حوارات حول مخططات إسرائيل في الضفة الغربية 2| الضمّ وقلق الديموغرافيا

08 سبتمبر 2024
جنود إسرائيليون يوقفون امرأة فلسطينية في الضفة الغربية (رويترز)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **تصعيد الأحداث في الضفة الغربية**: منذ اندلاع الحرب على غزة، تصاعدت التوترات في الضفة الغربية مع نقل صلاحيات قانونية من جيش الاحتلال إلى الإدارة المدنية وسحب صلاحيات من السلطة الفلسطينية في مناطق "ب".

- **القلق الديموغرافي والسياسات الإسرائيلية**: إسرائيل تخشى تحول اليهود إلى أقلية، مما يدفعها لسياسات تهجير وتضييق على الفلسطينيين، ومحاولات ضمّ الأراضي دون منح حقوق المواطنة.

- **دور السلطة الفلسطينية والتناقضات الإسرائيلية**: رغم تعزيز دور الإدارة المدنية، هناك تناقضات في السياسات تجاه السلطة الفلسطينية، التي تلعب دورًا وظيفيًا في إدارة الحياة اليومية للفلسطينيين.

تتسارع الأحداث بصورة ملفتة في الضفة الغربية المحتلة منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وحتى قبلها بأشهر قليلة، في وقت يبدو فيه أن إسرائيل تخطط لضمّ أجزاء من المنطقة، ولو بصورة غير معلنة وغير رسمية، وهو ما يتضح بشكل جليّ في مخططات وزير المالية الإسرائيلي والوزير الثاني في وزارة الأمن بتسلئيل سموتريتش، الذي عمل على نقل صلاحيات قانونية كبيرة من سلطة جيش الاحتلال إلى سلطة الإدارة المدنية العاملة تحت أمرته في الضفة الغربية. ومع موافقة الحكومة الإسرائيلية على سحب صلاحيات الإنفاذ من السلطة الفلسطينية في بعض المناطق المصنفة بحسب اتفاقية أوسلو بمناطق "ب" (في صحراء القدس)، يبدو أن الوضع الراهن، الذي تغير أصلاً بشكل كبير بعد الحرب على غزة، قد يتجه إلى مزيد من التصعيد والاستيطان وسيطرة المستوطنين، وربما الضمّ.

في محاولة لتفسير تلك التحولات في السياسات الإسرائيلية تجاه الضفة الغربية، وفهم مكانتها الدينية بالنسبة لإسرائيل، وكذلك التحولات في شكل السيطرة الأمنية عليها، نستضيف في هذا الملف باحثين مختصين في الشأن الإسرائيلي، لفهم كل تلك التحولات في ظل الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة.


منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تعيش الضفة الغربية، إلى جانب التصعيد العسكري فيها، على وقع تهديدات إسرائيلية متواصلة بالضمّ، سواء من وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، أو من وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، لكن النقاش الإسرائيلي حول ضمّ الضفة لم يبدأ بالتأكيد منذ اندلاع الحرب على غزة، وإنما كان وليد سنوات طويلة من التفكير بإدارة أجساد الفلسطينيين في المناطق المحتلة، وهو ما ترافق مع اسئلة مقلقة في إسرائيل بشأن الصراع الديموغرافي وزيادة أعداد الفلسطينيين في المناطق التي تُسيطر عليها. في محاولة لفهم تلك العلاقة الشائكة بين مخططات الضمّ والصراع الديموغرافي في إسرائيل، يجري "العربي الجديد" هذا الحوار مع عز الدين أعرج، الباحث والصحافي الفلسطيني المهتم بالعنف الإحصائي وسياسات الإنجاب في سياق الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.

