عاد الغضب مجدداً رفضاً لمبدأ الحل الليبي على أساس الأقاليم، والذي يُعبَّر عنه سياسياً، وبخجل، بمسمى المحاصصة بشرط الكفاءة، الذي تسير وفقه مسارات الحوار في كل الاتجاهات، بعد أن أعلنت البعثة الأممية عن اتفاق أعضاء ملتقى الحوار السياسي على آلية لاختيار السلطة الجديدة وفق مجمعات انتخابية في أقاليم ليبيا الثلاثة، تلاه بساعات بيان للجنة الدستورية توصي فيه بالاستفتاء على الدستور وفق ذات التقسيم الإقليمي.
على استحياء وخجل، استُخدمت طيلة الفترات الماضية صيغ مموّهة لا تريد الإفصاح والاعتراف بأن الحل لن يعقد إلا بالرجوع إلى أصل ذلك التقسيم العشائري القبلي، شرق وغرب وجنوب، مثل "المحاصصة بشرط الكفاءة"، و"المجمعات الانتخابية". لكن الحقيقة المرة، التي يحاول الغاضبون إنكارها هي كذبة "النخب" المزيفة. فليس سراً أن الكوادر السياسية في الإدارات العليا ومراكز السلطة هي مخرجات لثقافة تمثل الرابط الوحيد بين أجزاء (أقاليم) البلاد، وهي الأساس في حالة تكرر الفشل والسقوط والدوران في حلقة مفرغة.
في ليبيا لا يمكن فهم تركيبة النخب، التي توصف بـ"السياسية"، إلا بدراسة عميقة لمكونات وآليات صنع القرار طيلة أعوام تكوّنها ما قبل 1951. فالنخب التي كوّنت الأحزاب وطالبت بالاستقلال، ومن ثم شكّلت عضويات مجلس النواب والحكومات كلها، من دون استثناء، تشكلت على أساس عشائري. ولضمان حصصها، كما يؤكد مؤرخو تلك الفترة، رفضوا إنشاء عقد اجتماعي يضمن التعايش المشترك كأرضية صلبة ينشأ عليها دستور البلاد. حتى العسكر، على الرغم من الحروب الضروس التي قادها خليفة حفتر طيلة ست سنوات، فشلوا في حكم البلاد، وأرغموا في كثير من الأوقات على الرضوخ لسلطة العشيرة واللجوء لها وبناء تحالفات معها، لينسحب التقسيم المناطقي على كل الهياكل السياسية.
كانت سنوات الأزمة العشر الماضية كاشفة لتأثير التفاعلات القبلية والعشائرية في تكوين ما يوصف بـ"النخب السياسية"، ولا تزال تفرض نفسها في عملية توليد تلك النخب. ولم يعد بالإمكان الإنكار أن الحل في أساسه عشائري ومناطقي، وأنه لا يزال يتخذ من مسمى الأقاليم الثلاثة ستاراً له. لكن الخطر المقبل يتعلق بقدرة هذه "النخب" في الحفاظ على رباط العشيرة في تفاعلات التاريخ الماضي كضامن لاستمرار وحدة البلاد. وبطريقة أخرى يمكننا صوغ السؤال: هل الحل على أساس الأقاليم، أم الهدف حل الأقاليم، وتفكيكها تمهيداً للتقسيم؟