"سأعود بطريقة أو بأخرى". هذا ما وعد به الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب جمهوره، أول من أمس الأربعاء، لدى مغادرته البيت الأبيض، للمرة الأخيرة، إلى حيث سيكون مقرّ إقامته الرسمي في ولاية فلوريدا. هناك، سيبحث الرئيس الجمهوري الذي لم يفز بولاية ثانية، أكثر من سيناريو للبقاء قوياً على الساحة السياسية، بعدما أصبحت "الترامبية" علامة فارقة في التاريخ الأميركي. وعلى الفور، خرجت تقارير إعلامية للحديث عن بحث ترامب بتأسيس حزبٍ ثالث، في مواجهة الحزبين الديمقراطي والجمهوري العريقين، قد يحمل اسم "الحزب الوطني" أو "حزب الوطنيين". هذا الحزب، إن أبصر النور، فليس معلوماً ما إذا كان سيتزعمه ترامب للترشح مرة ثالثة للرئاسة، بعد أربعة أعوام، وهو أمر يتوقف على فشل محاولة عزله للمرة الثانية في الكونغرس، بتهمة التحريض على اقتحام مؤيديه مبنى الكابيتول، في 6 يناير/ كانون الثاني الحالي.
وإذا كان ترامب قد احتاج 30 عاماً من التفكير ليترشح أخيراً للرئاسة في العام 2016، لا سيما بسبب إحباطه من سياسات سلفه باراك أوباما، ولو أنها رغبة ظلّت تراوده طوال سنوات عمله في إدارة الإمبراطورية العقارية لآل ترامب، فإن الوقت ليس طويلاً أمام الرجل السبعيني، لاستكمال "نضاله" السياسي، و"جعل أميركا عظيمة مجدداً". لكن كثيرين، في مقابل الـ75 مليون أميركي الذين صوّتوا لترامب في انتخابات 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، لا يزالون ينظرون إلى ترشح ترامب في 2016، وسلوكه طوال عهده، كاستكمال لتجارة مربحة للعائلة. ولن تكون بعيدة عن ذلك، برأيهم، إمكانية ظهور حزب جديد، ولو متطرف، يكون ترامب زعيمه، أو زعيمه الروحي. وبرأيهم أيضاً، فإنه سيكون في صلب أي حزب لترامب، كلّ من أولاده إيفانكا وإريك ودونالد ترامب جونيور، وصهر العائلة جاريد كوشنر، وأفراد آخرون من عائلة الملياردير الأميركي.
قد يحمل الحزب الذي سيؤسسه ترامب اسم "الحزب الوطني" أو "حزب الوطنيين"
لكن هذا التصور لفكرة تأسيس ترامب حزباً جديداً، لا يحجب الحقائق الأكثر خطورة، والتي قد تدفعه لمثل هذه الخطوة، ومنها مواصلة قاعدته الشعبية، من الأميركيين ذوي النزعة الانعزالية والتعصب العرقي والعنصرية، ومعاداة العولمة، لوفائهم للرئيس الخاسر بعدما صوتوا له بكثافة في الانتخابات الأخيرة.
وكانت صحيفة "نيويورك تايمز" قد كتبت، في يناير 2016، أن حلم الأميركيين بوجود مرشح وسطي لحزب ثالث في تاريخ الولايات المتحدة لم يمت يوماً، لكن تأسيس حزب من اليمين المتطرف لم يكن وارداً يوماً في قاموسهم المعلن. وربما يكون ذلك قد ظلّ مستتراً قبل وصول أوباما إلى البيت الأبيض. فبخلاف مرشحي مرحلة العبودية، لم يأت رئيس متطرف إلى البيت الأبيض قبل دونالد ترامب، ولم يظهر حزب سياسي متطرف، بالمعنى التقليدي. وفي انتخابات الرئاسة التي تنافس فيها كلّ من ترامب ووزيرة الخارجية السابقة الديمقراطية هيلاري كلينتون، كان التصور لدى قاعدتي كلا الحزبين الأساسية هو أن المعركة تجري لكلّ منهما بين السيئ والأسوأ. وأظهر تقرير لمعهد "غالوب"، في سبتمبر/ أيلول 2016، أن 57 في المائة من الأميركيين يواصلون الاعتقاد بوجود حاجة ملحة لتأسيس حزب أميركي ثالث. ولفت المعهد إلى أن هذا الرقم كان منقسماً بتعادل بين المؤيدين للحزب الثالث أو الراضين عن أداء حزبيهما التقليديين، بين 2008 و2013، أي خلال فترة حكم أوباما.