  • س: مع احتلال الضفة الغربية في عام 1967 وضم أراضٍ جديدة، نشأ تخوف داخل إسرائيل بشأن زيادة أعداد الفلسطينيين، وهو ما قد "يحول اليهود إلى أقلية" في المناطق التي تسيطر عليها. كيف تعاملت إسرائيل مع هذا التخوف في حينها؟

ج: مع أن القلق الديموغرافي الإسرائيلي من وجود أغلبية عربية قديم، وكان أحد دوافع تهجير مئات آلاف الفلسطينيين خلال النكبة، إلا أن حرب حزيران/ يونيو كانت لحظة حاسمة لنشوء ما يتم الاصطلاح عليه الآن بالمشكلة الديموغرافية في إسرائيل. إذ إن سيطرة الاحتلال على مساحات شاسعة من الأرض أعادت القلق من فكرة أن يصبح اليهود أقلية في ما بين النهر والبحر. وبالتالي، حسب هذا الخطاب، قد يكون على إسرائيل في حال وجود أغلبية فلسطينية أن تتخلى عن يهوديتها أو ديمقراطيتها، ولن يكون باستطاعتها أن تكون دولة يهودية ديمقراطية، حسب الادعاء السائد. فإذا سمحت للأغلبية غير اليهودية بالتصويت، ستخسر طابعها اليهودي، وإذا لم تسمح لهم، فستخسر طابعها الديمقراطي. لكن هذا التهديد يبقى جزءًا من الخطاب السياسي لا أكثر، أما على الأرض، فإن هذا القلق هو واقع بالفعل، حيث تسيطر إسرائيل على ملايين الفلسطينيين الذين لا يملكون حق التصويت، وهذا أحد أسباب توصيفها بدولة أبارتهايد.

عز الدين أعرج: قد يكون على إسرائيل في حال وجود أغلبية فلسطينية أن تتخلى عن يهوديتها أو ديمقراطيتها، ولن يكون باستطاعتها أن تكون دولة يهودية ديمقراطية، حسب الادعاء السائد

عودة إلى السؤال، فقد كانت هناك مقترحات عديدة للتعامل مع المشكلة الديموغرافية، من التهجير الجماعي كما قلت، إلى سياسات التضييق على الفلسطينيين ودفعهم للهجرة، وكذلك التحكم بمعدلات الخصوبة من خلال منع تعدد الزوجات، أو حملات تنظيم النسل، أو تشجيع النساء على التعليم، إلخ. وكلها سياسات قد تبدو عادية في سياق آخر، لكنها في السياق الفلسطيني محاولة للتدخل وإعادة تشكيل المشهد الديموغرافي. كما كانت هناك اقتراحات عديدة، مثل خطة ألون الشهيرة، التي تدعو إلى السيطرة على المناطق التي تضم سكانًا فلسطينيين أقل، والسماح ببؤر فلسطينية مكتظة بالسكان. وهناك أيضًا لاحقًا بعض القرارات السياسية الحاسمة التي ارتبطت بالمشكلة الديموغرافية، مثل قرار رئيس الوزراء السابق أرئيل شارون الانسحاب من مستوطنات قطاع غزة، وهو ما أدى إلى استقطابات هائلة داخل مجتمع المستوطنين وأيضًا في المشهد السياسي الإسرائيلي، وتحديدًا داخل حزب الليكود.

  • س: خلال الأعوام الماضية، احتدم النقاش داخل إسرائيل بشأن ضم أجزاء من أراضي الضفة الغربية، وكانت معظم الاقتراحات الإسرائيلية تتحدث حينها عن "ضم غير رسمي"، أي دون منح الفلسطينيين مواطنة داخل إسرائيل. هل هذه النقاشات كانت مرتبطة بالتخوف الديمغرافي ذاته؟

ج: الضمّ غير الرسمي هو قائم الآن بالفعل، وهذا ما يحدث على أرض الواقع؛ فإسرائيل تحتلّ كامل الأرض. الوصف الدقيق هو أن المطالبات كانت لضم قانوني أو رسمي. أي إنهاء مسألة الاستيطان واعتباره امتدادًا طبيعيًا للدولة، وإدارة السكان الفلسطينيين بشكل مباشر، دون منحهم حق التصويت. تتعدد المقترحات داخل الأحزاب اليمينية التي تدعو للضم بشأن مستقبل السكان الفلسطينيين. هناك بعض الأحزاب تتحدث عن أن منح حق التصويت غير ضروري لتكون إسرائيل ديمقراطية، وتستشهد مثلًا بنماذج مثل نموذج بورتوريكو حيث حكمتها الولايات المتحدة "الديمقراطية" لفترة طويلة بدون منح سكانها حق التصويت. هناك أحزاب أخرى تتحدث عن منح تدريجي للجنسية للفلسطينيين الذين يثبتون "ولاءهم" لإسرائيل، واستثناء الأغلبية منهم الذين يسهل تصنيفهم بأنهم معادون للدولة. لكن يمكن القول إنه لا يوجد تصور واضح بشأن مستقبل السكان الفلسطينيين في حالة الضم. غالبًا ما تستند هذه المطالبات بالضم إلى مثال غزة، حيث تقول إنّ الانفصال عن غزة لم يحقق أمنًا لإسرائيل، ولكن على العكس ساهم في صعود المقاومة المسلّحة الفلسطينية بشكل منظم أكثر.

