بعد مرور ثمانية أشهر على الحرب الروسية على أوكرانيا، تزداد المؤشرات إلى إمكانية انخراط بيلاروسيا في الحرب بشكل مباشر، وفتح جبهة جديدة ضد أوكرانيا من جهة الشمال لتخفيف الضغط عن القوات الروسية في الجنوب والشرق، بعدما أُجبرت على التقهقر إثر تكبّدها خسائر فادحة.
وبعد عملية تحضير طويلة للرأي العام في بيلاروسيا لتقبّل الانخراط المباشر في الحرب بحجة حماية أراضي البلاد من أي هجوم أوكراني محتمل، بدا أن الرئيس ألكسندر لوكاشينكو رضخ لضغوط الكرملين الساعي بقوة إلى تبديد صورة المهزوم بعد "أيلول الأسود" لجيشه في جنوب وشرق أوكرانيا.
وفي حين استطاع لوكاشينكو، بما يملكه من قدرة كبيرة على المراوغة، تأجيل البتّ في قضايا سياسية مهمة، مثل موضوع الاعتراف بضم القرم منذ 2014، وضمّ أربع مناطق أخرى من أوكرانيا الشهر الماضي إلى روسيا وبالتالي "دولة الوحدة" مع بلاده، يبدو أن الاصطفاف الحاد مع أو ضد الحرب، والمأزق الذي يعيشه بوتين مع تعثر غزوه لأوكرانيا، دفع لوكاشينكو إلى تقديم تنازلات لردّ الجميل للكرملين الذي ساعده على الاحتفاظ بسلطته التي تعرضت لأقسى اختبار في عام 2020.
مشاركة مينسك العسكرية المباشرة ما زالت موضع شكّ بسبب عدم وجود إجماع شعبي في الداخل
وعلى الرغم من وصول طلائع القوات الروسية ضمن القوة المشتركة مع بيلاروسيا إلى مناطق محاذية للحدود مع أوكرانيا، فإن مشاركة مينسك العسكرية المباشرة ما زالت موضع شكّ بسبب عدم وجود إجماع شعبي في الداخل للاصطفاف مع الكرملين ضد "الشقيقة السلافية الثالثة".
تضاف إلى ذلك، المخاوف ضمن قيادات الجيش البيلاروسي من الدخول في مغامرة قد تكون مكلفة من جهة خسائر في ساحة الحرب، خصوصاً أن بيلاروسيا كانت ساحة خلفية لنقل القتلى الروس الذين سقطوا أثناء معارك تشيرنيهف وكييف ومعالجة الجرحى. ويجب عدم إهمال عامل مهم آخر وهو عدم وجود ضمانات بأن محاولات توسيع "العالم الروسي" يمكن أن تستثني بيلاروسيا الأقرب عرقياً وثقافياً لروسيا.
من التحضير إلى نشر القوات
منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي، شكّلت بيلاروسيا نقطة عبور للقوات الروسية إلى المناطق الشمالية والهجوم على كييف، كما فتحت المجال الجوي أمام الطائرات والصواريخ الروسية. وقدّمت مينسك منصة للمفاوضات بين مسؤولي روسيا وأوكرانيا للتوصل إلى تسوية سياسة ووضع حد للحرب، قبل انتقال المفاوضات إلى إسطنبول بطلب من الجانب الأوكراني مع انحياز مينسك الواضح للكرملين في تبرير غزوه.
وبعد فشل السيطرة على كييف، بدأت القوات الروسية الانسحاب في بداية إبريل/نيسان عن طريق بيلاروسيا ضمن خطة لتركيز العمليات العسكرية في دونباس. وعلى الرغم من انحيازها لموسكو، سعت مينسك إلى المحافظة على علاقات مع كييف ضمن الحد الأدنى، والتأكيد أنها تركز أكثر على المساعدات الإنسانية لطرفي الصراع وتستقبل اللاجئين وتؤمن احتياجاتهم. وفي مؤشر إلى الانقسام الحاد في بيلاروسيا، سمحت السلطات لمواطنيها بالمشاركة كمتطوعين للقتال مع روسيا، فيما تطوع عدد من معارضي النظام والمتوجسين من أن بلادهم ستكون هدفاً مستقبلياً لـ"الأحلام الإمبراطورية الروسية"، في كتيبة لدعم أوكرانيا.
ونهاية الشهر الماضي، أطلقت القوات الأوكرانية مناورات وتدريبات في المناطق الشمالية الغربية تحاكي صدّ هجوم من بيلاروسيا، وفجّرت عدداً من الجسور التي تربط البلدين. وذكر سكرتير مجلس الأمن القومي الأوكراني أليكسي دانيلوف، أن بلاده على علم بأن بوتين يمارس الكثير من الضغط على لوكاشينكو، في محاولة لحمله على الموافقة على مشاركة الجيش البيلاروسي في الحرب ضد بلاده.
