعل كفة رافضي التعاون الدفاعي ترجح في الاستفتاءات السابقة، عبّر اليوم عن سعادته بالنتائج التي غير فيها موقفه بالتعاون مع بقية معسكر "نعم".
واعتبرت زعيمة الاشتراكي أن ما جرى هو "الأفضل للدنمارك وأوروبا والعالم الحر".
التعاون الأوروبي خارج الأطلسي
بشكل عملي، يعني إلغاء التحفظات على العمل تحت المظلة الدفاعية الأوروبية بدءا من الشهر القادم، وفقا لما ذكر وزير الخارجية الدنماركي ييبا كوفود قبل ظهر الخميس، أن الدنمارك، من بين أمور أخرى، جاهزة للبدء بالمشاركة الكاملة في التعاون.
ويتيح ذلك (مع الأول من يوليو/تموز المقبل) إرسال جنود دنماركيين للمشاركة في عمليات وبعثات الاتحاد الأوروبي العسكرية والأمنية خارج القارة أو على حدودها. ويمكّن ذلك أيضا من مشاركة البلد في تطوير الاتحاد الأوروبي المعدات الدفاعية وأنظمة الأسلحة. ويتيح التعاون الأمني والدفاعي لكوبنهاغن استخدام حق النقض (الفيتو) على قرارات إرسال بعثات ومهام عسكرية مستقبلا.
ولا يعتبر التعاون الدفاعي على مستوى الاتحاد الأوروبي بديلا عن "حلف شمال الأطلسي". بل "إضافة هامة إلى قدرة القارة على الدفاع عن نفسها".
ومنذ الخلافات التي دبت في علاقة ضفتي الأطلسي، أوروبا وأميركا، مع قدوم الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب، الذي وصل به الأمر إلى حد التهديد بانسحاب واشنطن من الحلف الغربي، سرّع الأوروبيون من تعاونهم تحت سقف "الدفاع الذاتي"، من دون اعتبار الدفاع الأميركي عن القارة أمرا مسلما فيه كما جرت العادة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
التعاون الأوروبي الدفاعي والأمني، خارج حلف شمال الأطلسي، يشمل رفع الاستثمارات الدفاعية الأوروبية، وبالتالي، فشطب التحفظات سيمنح الشركات الدنماركية، مثل كبريات تصنيع تقنيات السلاح "تيرما" وغيرها، تعزيز شراكتها مع الأوروبيين على مختلف المستويات، ضمن صندوق الدفاع الأوروبي.
وبينما عادة ما يكون "الأطلسي"، كحلف دفاعي، غير مشارك في عمليات تخص مصالح القارة العجوز، فإن تعاونها الدفاعي والأمني يتيح لدولها التعاون على عمليات عسكرية خارج إطار الناتو. ويشمل ذلك تطوير أنظمة التسلح الأوروبية، مثل الدبابات المسيرة ذاتية القيادة والصواريخ المشتركة ومراقبة الفضاء والمسيرات من دون طيار (الدرونز) والأمن السيبراني.
ولدى دول الاتحاد الأوروبي الآن 7 بعثات عسكرية ممتدة من البوسنة والبحر الأبيض المتوسط إلى أفريقيا.
وتلعب البعثة العسكرية الأوروبية في البوسنة دورا في الحفاظ على اتفاقية إنهاء الحرب فيها. وفي مقابل السواحل الصومالية وعموم القرن الأفريقي، تنتشر القطع البحرية الأوروبية (خارج مستوى الناتو)، لمكافحة القرصنة.
وفي مالي، تعتبر البعثة العسكرية الأوروبية جزءا من اتفاقية تدريب الماليين، وبنفس الوقت مكافحة تهريب البشر ووقف الهجرة غير الشرعية. وتنتشر نحو 11 بعثة "مدنية" أوروبية في مناطق مختلفة، وتعمل بشكل خاص على تدريب الشرطة وقوات الأمن وبناء حراسة حدود واستشارات تتعلق بالحفاظ على الاستقرار في الدول التي تستقبل تلك البعثات.