خلافات ماكرون ونتنياهو... زوبعة عابرة

25 أكتوبر 2024
نتنياهو وماكرون في القدس المحتلة، أكتوبر 2023 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- التوتر الدبلوماسي بين فرنسا وإسرائيل: منع شركات إسرائيلية من معرض الأسلحة البحرية في فرنسا أدى إلى توتر دبلوماسي، وإسرائيل قررت رفع دعوى ضد الرئيس ماكرون بسبب مواقفه المتوازنة تجاه القضية الفلسطينية.

- موقف ماكرون من القضية الفلسطينية: يعتمد على سياسة فرنسا التقليدية باعتبار الأراضي الفلسطينية محتلة، مع توازن بين دعم إسرائيل وعدم اتخاذ خطوات جذرية لدعم فلسطين، مما يعكس تأثير أنصار إسرائيل في فرنسا.

- التحركات الدبلوماسية الفرنسية في الشرق الأوسط: يسعى ماكرون لتعزيز دور فرنسا عبر مبادرات مثل دعم لبنان ووقف إطلاق النار، رغم تأثيرها المحدود، مما يثير حفيظة إسرائيل.

ضجة كبيرة في إسرائيل حول منع شركات إسرائيلية من المشاركة في معرض للأسلحة البحرية يُنظّم في فرنسا بشهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وخرج الرد الإسرائيلي عن حدود الأعراف الدبلوماسية، بالتوجه إلى رفع دعوى قضائية ضد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي اتخذ سلسلة من المواقف، منذ بداية الحرب على غزة، لا ترضي تل أبيب، وتتعارض مع سياستها.

إيمانويل ماكرون والقضية الفلسطينية

قبل الخوض في التفاصيل، يجدر تشخيص موقف ماكرون من القضية الفلسطينية بدقة، خصوصاً في ما يتعلق بالحرب على غزة، فهو يقف في الوسط ما بين الدول المؤيدة لفلسطين مثل النروج وإسبانيا وإيرلندا، وبين المؤيدة لإسرائيل وعلى رأسها ألمانيا. ويعني ذلك أن فرنسا لم تقم بتحركات، أو تتخذ مواقف جذرية من أجل وقف الحرب، ودخول المساعدات، وممارسة الضغط من أجل إطلاق عملية سياسية، من خلال الاعتراف رسمياً بالدولة الفلسطينية كما فعلت الدول الثلاث، وفي الوقت ذاته، لم تتصرف على غرار ألمانيا، وتدعم إسرائيل بالسلاح الذي تقتل به الفلسطينيين. وهذا هو الموقف الوحيد الذي ميّزها، حيث أن مواقفها الأخرى من حيث اعتبار عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 إرهابية، لم تختلف كثيراً عن ألمانيا، لجهة تشديد الإجراءات العقابية ضد المتعاطفين مع العملية.

موقف إيمانويل ماكرون من القضية الفلسطينية محكوم بعاملين: الأول هو سياسة فرنسا التقليدية تجاه القضية الفلسطينية، التي أرساها الجنرال شارل ديغول بعد حرب عام 1967، وهي تعتبر الضفة الغربية وغزة أراضي فلسطينية محتلة. وتطور هذا الموقف مع الرؤساء الفرنسيين المتعاقبين منذ خطاب فرانسوا ميتران في الكنيست الإسرائيلي عام 1982، الذي دعا فيه إسرائيل إلى ضرورة قبول قيام دولة فلسطينية مستقلة، وترجم ذلك بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، بوصفها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، واستقبل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في الإليزيه عام 1988. ومنذ ذلك الحين أصبح ذلك من الثوابت الفرنسية، لا يستطيع أن يتراجع عنها أحد، واجتهد بعض الرؤساء الفرنسيين أكثر كما هو حال جاك شيراك الذي كان متعاطفاً أكثر من غيره مع فلسطين، في حين أن كلاً من نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند، كانا يميلان أكثر إلى إسرائيل. وفي الأحوال جميعاً، لا يختلف إيمانويل ماكرون عنهما كثيراً من حيث الجوهر، لكنه أراد أن يميز نفسه من حيث الأسلوب، عن طريق التمسك بالتوازن، رغم أن التطورات التي جاء بها السابع من أكتوبر ضاغطة جداً، لا سيما أن ثقل الموقف الدولي، يميل إلى إسرائيل بسبب الانحياز الأميركي.

