على غرار ما يحصل في أحياء كثيرة بالقدس المحتلة، يواجه المقدسيون القاطنون في حيّ الشيخ جراح، خصوصاً أولئك الذين يسكنون أرض أو حيّ كَرْم الجاعوني، على الدوام، خطر الاستيلاء على منازلهم من قبل المستوطنين. وأمام سيل الإخطارات التي تتوالى لطردهم وإجبارهم على الإخلاء، لا يجد سكّان الحي من وسيلة للدفاع عن حقّهم ومنازلهم، في هذه القضية، إلا الدخول مع المستوطنين في نزاعات قضائية تمتد لسنوات، وغالباً ما تنتهي لصالح الطرف الثاني، بسبب التواطؤ المعروف بينه وبين قضاء الاحتلال الإسرائيلي. ويحاول المتضررون أيضاً، تنظيم احتجاجات سلمية، من خلال التظاهر وغيره من الوسائل، علّ صوتهم يصل إلى جهة ما، قد تكون قادرة على منع اقتلاعهم من أرضهم، وإخلائهم لمنازلهم وعقاراتهم بالضغط والقوة.
استئناف وقلق
وعادت قضية أصحاب المنازل المهددة بالاستيلاء والإخلاء في كرم الجاعوني من أرض الشيخ جراح، وعددهم أربع عائلات، إلى الواجهة، بعدما توجهوا مجدداً إلى المحكمة المركزية الإسرائيلية في القدس المحتلة، أول من أمس الثلاثاء، للاستئناف على قرار سابق صدر لمحكمة صلح الاحتلال في القدس، العام الماضي (في أكتوبر/تشرين الأول الماضي)، ورفض خلاله قضاة المحكمة طلب العائلات إبراز ملف التسجيل الذي ادعى من خلاله مستوطنون ملكيتهم للأراضي المستهدفة بحجة التقادم، بعد مرور أكثر من 50 عاماً على مزاعمهم بملكيتهم لتلك الأراضي.
ادعى المستوطنون ملكيتهم للأراضي المستهدفة بحجة التقادم، وبتقديم أوراق مشكوك فيها
ونظرت المحكمة المركزية للاحتلال، أول من أمس، في الالتماس المقدم إليها من قبل محامي العائلات المقدسية الأربع، سامي أرشيد، واتخذت قراراً بإعادة دراسته، على أن تصدر في وقت لاحق قرارها النهائي في هذا الخصوص. وتزامناً مع الجلسة، تظاهر العشرات من المتضامنين ونشطاء السلام الأجانب، قبالة المحكمة، إلى جانب العائلات المهددة بإخلاء منازلها، والتي ارتفع منسوب القلق لديها على المستقبل ومصير أبنائها، في ما لو تقرر فعلاً تنفيذ أوامر الإخلاء الصادرة عن محكمة صلح الاحتلال.
المحامي سامي أرشيد، تحدث لـ"العربي الجديد"، عن مداولات المحكمة المركزية للاحتلال، شارحاً أنه "كان هناك استئناف من قبلنا على قرار الحكم الصادر عن محكمة الصلح الإسرائيلية في شهر أكتوبر الماضي، بحق العائلات المقدسية الأربع بقبول ادعاءات المستوطنين بالملكية اليهودية للأرض التي جرى تسجيلها لصالحهم في عام 1972". وأوضح أرشيد أنه "جرى من قبلنا استئناف على القرار لأسباب عدة، واستناداً إلى ادعاءين أساسيين عرضناهما أمام قضاة المحكمة". ويتعلق الادعاء الأول، بحسب المحامي، بتداعيات هذه القضية التي لن تتوقف عند العائلات الأربع في كرم الجاعوني، بل ستطاول حيّاً فلسطينياً كاملاً، وتشكل استهدافاً من قبل الجمعيات الاستيطانية لبناء حيّ يهودي جديد على أنقاضه. أما الادعاء الثاني فيستند، وفقاً لمحامي العائلات المقدسية، "إلى حقيقة تاريخية مفادها أن هذه العائلات الأربع التي توطّنت في الأرض بعدما رُحّلت من بيوتها في عام 1948 (تاريخ النكبة الفلسطينية)، هم من اللاجئين الفلسطينيين الذين تمّ توطينهم من قبل الحكومة الأردنية في مطلع خمسينيات القرن الماضي، مقابل تنازلهم عن تسجيلهم كلاجئين فلسطينيين على مدار أكثر من 50 عاماً". وأشار أرشيد إلى أن محكمة صلح الاحتلال في جلستها التي عقدت العام الماضي، لم تأخذ أو تنظر بقانونية وفاعلية قرار الحكومة الأردنية. وبرأيه، فإن الاتفاقية مع الأخيرة تُمكّن العائلات من هذه العقارات، وعلى المحكمة النظر في ذلك، وأخذه بعين الاعتبار.
إلى ذلك، لفت المحامي إلى أنه "حينما ادعت الجماعات الاستيطانية ملكية الأرض، وطلبت إخلاء العائلات الأربع لمنازلها، طلبنا من المحكمة أن يُبرز المستوطنون ملف التسجيل المزعوم الذي عرضوه أمام المحكمة في عام 2010". وأشار في هذا السياق، إلى أنه "حين نظرنا إلى الملف، تبين لنا تضّمنه أخطاءً كثيرة في عملية التسجيل المبنية على مستندات غير صحيحة، وبالتالي طلبنا من المحكمة اعتبار هذا التسجيل غير قانوني، لكن للأسف الشديد، فإن المحكمة رفضت في حينه النظر في ادعائنا لأسباب قالت إنها تقنية وتتعلق بالتقادم".