لتقديم إجابة مباشرة عن سؤالك، فإن الدعوة إلى الضمّ الكامل لا ترتبط بالتخوفات الديموغرافية، ولكن الأوساط الإسرائيلية التي ترفض الضمّ تستخدم المشكلة الديموغرافية للتأكيد أن ضمّ الضفة الغربية لن يكون قرارًا حكيمًا بالمعنى الاستراتيجي. وهذا القلق كان عائقًا تاريخيًا أمام الضمّ الكامل للضفة.

  • س: جادلت في بحث لك أن زيادة الخصوبة عند الفلسطينيين لم تعد "مزعجة" عند الأوساط اليمينية في إسرائيل كما كانت سابقاً، هل من الممكن أن توضح لنا ما الذي كنت تقصده، ولماذا لم تعد مزعجة؟

ج: لم تعد مزعجة، بمعنى أنه لا يجب أن تكون عائقًا أمام الضمّ، بالنسبة إليهم. انتبهت أوساط إسرائيلية يمينية إلى أن الانسحاب من مستوطنات غزة كان مدفوعًا بقلق ديموغرافي، وكان بتشجيع من عالم الديموغرافيا الشهير والصديق الشخصي لشارون أرنون سوفير، وهو أحد المنظرين الأساسيين لمسألة الخطر الديموغرافي. وبالتالي فقد بدأت مجموعة يمينية يرأسها يورام إتنغر بنشر دراسات ترفض ما كان سوفير قد حذّر منه لسنوات. ادعت هذه المجموعة أنه لا يوجد خطر ديموغرافي حقيقي، وأن الأرقام التي تنشرها مؤسسة الإحصاء الفلسطينية مزيفة، وتزيد أكثر من مليون شخص، وهي الظاهرة التي أطلقت عليها اسم "فجوة المليون". لم يكن هذا النقاش علميًا، فمجموعة إتنغر لا علاقة علمية لها بالديموغرافيا، ولكن كانت لها أجندات سياسية واضحة، وهي أنه لا يجب أن نمنع مزيدًا من الضمّ بسبب القلق الديموغرافي، وأن القلق الحقيقي هو من تأسيس دولة فلسطينية، حيث ستسمح هذه الدولة بإعادة ملايين اللاجئين.

عز الدين أعرج: هناك بعض الأحزاب تتحدث عن أن منح حق التصويت غير ضروري لتكون إسرائيل ديمقراطية، وتستشهد مثلًا بنماذج مثل نموذج بورتوريكو حيث حكمتها الولايات المتحدة "الديمقراطية" لفترة طويلة بدون منح سكانها حق التصويت

لا يزال النقاش عن السكان الفلسطينيين أساسيًا بالنسبة لليمين الإسرائيلي، حيث يسعى إلى طرد أكبر قدر ممكن منهم وتقليل الخصوبة. لكن ما تغير هو أن هذه الأوساط انقلبت على الخطاب التقليدي عن المشكلة الديموغرافية من أجل الدفع لصالح مزيد من الضمّ. لكن بشكل عام لا بد من التأكيد أن شكل الاصطفاف في إسرائيل يتغير، إذ إن المساعي التاريخية، حتى غير الصادقة، للحفاظ على دولة ديمقراطية ويهودية في الوقت نفسه، لم تعد قائمة أو مهمة. الأهم بالنسبة لهذه الأوساط الآن هو دولة يهودية، وهو ما تجلى بشكل واضح في قانون القومية عام 2018. لم تعد هذه الأوساط اليمينية الشعبوية مهتمة أصلًا بالأدائية الديمقراطية، بل وتباهى مسؤولون منها بأنهم فاشيون.