أنصار إسرائيل يتمتعون بثقل وازن وكبير جداً في فرنسا

العامل الثاني، يتمثل في ثقل وزن أنصار إسرائيل في فرنسا، وهو كبير جداً، ولا يضاهيه غير تأثيرهم في الولايات المتحدة، وقسم من هؤلاء يدرك بالعمق أن ماكرون لا يتحرك إلى حد يؤذي إسرائيل، ويتفهمون الهامش الذي يلعب فيه، ولكنهم يرون أن الفرصة باتت سانحة من أجل تحصيل أعلى المكاسب لإسرائيل، وباعتبار أن الرأي العام منقسم حول القضية الفلسطينية، وهناك جاليات عربية وإسلامية مؤيدة لها، فإن ماكرون يصر على اتخاذ بعض المواقف الرمزية التي يحاول من خلالها الحفاظ على التوازن، ومنها رفضه المشاركة في التظاهرة التي نُظّمت في باريس في نوفمبر من العام الماضي تحت شعار "معاداة السامية"، وذلك مخافة أن يتم تفسير المشاركة على أنها تأييد لإسرائيل.

وأعلن وزير الخارجية الإسرائيلي إسرائيل كاتس، عن بدء إجراءات قانونية ضد ماكرون، رداً على منع الحكومة الفرنسية شركات إسرائيلية من المشاركة في معرض عسكري في باريس. وقال إن إسرائيل ستتخذ إجراءً قانونياً بحق الرئيس الفرنسي لمنعه الشركات الإسرائيلية من المشاركة في معرض للتجارة البحرية، "يورونيفال". ويتمثل موقف باريس بالموافقة على مشاركة وفود إسرائيلية في المعرض من دون أجنحة أو عرض للمعدات، مشيرة إلى "أن القرار يتعلق بسبع شركات إسرائيلية". ويُعَدّ المعرض الأبرز في مجال الأسلحة البحرية عالمياً، وكان من المقرر أن تشارك فيه شركة "مسفنوت يسرائيل"، التي كانت تخطط لإقامة جناح كبير على مساحة عشرات الأمتار لعرض منتجاتها. وقرار المنع الذي تلقته ليس الأول من نوعه، بل يأتي بعد آخر مماثل قبل 4 أشهر، حين حظرت فرنسا مشاركة الشركات الإسرائيلية في معرض الأسلحة "يوروساتوري" بباريس.

وجاء الإجراء الفرنسي أيضاً في وقت حسّاس؛ حيث تشهد العلاقات الدبلوماسية بين البلدين توتراً متصاعداً، خصوصاً بعد دعوة الرئيس الفرنسي لفرض حظر على توريد الأسلحة التي يمكن استخدامها في الحرب على غزة. وقد رد عليه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بغضب، رغم أن التصريح الفرنسي لا أثر له من الناحية الفعلية، لأن أغلب السلاح الذي تحارب به إسرائيل مصدره الولايات المتحدة، ومن ثم ألمانيا، ولا تشكل الأسلحة الفرنسية والبريطانية سوى نسبة ضئيلة جداً، وهي ليست ذات طبيعة ميدانية. توقيت تصريحات كاتس سبق بأيام قليلة تنظيم باريس مؤتمراً دولياً لدعم لبنان في الرابع والعشرين من الشهر الحالي، وذلك بغرض التوصل لخطة دولية من أجل تطبيق وقف إطلاق النار، في وقت تدور تسريبات عن توجه فرنسي لصياغة مشروع قرار لوقف النار بالتعاون مع طرف إقليمي لديه خبرة بالوساطة ومعالجة الأزمات.

حجز دور شكلي

يأتي تنظيم المؤتمر تحت شعار "من أجل دعم سكان لبنان وسيادته"، وقد ولدت هذه المبادرة بعد زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو إلى بيروت في نهاية شهر سبتمبر/أيلول الماضي، ويطمح ماكرون أن ينجح في تأمين حشد دولي يسير في عدة اتجاهات، أهمها الدعم الإغاثي، والتوصل إلى وقف إطلاق نار، وتفعيل مؤسسات الدولة اللبنانية بانتخاب رئيس جمهورية، وتشكيل حكومة تخلف حكومة تصريف الأعمال. يعمل إيمانويل ماكرون من أجل أن يبلور موقفاً غير الذي تعتمده الإدارة الأميركية، التي تؤمن تغطية كاملة لحرب إسرائيل على غزة ولبنان، وتعمل على تسويقه دولياً، تحت ذريعة حق إسرائيل في الدفاع عن النفس. وينطلق الرئيس الفرنسي من خصوصية علاقات فرنسا مع لبنان وإسرائيل في الوقت ذاته، ولذلك لعب دوراً مهماً في اتفاق القمة الأوروبية التي انعقدت في بروكسل في 17 من الشهر الحالي على إيفاد رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني إلى بيروت في 18 أكتوبر، وهو ما صرحت به خلال مؤتمرها الصحافي في بيروت مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي.