ورغم التواطؤ المفضوح بين محاكم الاحتلال ومستوطنيه، يتمسك أبناء العائلات المقدسية المهددة في كرم الجاعوني، بمنازلهم. هذا ما أكده المواطن عبد الفتاح أسكافي، أحد أفراد العائلات المهددة. وقال عبد الفتاح، لـ"العربي الجديد"، خلال مشاركته في وقفة التضامن مع عائلته أمام المحكمة، إن عائلته والعائلات الأخرى التي تواجه خطر الإخلاء "باقية في منازلها، ولن تغادرها، حتى لو قاموا بتكسير العفش (الأثاث) علينا وضربنا". وتساءل: "أين يريدون أن نذهب؟ أطفالنا يعيشون حالة رعب، لأنهم من الممكن أن يدخلوا إلينا في أي لحظة".
حالة القلق هذه تساور أيضاً المواطنة المقدسية أم محمد الصبّاغ، من العائلات الأربع المهددة بالإخلاء. فلدى أم محمد أسرةٌ مكونة من خمسة أبناء، وهي لا تعلم مع أسرتها إلى أي وجهة سيذهبون، إذا ما أجبروا على إخلاء شقتهم السكنية في كرم الجاعوني، بعد تلقيها إخطارات بالإخلاء لصالح جمعيات استيطانية. وأعربت أم محمد، في حديث لـ"العربي الجديد"، عن قلقها من مصير غامض، بينما تعاني أسرتها، على غرار أسر كثيرة، من الفقر، ما يجعلها غير قادرة على استئجار بيت آخر، أو حتى غرفة واحدة تعوضها عن منزلها الحالي الذي أمضت فيه وأبناؤها عقوداً طويلة. وبالنسبة إليها، فإن كلّ يوم يمر، يحمل معه مزيداً من الخوف على المصير، فيما ليس بيدها أي حيلة سوى الترقب والانتظار.
لم تأخد محكمة صلح الاحتلال أو تنظر بقانونية وفاعلية قرار للحكومة الأردنية بتوطين العائلات الفلسطينية في الحي
هذا القلق، يتشاركه جميع أبناء الحيّ المقدسي، ومنهم المواطن السبعيني محمد الصبّاغ، الذي استرجع مجدداً، هجرة عائلته الأولى خلال نكبة فلسطين عام 1948، قبل أن يستقر بهم الحال في مسكنهم الحالي خلال خمسينيات القرن الماضي. وقال الصباغ: "طردُنا من بيتنا هنا في كرم الجاعوني، يعني لنا تهجيراً آخر، ومعاناة متجددة عاشها آباؤنا أيضاً. ليس لدينا مكان آخر نذهب إليه، بينما نقترب من قرار قد تصدره محكمة الاحتلال المركزية، ربما يؤكد على قرار محكمة صلح الاحتلال بإخلائنا من منازلنا".
هجمة استيطانية في الشيخ جراح
تبلغ مساحة الأرض التي تدعي الجمعيات الاستيطانية ملكيتها منذ عام 1885، 19 دونماً. من جهتها، تنفي لجنة حيّ الشيخ جراح هذه المزاعم، متهمة جمعيات الاستيطان بتضليل المحكمة وتقديم مستندات مزورة. وكانت العائلات المقدسية قد نجحت قبل سنوات في إحضار وثائق من الأرشيف العثماني، لكنّ المحكمة رفضت مناقشتها في حينه، كما رفضت طلب العائلات بتوسيع هيئة القضاة من ثلاثة إلى خمسة قضاة.
وتشكل منطقة كرم الجاعوني جزءاً من حيّ الشيخ جراح الواقع إلى الشمال من البلدة القديمة من القدس، والبالغة مساحته 808 دونمات. ويقدر عدد سكان الشيخ جراح بحوالي 3 آلاف نسمة، وقد سُمّي الحي بهذا الاسم نسبة إلى الأمير حسام الدين بن شرف الدين عيسى الجراحي، طبيب القائد العسكري، ومؤسسة الدولة الأيوبية، صلاح الدين الأيوبي.
خلال العقدين الماضيين، شهد حيّ الشيخ جراح هجمة استيطانية غير مسبوقة من جمعيات استيطانية ادعت ملكيتها لأراض في قلب الحي، حيث تم الاستيلاء على سبعة منازل، عهدت إدارتها إلى جمعيتي "عطيرت كهانيم" و"ألعاد" الاستيطانيتين. كما موّل المليونير اليهودي - الأميركي إيرفينغ موسكوفيتش، عملية بناء نحو 40 وحدة استيطانية من أصل 200 وحدة استيطانية هناك، لتشكل واحداً من الأحياء الاستيطانية المقامة على تخوم البلدة القديمة من القدس، والتي تشكل بدورها جزءاً من حزام استيطاني مكون من 17 حزاماً استيطانياً حول القدس القديمة، أقيم بعضها بالفعل. ومن هذه الأحزمة، حي "معاليه هزيتيم" الاستيطاني، في رأس العامود، وحيّ "نوف تسيون" الاستيطاني على أراضي جبل المكبر، وحي "كدمات تسون" الاستيطاني المقام على أراضي بلدة أبو ديس.
وبالإضافة إلى الحيّ الاستيطاني في قلب الشيخ جراح، يسيطر المستوطنون على مقام هناك يحمل اسم الشيخ السعدي، حوّلوه إلى مزار باسم "الصديق شمعون". وفي المنطقة، وطّن الاحتلال عدداً من وزاراته، مثل الداخلية والإسكان، بالإضافة إلى مرافق ومؤسسات صحية وجامعية وفندقية وأمنية، أبرزها المقر العام لقيادة شرطة الاحتلال، في جوار مقر أمني آخر يشكل قاعدة لحرس الحدود الإسرائيلي تطل على منطقة كرم الجاعوني وتشرف عليها.