منذ أواسط القرن العشرين، واجهت الثقافة العربية، والفلسطينية منها خصوصاً، تحدّياً تمثل في بروز المشروع الثقافي "الصهيوني الاحتلالي الإحلالي"، الذي عملت دولة الاحتلال على تطويره تحت سقف الأيديولوجيا الصهيونية، وعبر أجهزة الدولة، عبر صهر ثقافات متنوعة وافدة إليها من الشتات اليهودي (أكثر من 70 جماعة ثقافية وعرقية)، لتسويق سياسي ثقافي لليهود في إسرائيل شعباً، له ثقافته المتجانسة، وبدت أسلحتها الثقافية لا تقل خطورة عن أسلحتها النارية، مستفيدة من عدد كبير من باحثين وعلماء وأكاديميين يهود في جامعات عالمية، لتنسج علاقات ثقافية واسعة مع العالم "اليهودي المسيحي"، ومن خلال عدد كبير من الوحدات الثقافية؛ دور نشر، مراكز دراسات، متاحف، معارض ثابتة ومتنقلة، وغيرها، بهدفها الحفاظ على موروث ثقافي ديني، والترويج لسرديتها القائمة على تزوير حقائق التاريخ، وعلى حق مزعوم في أرض بلا شعب، منحت السماء لشعب بلا أرض.
كان الفلسطينيون أكثر المتأثرين بهذا المشروع المتواصل، بحكم طول أمد الصراع، والتشابك الجغرافي، فشكّلت الثقافة ميداناً للصراع ضد السردية الصهيونية، وبرز دور المثقفين الفلسطينيين في مقاومة وتفنيد المزاعم الصهيونية، وكانت الثقافة ركيزة أساسية للذات الوطنية الفلسطينية. وبالتوازي مع تدعيم إسرائيل لمؤسساتها السيوثقافية، شنّت، ولا تزال، حرباً على الثقافة الفلسطينية. ومنذ عام 1948، لم تنهب العصابات الصهيونية بيوت الفلسطينيين وممتلكاتهم، بل كذلك كتبهم ومكتباتهم وصورهم وآلاتهم وأسطواناتهم الموسيقية، ودمّرت لاحقاً مؤسساتهم الثقافية، ومراكز أبحاثهم، واستولت على أرشيفاتهم ووثائقهم، واغتالت مثقفيهم. وإلى جانب احتلال الأرض أرادت احتلال الوعي والذاكرة، وتحاول سرقة تراثهم لتقدمه تراثاً يهودياً. كان على المثقفين الفلسطينيين أن يبدعوا فكراً وأدباً وفناً سبيلاً إلى تعميق الوعي الفلسطيني، وتحصين الذاكرة، وكتابة التاريخ، ورسم الهوية الفلسطينية، وإيصال الصوت الفلسطيني إلى العالم.
بعد النكبة، وفي شتات ديمغرافي، نشطت الثقافة الفلسطينية، خصوصاً بين أزقة المخيمات، وتحت ظلال منظمة التحرير الفلسطينية التي قادت كفاحه السياسي، ورعت إنتاجه الثقافي. وفي غياب الدولة والسلطة، امتلك المثقفون الفلسطينيون هامشاً للحراك السياثقافي مقارنة بأشقائهم مواطني دول الشتات، التي خضعت لاستبداد النظم العسكرية، التي حرصت على إبقاء هذا الحراك حبيس المخيمات باستثناء بعض اللحظات الكرنفالية التي أرادت أن تكون أجهزتها راعية له أمام وسائل الإعلام. كانت الثقافة الفلسطينية وسيلة نضالية في المعركة الوجودية ضد الاحتلال الصهيوني، وأداة فاعلة في حماية الهوية، ودعم فكرة الصمود، وبث الروح النضالية.
تتأثر الثقافة بالمناخ السياسي وطبيعة السلطة، ومنذ البداية مثل التداخل الحاد بين السياسي والثقافي خصوصية فلسطينية، لكن الثقافة الفلسطينية حافظت على روحها أمام نكسات العسكر والسياسة، وفي ظل تصدّع المجال السوسيولوجي الفلسطيني في الشتات، وتدمير بناه التحتية، غير مرة، منذ أيلول الأسود، مرورا باجتياح بيروت وحروب المخيمات، وطرد الجالية الفلسطينية من الكويت عقب الغزو العراقي. كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، بمعنى ما، إحدى ثمار عملية التراكم الثقافي التي أحدثها أدب المقاومة، ولعب المثقفون خلالها دورا مهما، قبل أن تفشل النخبة السياسية الفلسطينية في استثمارها استثمارا حميدا، وقبل أن يخيّم ظلام أوسلو على المشهد الفلسطيني. اعتراف السلطة الفلسطينية بدولة الاحتلال صبّ في صالح السردية الصهيونية، وبدل أن يكون المشروع الصهيوني الإسرائيلي مشروعا توسعيا يهدف لمحو السكان الفلسطينيين الأصليين، بدا وكأن هناك حركتين وطنيتين متعارضتين تسعيان إلى تحقيق السلام من خلال حل الدولتين. همّش أوسلو فلسطينيي الشتات، وعطّل دور منظمة التحرير الفلسطينية السياسي والثقافي، ومعه تخلّت السلطة الفلسطينية عن خطابها الثوري لصالح خطاب يتماشى مع إطار القانون الدولي ولغة حقوق الإنسان، ويهتم بمخاطبة الدول المانحة والإسرائيليين أكثر من اهتمامه بمخاطبة الفلسطينيين، وقبعت الثقافة الفلسطينية، المحاصرة أصلا في الداخل المحتل، تحت سلطة فقدت شرعيتها بعد تخليها عن نهج المقاومة لصالح طهو بحص التسوية السياسية، أما تنسيقها الأمني مع الاحتلال فحرم الفلسطينيين من حقهم في المقاومة، فحصّنت نفسها بأجهزتها الأمنية التي ظلّت تستنزف مواردها وميزانيتها على حساب المؤسسات الأخرى، قمعت معارضيها، وقام الانتماء لمؤسساتها على أساس الولاء لا الكفاءة، مما أدى إلى ترهل تلك المؤسسات، خصوصا الثقافية والتعليمية منها. وحلّ الأدب الرديء الذي يمجّد الرئيس وحاشيته مكان أدب المقاومة. وحين سيطرت حركة حماس على غزة عام 2007، مارست نسختها من الاستبداد، واستبدلت الإسلامي بالوطني، سعيا منها لأسلمة المجتمع والثقافة، وحوّلت الصراع مع الكيان الصهيوني إلى صراع ديني، نقل الحق الفلسطيني من الجغرافيا والتاريخ إلى الميتافيزيقا.