وفي تقرير لها نشر أول من أمس الثلاثاء، ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال"، أن ترامب بحث خلال الأيام الماضية مع مساعديه فكرة تأسيس حزب جديد، بحسب مصادر مطلعة، في محاولة لمواصلة التأثير السياسي بعد مغادرته البيت الأبيض. وذكرت الصحيفة أن ترامب قال إنه يريد أن يطلق على الحزب الجديد اسم الحزب الوطني. وربطت "وول ستريت جورنال" الخبر بالخلافات والابتعاد الذي حصل بين ترامب وقيادات جمهورية بارزة، كزعيم الأغلبية السابقة في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل. وقالت الصحيفة إن أي محاولة لإنشاء حزب ثالث ستلقى معارضة قوية على الأرجح من المسؤولين في الحزب الجمهوري. وعلّق السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، الذي عارض ترشح ترامب للرئاسة في 2016، ثم أصبح من أبرز حلفائه، بقوله لشبكة "فوكس نيوز": "آمل ألا يقدم (ترامب) على مثل هذه الخطوة. آمل أن يبقى زعيم الحزب. إن الجمهوريين الذين يريدون محو ترامب، سيكونون فعلياً (إذا ما دفعوه لتأسيس حزب ثالث) في طور محو أنفسهم". وذكرت "أسوشييتد برس" أن ترامب قد ينكفئ بعض الوقت في منتجعه في فلوريدا، حيث سيكون منشغلاً بطلب مساءلته وعزله الذي أصبح في يد مجلس الشيوخ.
وكانت وجوه إعلامية من اليمين المتطرف الأميركي قد تداولت اسم "الحزب الوطني" على منصات التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية. وذكر موقع "فوربس" أن ترامب ربما يكون قد استمد الاسم منها. وكان تقرير نشر عام 2013 في مجلة "تكساس مانثلي"، قد تحدث عن عريضة وقعها داعمون لترامب في الولاية، حين كان لا يزال نجم تلفزيون الواقع ورجل أعمال يدلي بتصريحات سياسية ويدعم مالياً مرشحين رئاسيين، للطلب منه تأسيس حزب باسم "جعل أميركا عظيمة مجدداً"، وهو شعار رفعه للمرة الأولى الرئيس الأسبق رونالد ريغان. لكن بحسب المجلة، فإن ترامب نفى علاقته بالعريضة، كما أن قانون تكساس يمنع تسجيل اسم حزب يتضمن أكثر من ثلاث كلمات. وحين كان مرشحاً للرئاسة في 2016، حذّر ترامب، الذي كان قد نقل تسجيله الحزبي أكثر من مرة من ديمقراطي إلى مستقل إلى جمهوري، الحزب الجمهوري من مغبة دعم مرشح رئاسي ينتمي إلى حزب ثالث، إذا ما فاز هو بترشيح مؤتمر الحزب، معتبراً أن مثل هذه الخطوة ستمنح الديمقراطيين ومرشحتهم كلينتون الفوز.
ولطالما اعتبر النظام السياسي الثنائي الحزبية، في الولايات المتحدة، والتي تعتبر من الديمقراطيات العريقة، متيناً، لا سيما أولاً، لجهة صلابة الولاءات والانخراط والوفاء الشعبي لأي من الحزبين التقليديين، أو انتخابياً، لجهة نظام تصويت المجمع الانتخابي، أو "أول الفائزين يأخذ كلّ الأصوات". ويعني ذلك، كما كل مرّة في التاريخ الأميركي، فإن أي مرشح لحزب ثالث ليس بإمكانه سوى أن يكون من "المُفسدين". هذا الأمر قاله الحزب الديمقراطي قبل أربعة أعوام، عن المرشحين غاري جونسون (الحزب الليبرتاري)، وجيل ستين (الخضر)، متهماً إياهما بمنح ترامب الفوز.