  • س: في ظل هذه المعطيات، يبدو أن وجود سلطة فلسطينية تدير الحياة اليومية قد يكون من القضايا المهمة بالنسبة للحسابات الديموغرافية الإسرائيلية، خصوصاً أن هذا يسهل عليها عدم منح مواطنة للفلسطينيين في حال ضم بعض المناطق. مع هذا يبدو أن إسرائيل تعزز دور الإدارة المدنية في مناطق "ج" وحتى جزء من مناطق "ب" على حساب دور السلطة الفلسطينية، كيف يمكن تفسير هذا التناقض برأيك؟

ج: حتى دور الإدارة المدنية غير واضح. على سبيل المثال، تمنحنا جلسات الكنيست التي ناقشت المسألة الديموغرافية في السنوات العشر الأخيرة فرصة للنظر إلى علاقة اليمين الإسرائيلي بالإدارة المدنية. في كثير من الأحيان، اتهم نواب اليمين الإدارة المدنية بالتوطؤ مع الفلسطينيين وتزوير الأرقام للحفاظ على دورها والحصول على تمويل. تكررت هذه التصريحات حتى أيامنا هذه. لكن على الأرض، أتفق معك في ما ذكرته. فدور الإدارة المدنية يزداد بشكل كبير، لدرجة يتخيل فيها المرء أنّ هناك عملية تمهيدية لضمّ كل الضفة الغربية. يمكن النظر على سبيل المثال إلى ما يطلق عليها الفلسطينيون في الضفة "الممغنطة"، وهي هوية بديلة فعليًا عن الهوية التي تصدر بشكل مشترك عن السلطة الفلسطينية وإسرائيل. ومع أنها غير إلزامية، فإنه في حال احتاج الفلسطيني من الضفة للحصول على أي تصريح أو القيام بأي إجراء بيروقراطي له علاقة بالإدارة المدنية، يتعيّن عليه أن يستصدر "ممغنطة". 

قناعتي الشخصية أنه لا توجد استراتيجية واضحة في إسرائيل متفق عليها بشأن السلطة الفلسطينية، حتى في أوساط اليمين. يجب علينا أن ندرك أن اليمين في إسرائيل ليس فئة واحدة. هناك اليمين المتطرف الذي يعادي السلطة بشكل واضح، ولا يميل إلى أخذ أي أبعاد استراتيجية في عين الاعتبار. لكن هناك الليكود، الذي وإن كان لا يقل تطرفًا، إلا أن له حسابات مرتبطة بالسلطة ومؤسسات الدولة، ويعرف أن هناك أهمية استراتيجية للدور الوظيفي الذي تقوم به السلطة. لكن بشكل عام، حتى شخص مثل (رئيس السلطة الفلسطينية) محمود عباس يتم النظر إليه في مدونات اليمين على أساس أنه إرهابي وتنشر صور له وهو يقود دبابات، أو يحمل أسلحة. أمر آخر، هو أن هناك مؤسسات في إسرائيل يمكن وصفها بأنها مؤسسات غير منتخبة، مثل المحكمة العليا. وعلى الرغم من دورها الواسع في ضم الأرض وتهجير الفلسطينيين، فإن ما تقوم يشبه المأسسة لهذا العنف المتطرف، وتخلق قنوات استراتيجية له. الآن على أجندة اليمين، كما تعرف، إنهاء دور المحكمة العليا، وهو السبب الأساسي في الأزمة التي ضربت إسرائيل قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وكادت أن تطيح بإدارة نتنياهو. 