بتصدّع الإجماع على مشروع وطني فلسطيني، تعطل المشروع الثقافي، والعكس صحيح، وبدت المقاومة الشعبية متعثّرة تفتقد للشمولية والفعّالية، باستثناء لحظات هنا وهناك، خارج مناطق السلطة، وفي تماس مباشر مع جرائم الاحتلال الإسرائيلي. فقد الفلسطينيون اليوم وحدة قضيتهم، أرضا وشعبا، ووحدتهم النضالية، ومن دون حركة تحرر وطني، بدوا مكشوفين أمام مشاريع التطبيع، التي تهافتت عليها حكومات عربية شرقا وغربا، والتي لا تقف عند حدود معرفة الآخر الضرورية، بل تتعداه إلى قبول الآخر، وتبني سرديته الثقافية التاريخية المزوّرة، على حساب الحق الفلسطيني.
باتت الثقافة الفلسطينية الحصن الأخير بعد اختراق الفلسطينيين في المستوى السياسي، وأمامها اليوم تعرقل فعّاليتها المُقاوِمَة، ولا يبدو أن المؤسسات الثقافية الرسمية، المترهلة والفاسدة، قادرة على وضع استراتيجية تنهض بالمشهد الثقافي الفلسطيني، أما المنظمات غير الحكومية الفلسطينية، ولاعتمادها على أجندات الدول المانحة، فإنها تطالب بالحقوق الفلسطينية من خلال مصطلحات القانون الدولي، وحقوق الأنسان، ورغم أهمية ذلك، فإن الثقافة القانونية وديبلوماسيتها، ليست بديلا عن ثقافة حقوق وطنية مُقاوِمَة، وقد تتعارض معها أحيانا (مثلا، يعترف القانون الدولي باحتلال إسرائيل الاستيطاني لأراضي العام 1948 الفلسطينية)، كما أن عديدا من تلك المنظمات غير الحكومية الفلسطينية تورّطت في إقامة علاقات مع مؤسسات إسرائيلية مشابهة شرطا لتلقي المنح المالية. وإذا كان علينا بناء كل شيء، فإنه يتحتم علينا، كما يذهب جان مونيه، أن نبدأ من الثقافة، لكننا اليوم لا نمتلك فلسطينيا استراتيجية تحدد شكل ومضمون وطبيعة الثقافة الفلسطينية، وفي الوقت نفسه جوهر الهوية الوطنية، بعد أن أقصي المثقفون عن المشاركة في اتخاذ القرار الثقافي، الذي بات في ظل السلطة في يد موظفين رسميين، يتماشون في قراراتهم مع خطابها السياسي.
تبقى الحاجة قائمة لإعادة إنتاج ثقافة تحرر وطني مُقاوِمَة للاحتلال والتطبيع، تقبض على جوهر الصراع في مرحلته الراهنة، وتفكك المشروع الصهيوني بتحولاته، مما يعني ضرورة إعادة بلورة نسق ثقافي يشكّل قاعدة رئيسية لمجتمع فاعل بمنظومة قيم عليا. وعلى المثقفين التحلي بروح المبادرة، لعلّ الثقافة تُصلِحُ ما أفسدته السياسة. والإنتاج الثقافي يبدأ من النقد، فلكي تحقق الكتابة أثرها النضالي لا بد أن تكون ناجحة، والأدب الجيد، كما يذهب محمود درويش (في تقديمه لدراسات غسان كنفاني الأدبية)، "لا يتكوّن من إنكاره للأدب الرديء، وإنما يتكوّن في نقده المتّسق والمتتابع لمؤسسة سياسية تستولد الأدب الرديء وتدعم مواقفه". يستدرك فيصل درج ("بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية") أنه إذا كان نقد الممارسات السلطوية الفلسطينية، التي تغذي الأدب الرديء، شرطا للأدب الفلسطيني الصحيح "فإن الدفاع عن القضية الفلسطينية، ثقافة، يتكوّن في نقد الممارسات السلطوية العربية التي تكبح تحرر الإنسان العربي وتقمعه".