وذكرت تقارير للاستخبارات الأوكرانية أنه فور انتهاء الاجتماع بين بوتين ولوكاشينكو في سوتشي في 26 سبتمبر/أيلول الماضي، بدأت الاستعدادات لنقل القوات والمعدات الروسية إلى بيلاروسيا. وأشارت إلى أعمال تحديث السكك الحديدية والمطارات العسكرية على عجل.
انعطافة بيلاروسية بعد تفجير جسر القرم
ورداً على الاتهامات والمناورات الأوكرانية، شدد لوكاشينكو في 4 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، على أنه لا توجد نيّة لدى بلاده لمهاجمة أوكرانيا. وقال في مراسم اعتماد عدد من السفراء الجدد إن "البيلاروسيين لم يهاجموا أي طرف في تاريخهم. لم نكن مصدر تهديد لأحد، وسيظل الحال كذلك".
لكن التغيرات الدراماتيكية المتسارعة في المواقف البيلاروسية حصلت بعد تفجير جسر القرم في 8 أكتوبر الحالي. ففي 10 أكتوبر، قال لوكاشينكو إنه اتفق مع نظيره الروسي على نشر مجموعة مشتركة من القوات على أرض بلاده، بعدما بلغ التهديد الأوكراني مستويات غير مسبوقة. وأضاف أن بلاده تلقّت تحذيرات عبر قنوات غير رسمية بأن أوكرانيا تخطط لضرب أراضي بيلاروسيا، وعزا نشر هذه القوات إلى التهديدات للحدود الغربية لدولة الوحدة بين البلدين.
تحدث لوكاشينكو عن تلقّي تحذيرات عبر قنوات غير رسمية بأن أوكرانيا تخطط لضرب أراضي بيلاروسيا
وفي لقاء مع قيادات جيشه، جدد لوكاشينكو اتهام أوكرانيا باستكمال التحضيرات لضرب بلاده، وحذر من أن الرد البيلاروسي في حال تنفيذ مخطط "جسر القرم الثاني" باستهداف البنى التحتية في بلاده، سيكون مزلزلاً. وقبل يومين من تصريحات لوكاشينكو، استدعت الخارجية البيلاروسية السفير الأوكراني لدى مينسك إيغور كيزيم وسلّمته مذكرة احتجاج حول ما سمته استعدادات أوكرانيا لضرب بيلاروسيا.
ويوم الجمعة الماضي، أكد لوكاشينكو في حوار مع محطة "إن بي سي"، أن مينسك لا تخطط لإرسال قواتها للقتال في أوكرانيا إلى جانب روسيا. وأضاف "نحن لم نقتل أحداً (في أوكرانيا) ولا ننوي ذلك. لم يطلب منا أحد المشاركة في هذه العملية". وأوضح أن "مشاركتنا تتمثل في رعاية الروس والأوكرانيين، وتقديم الغذاء إلى الروس والأوكرانيين، وقبل كل شيء، توفير مأوى للاجئين الآتين من أوكرانيا".
وذكر أن بلاده تدعم روسيا عبر تأمين الحدود الغربية مع بولندا وليتوانيا وعدم السماح بتوجيه "طعنة من الظهر" للقوات الروسية عبر بيلاروسيا. ودعا الغرب إلى "عدم حشر روسيا في الزاوية"، والضغط على الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي لاستئناف التفاوض للوصول إلى تسوية سياسية.
ويوم السبت الماضي، وبعد حملة تحضير كبيرة للبيلاروسيين لتقبّل فكرة نشر قوات روسية في بلادهم، بحجة مخاطر هجوم أوكراني، كشفت وزارة الدفاع البيلاروسية عن وصول طلائع هذه القوات. وذكر فاليري ريفينكو، نائب وزير الدفاع ورئيس قسم التعاون العسكري الدولي، في تغريدة على "تويتر"، أن عملية نشر القوات الروسية سوف تستغرق أياماً وأن عددها يصل إلى تسعة آلاف جندي و170 دبابة.
وقال على "تيليغرام" إن "العدد الإجمالي للجنود الروس المفترض وصولهم إلى بيلاروسيا تسعة آلاف". وأضاف أن روسيا سترسل أيضاً إلى بيلاروسيا "170 دبابة وحتى 200 آلية أخرى و100 قطعة أسلحة ومدافع هاون يزيد عيارها على 100 ملم". وقال ريفينكو إن الوحدات الروسية ستنشر في "أربعة مواقع تدريب في شرق ووسط بيلاروسيا" حيث ستشارك في تدريبات تشمل "الرماية القتالية وإطلاق صواريخ مضادة للطائرات".