بشكل عام، فإنني أرى أن إسرائيل الآن تمر في مرحلة دقيقة، من ناحية أن هناك صراعًا ليس فقط بين فئات في المجتمع على طابع الدولة، ولكنه صراع بين المؤسسات المنتخبة وغير المنتخبة (وهو صراع موجود في الشعبويات المعاصرة)، ولكن أيضًا بين العنف الذي تقوم به المؤسسات والعنف غير الممأسس. نحن الآن نتحدث عن عشرات آلاف الإسرائيليين "المدنيين" الذين يملكون حق حمل السلاح، بل ويوجهونه بشكل يومي ضد الفلسطينيين، ولا يواجهون أي عواقب قانونية. وبالتالي فحتى التعريف التقليدي للدولة بأنها جهاز يحتكر العنف، لم يعد صالحًا في إسرائيل، حيث إن احتكار العنف لم يعد مرتبطًا بالانتماء إلى مؤسسات الدولة، ولكن الانتماء العرقي، أي حقيقة أنك يهودي، والتقديرات الضبابية لمن يتعرض للخطر ويحتاج إلى حماية نفسه. بشكل عام، هناك دفع باتجاه الانفلات من سطوة المؤسسات وما يمكن تسميته قنواتها القانونية لممارسة العنف والضم، لصالح نوع آخر من العنف المنفلت من أي حسابات استراتيجية، أي لصالح ما يسميه الفلسطينيون "قطعان المستوطنين" بما تحمل هذه الدلالة من شعبوية وفوضى وانفلات. لم يعد الطابع المؤسساتي للعنف في إسرائيل قادرًا على استيعاب واحتواء الرغبة المتصاعدة بالضمّ، وهو في تقديري الشخصي أحد الأسباب الرئيسية للانقسامات الحالية في إسرائيل. 

  • س: لكن هل هذا يعني أننا متجهون بالكامل نحو الضمّ؟ 

ج: ليس بالضرورة، ما قلته لا يعني أن ما يريده المستوطنون سيتحقق بدون شروط في المرحلة المقبلة. هناك فئات في إسرائيل حتى لو لم تكن لها سلطة تشريعية أو نفوذ في صناديق الاقتراع، لا تزال تهمين على المؤسسات غير المنتخبة وعلى التعليم والصحافة. أقول هذا مع أن هناك صعودا مستمرا لليمين في هذه المستويات، ففي الإعلام هناك صحف يمينية مثل يسرائيل هيوم، وهناك تزايد في سلطة اليمين في الجامعات، وكذلك هناك الصراع على المحكمة العليا واختزال دورها. لكن بشكل عام، فإن الفئات المذكورة التي لها سلطة غير تشريعية لها حساباتها الاستراتيجية التي قد لا تسمح للوضع بالانفجار بالكامل. كان تأثيرها واضحا في الاحتجاجات الواسعة التي حصلت في إسرائيل قبل السابع من أكتوبر، وكذلك في الإضرابات التي وصلت إلى الجيش. 

عز الدين أعرج: الضم غير الرسمي هو قائم الآن بالفعل. إنه ما يحدث على الأرض، فإسرائيل تسيطر على كامل الأرض من النهر إلى البحر

لكن دعني أعود إلى السلطة الفلسطينية، وهو أحد الأسئلة الأساسية والملحة اليوم. عندما نقول الدور الوظيفي للسلطة الفلسطينية، فماذا نعني بالضبط؟ ولماذا يرتبط ذلك بالاصطفاف داخل النخب الأمنية في إسرائيل؟ لقد ساد اعتقاد طويل في إسرائيل منذ احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة بأنه لا بد من منح الفلسطينيين هامشًا مشروطًا وضئيلًا من الازدهار أو التنمية، الذي سيمكّن من استدامة الاحتلال والقدرة على ضبط ملايين الفلسطينيين لعقود طويلة. حدث هذا قبل أوسلو بعدّة أشكال، بما في ذلك عمل الفلسطينيين في إسرائيل، ومساعدة قطاعات اقتصادية وصحية فلسطينية، جنبًا إلى جنب مع استغلالها. شخصيًا، أفكر في الدور الوظيفي للسلطة الفلسطينية على أنّه إدارة لهذا الهامش المشروط من التنمية، الذي يمكن من خلاله استدامة الاحتلال. أي أن السلطة الفلسطينية تقوم من خلال الضرائب التي تحصل على نسبة منها، والريع الدولي من إدارة هذا الهامش، وخلق نوع من الاستقرار الذي لا يتعارض مع العنف والضم البطيئين. وبالتالي، في ظل وجود السلطة، بدلًا من ضم كامل للضفة الغربية، فإن الاستيطان يتوسع تدريجيًا، وتسيطر إسرائيل على مزيد من الأراضي الاستراتيجية، وتساهم في الوقت نفسه في شرذمة الأرض الفلسطينية. 