يسعى ماكرون لأن يمنحه التحرك الدبلوماسي الخارجي بعض الرونق حتى نهاية ولايته

وقد سبق ذلك تصريح من ماكرون يطالب إسرائيل باحترام قوات الأمم المتحدة "يونيفيل" في جنوب لبنان التي تتعرض لاعتداءات من الجيش الإسرائيلي، وقال إنه ينبغي على إسرائيل أن تتذكر بأنها أُنشئت بقرار من الأمم المتحدة، وقد أزعج إسرائيل ذلك، ورد عليه نتنياهو مرة أخرى، وقال في بيان صادر عن مكتبه "تذكير لرئيس فرنسا: لم تنشأ دولة إسرائيل بقرار من الأمم المتحدة، بل بموجب الانتصار في حرب الاستقلال الذي تحقق بدماء المقاتلين الأبطال، وبينهم العديد من الناجين من المحرقة، خصوصاً من نظام فيشي في فرنسا". لا يحاجج نتنياهو ماكرون تاريخياً، بل هو يستخدم نغمة الابتزاز ذاتها حول مسؤولية حكومة الجنرال بيتان العميلة لألمانيا عن ترحيل يهود فرنسيين إلى معسكرات الاعتقال النازية، ويتكرر هذا التذكير لفرنسا بماضيها كلما مرّت العلاقات بأزمة، رغم أن الدولة الفرنسية أجرت مراجعة رسمية على نحو أدان حكومة فيشي.

ومهما يكن من أمر تبقى تصريحات ماكرون وتحركاته والخطوات ضد الشركات الإسرائيلية محدودة التأثير، كونها لا تقترن بأي خطوات سياسية على مستوى خطورة الوضع في الشرق الأوسط، حيث يتعرض الشعب الفلسطيني لحرب إبادة في غزة، ويواجه لبنان الذي تربطه علاقات خاصة تاريخية مع فرنسا، حرب تدمير واسعة النطاق. مع ذلك يشكل الموقف الفرنسي المتواضع محاولة لبقاء فرنسا موجودة، وصاحبة دور، ولو رمزي شكلي، في الشرق الأوسط، وهو ما لا يروق لنتنياهو، الذي يسعى إلى منع ذلك عن طريق التصريحات والهجمات الإعلامية والدعوات القانونية، التي تعد من دون جدوى من الناحية الفعلية، وتستغرق وقتاً طويلاً، والغرض منها إثارة الغبار الإعلامي، وتحريك أنصار إسرائيل للوقوف إلى جانبها وهي تخوض أكثر من حرب على جبهات عدة، وتتجه إلى حروب أخرى، تستدعي مزيداً من الدعم والتأييد الغربي.

وثمة سؤال يطرح نفسه، إلى أين يمكن أن تتطور الأزمة الحالية بين إيمانويل ماكرون وبنيامين نتنياهو؟ هناك إجماع في أوساط الخبراء على أن تأثيرها سطحي على العلاقات بين البلدين، لأن جوهر السياسة الفرنسية من إسرائيل ثابت، ولن تتوانى فرنسا في الدفاع عن إسرائيل حال تعرضها للخطر، وسبق أن صرح ماكرون مراراً وتكراراً أن لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها. وترى أوساط دبلوماسية مطلعة في باريس أن ماكرون لن يتراجع ويخضع لترهيب وابتزاز نتنياهو، وسيبقى يكرر المحاولة كي يكون لباريس مكانها في النزاع، خصوصاً في الملف اللبناني كما حصل في حرب عام 2006، حيث فاوضت فرنسا بالنيابة عن لبنان، ولعبت دوراً أساسياً في التوصل إلى القرار 1701. ويجدر هنا التوقف أمام مسألة مهمة وهي أن الرئيس الفرنسي مرّ خلال الأشهر الأخيرة بمرحلة داخلية صعبة، وربما يمنحه التحرك الدبلوماسي الخارجي بعض الرونق حتى نهاية ولايته في مايو/أيار 2027.

المساهمون