وحسب تصريحات سابقة للوكاشينكو، فإن عدد القوات المشتركة قد يصل إلى 70 ألفاً. وبناء على المعلومات المفتوحة المتاحة، فإن عدد الجيش البيلاروسي الذي لم يُختَبر عسكرياً منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، يبلغ 60 ألفاً من ضمنهم 15 ألف موظف مدني، ما يعني أن عدد القوات الروسية قد يبلغ 25 ألفاً حسب أقل التقديرات، ولا يستبعد أن يصل عدد القوات الروسية في بيلاروسيا إلى قرابة 50 ألفاً.
كما أعلنت وزارة الدفاع البيلاروسية، أمس الأربعاء، أنها بدأت باستدعاء بعض المواطنين للتحقق من أهليتهم للخدمة العسكرية، لكنها لا تخطط للتعبئة. وقالت إن "أنشطة التسجيل والتجنيد العسكري روتينية، ومن المتوقع أن تكتمل بحلول نهاية هذا العام".
الأهداف الحقيقية لنشر القوات
في حين يسود الشك حول مشاركة الجيش البيلاروسي مع نظيره الروسي في أي هجوم على الأراضي الأوكرانية، أو حتى أن يهاجم الجيش الروسي أوكرانيا مرة أخرى بعد هزيمة كييف، تسود قناعة في أوساط المحللين العسكريين بأن الهدف الأساسي لحشد القوات قرب حدود أوكرانيا الشمالية يكمن في إجبار الجيش الأوكراني على سحب جزء من القوات نحو الشمال لتخفيف الضغط عن القوات الروسية في جبهات القتال في دونيتسك ولوغانسك وخيرسون.
حشد القوات قرب حدود أوكرانيا الشمالية قد يستهدف إجبار الجيش الأوكراني على سحب جزء من قواته نحو الشمال
ومن الواضح أن عدم خسارة الحرب يتصدر أولويات روسيا حالياً، إذا لم تفلح في تجميد النزاع. وفي هذا الإطار يمكن النظر إلى خطوة لوكاشينكو على أنها محاولة لمساعدة بوتين عبر ممارسة ضغط على أوكرانيا لسحب جزء من قواتها نحو الشمال من دون التورط في حرب مباشرة.
ومما يقلل من احتمال غزو بري جديد لأوكرانيا من جبهة بيلاروسيا، هو عدم وجود عدد كافٍ من المعدات والأفراد. وللتذكير فإن أكثر من 25 ألف جندي روسي لم يستطيعوا تنفيذ مهمة السيطرة على المناطق المحاذية لبيلاروسيا وصولاً إلى كييف في بداية الحرب، ما اضطرهم لاحقاً إلى الانسحاب، ما يعني أن الجيش الروسي بحاجة إلى عدد أكبر بكثير في حال أراد معاودة الكرة مرة أخرى.
ولا يوجد إجماع في صفوف قيادات الجيش البيلاروسي على المشاركة في أي عملية عسكرية محفوفة بمخاطر فقدان هيبته كما حصل مع الجيش الروسي الأكثر عدداً وعدة والأفضل استعداداً.
ولا يمكن استبعاد أن الجانب الروسي يمكن أن يستعين بالمدربين العسكريين وساحات التدريب في بيلاروسيا من أجل تدريب جنود الاحتياط الذين تم جمعهم نتيجة التعبئة الجزئية، في ظل عدم وجود أعداد كافية من المدربين الروس، لتسريع إعداد مقاتلين جدد وزجّهم في ساحات القتال لوقف تقدم الأوكرانيين في الجنوب والشرق.
ومن المؤكد أن هامش المناورة تراجع كثيراً بالنسبة للوكاشينكو بسبب الضغوط الروسية. ولكن رغبته بالمحافظة على حكمه ربما تلعب دوراً حاسماً في عدم توجيه قواته نحو أوكرانيا لأنه يغامر حينها بإمكانية استئناف التظاهرات ضد حكمه بسبب الرفض الشعبي للحرب ضد أوكرانيا، والمخاوف من أن بيلاروسيا قد تكون الضحية المقبلة. من جهة أخرى فإن المشاركة البيلاروسية في الحرب تغلق نهائياً باب الحوار مع الغرب الذي سيشدد من العقوبات على اقتصادها المتهاوي وتراجع الدعم السخي الكرملين الغارق في تمويل حربه على أوكرانيا.
والأرجح أن لوكاشينكو الذي وجد أنسب الطرق للتخفيف من ضغوط بوتين والموازنة بين اعتماده من ناحية على روسيا وبوتين شخصياً للبقاء في السلطة، وفي المقابل فصل مصيره قدر الإمكان عن مصير بوتين في حال خسارة الحرب، سيواصل المراوغة. ولكن السؤال حول ما إذا كان بوتين سيواصل تفهّم موقف لوكاشينكو الذي يماطل بالاعتراف بضم القرم ودونباس وخيرسون وزابوريجيا.