الجانب الآخر لهذا الدور الوظيفي، هو ما ما يمكن تسميته إدارة الأجساد غير المرغوب بها. خلال جائحة كورونا على سبيل المثال، توفي عامل مصري داخل إسرائيل، لم يكن للسلطة أي دور في دخوله، ولم يدخل حتى من خلال المعابر التي توجد السلطة عليها بشكل رمزي. وقتها، طلبت إسرائيل من السلطة التعامل مع الجثة، وهو ما استغربته الأخيرة. كان هذا مثالًا رمزيًا على تصور إسرائيل بخصوص السلطة الفلسطينية، أي إدارة الأجساد التي لا تريد إسرائيل إدارتها، بمعنى ما ملايين الفلسطينيين الذي يعيشون في نقاط مشرذمة في مناطق أ و ب حسب اتفاقية أوسلو. أما موضوع مناطق جيم فهذا موضوع منفصل بالنظر إلى أنه، رغم أن المنطقة تشكل أكثر من ستين بالمئة من الضفة الغربية، فإن عدد المستوطنين فيها أكبر من عدد الفلسطينيين. ولقد فهم المسؤولون في السلطة هذا الدور جيدًا، إلى درجة أنهم في أكثر من مرة هددوا إسرائيل بحل السلطة وترك إسرائيل تقوم بجمع القمامة، في إشارة إلى إدارة التفاصيل اليومية والمكلفة والمزعجة للسكان. 

عز الدين أعرج: حسابات "اليوم التالي" للحرب أعادت النقاش بشكل مختلف ولو لم يكن واضحًا عن مستقبل السلطة الفلسطينية وأي دور محتمل لها في قطاع غزة

الآن، عودة إلى الاصطفاف داخل إسرائيل. تعي الفئات التي ترفض الضم أهمية هذا الدور الوظيفي للسلطة. فمن ناحية، فإن هناك نخبًا أمنية تهدد بأن إلغاء هامش التنمية المشروط والضئيل هذا سيترك الوضع يذهب إلى الانفجار. من ناحية أخرى، فإنها تعي كلفة الإدارة المباشرة للفلسطينيين. وخلاصة الأمر، أنه لا وجود لتصور واضح أو واحد بشأن السلطة الفلسطينية، كما أنه لا وجود لتصور واضح بخصوص الضمّ.

  • س: هل تغير الوضع بعد السابع من أكتوبر؟

ج: نعم، لكن بطريقة غير واضحة أيضًا. من ناحية، فقد سمح حجم العنف في قطاع غزة لليمين الصهيوني الديني في الضفة الغربية بممارسة مزيد من العنف، كما تم الاستثمار في الخطاب العام المسعور بعد السابع من أكتوبر، والذي تركز حول الانتقام، من أجل تسليح مزيد من المستوطنين وتعزيز نفوذهم. لكن من ناحية أخرى، فإن هذا اليمين، وبشكل لا يخلو من المفارقة، يكتسب دوره الأكبر في العنف البطيء الذي يرفضه. أي أنه يمين قضى عقودًا من الاستفزاز وتشكيل البؤر الاستيطانية والعنف المتفرق، لكن بعيدًا عن الحرب الحقيقية. الحرب الشاملة القائمة الآن لها قطاعات مختلفة في إسرائيل، ونخب أخرى، تفكر بطريقة استراتيجية أكثر، حتى لو أنه صار من الصعب تفريق شعبويتها عن شعبوية بن غفير أو سموتريتش. وذلك قد يعيد بعض الحسابات.

إضافة إلى ذلك، فإن حسابات اليوم التالي أعادت النقاش بشكل مختلف ولو لم يكن واضحًا عن مستقبل السلطة الفلسطينية وأي دور محتمل لها في قطاع غزة. لكن تبقى الأمور غير واضحة.


نبذة عن عز الدين أعرج

باحث وصحافي فلسطيني، ورئيس تحرير موقع ألترا صوت، يركّز عمله البحثي على العنف الإحصائي وسياسات الإنجاب في سياق الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.

    المساهمون