وعرف التاريخ الأميركي نظرية الإفساد الانتخابي طويلاً، لكن أكثرها استذكاراً كان عندما حشد الجمهوري تيودور روزفلت (رئيس الولايات المتحدة من 1901 إلى 1909)، التقدميين في الحزب، تحت مسمى الحزب التقدمي أو "ذا بول موز"، لمقارعة مرشح الجمهوريين الرئيس ويليام هوارد تافت، في 1912، ما أدى إلى فوز الديمقراطي وودرو ويلسون. وحصد روزفلت 27 في المائة من الأصوات حينها. وللمفارقة، فإنه بعد "إفسادهم" لإمكانية فوز الديمقراطيين في 2016، فإن مرشحي أحزاب الدرجة الثانية في البلاد، أفادوا الحزب الأزرق في 2020. وبحسب الاستطلاعات، فإن ناخبي الأحزاب الثالثة صوّتوا بكثافة هذه المرة لجو بايدن، لمنع بقاء ترامب في البيت الأبيض. وكان التصويت لجونسون وستين قد بلغ قبل أربعة أعوام حوالي 7.8 ملايين صوت، لكنه انتهى للأحزاب "الثالثة" في 2020 بحدود 2.8 مليون صوت.
سيعزز عزل ترامب صورته كضحية لدى مناصريه، خصوصاً الأميركيين في الأرياف العميقة في الجنوب
وستبقى نظرية الإفساد قائمة إذا ما مضى ترامب في تنفيذ انتقامه، لا سيما من السياسيين الجمهوريين الذين خذلوه، كما أن إمكانية عزله ستُعزز صورته كضحية بالنسبة لمناصريه. هؤلاء، الأميركيون خصوصاً في الأرياف العميقة في الجنوب، يرون في وصول بايدن إلى السلطة وعودة قادة جمهوريين إلى مواقعهم التقليدية، انهياراً لكل ما سعى ترامب لتنفيذه من أجلهم. وتتمحور مشاغلهم الأساسية، بعدما تدنت مستويات معيشتهم طوال عقود، حول الاقتصاد، والحرب التجارية مع الصين، ومحاربة العولمة والفساد السياسي في واشنطن، وغلق الحدود وطرد المهاجرين، ومقارعة "الدولة العميقة"، وإغلاق ملف مكافحة الاحتباس الحراري، الذي يعتبرونه مضراً بفرص عملهم. في المحصلة، فإن قاعدة ترامب تربط بينه وبين تحسن الاقتصاد ما قبل وباء كورونا، وتربط ذلك بأيديولوجية الانكفاء ومحاربة العولمة التي أدخلت البلاد في مراحل من الانكماش الاقتصادي.
وإذا ما مضى ترامب في خطته، فقد لا يقتصر أثرها على إفساد فوز الجمهوريين في الانتخابات المقبلة، أياً كان شكلها. تقسيم الحزب الجمهوري، بين "الترامبيين" و"أبداً لا لترامب"، أصبح، بحسب متابعين، أمراً واقعاً، سواء أسسّ الرئيس السابق حزباً ثالثاً أم لا. فبالنسبة إلى بقاء تأثيره في الحزب، فهو قد يبقى "زعيماً" للحزب المحافظ بحكم الأمر الواقع. ويحصل ذلك، لا سيما بسبب قدرته على تنصيب الموالين له في هيكلية الحزب، ودعم المرشحين، وتحدي مرشحين تقليديين في التمهيديات، ودعم أفراد عائلته للوصول إلى مناصب حكومية رفيعة، أو حتى للبيت الأبيض.
ورأى ريك ويلسون، من "مشروع ويلسون"، وهي لجنة عمل سياسية أنشئت لمنع دونالد ترامب من الترشح للرئاسة في عام 2016، أنه مع إمكانية انشقاق الحزب الجمهوري، فقد "أصبحنا في صلب الحزب الثالث، لكنه لن يكون حزباً أميركياً، بل سيُسّخر للسلطوية، ولرغبات عائلة واحدة، ومعارضة أي شيء قد يقف في طريقها، وهذه المعارضة بدأت تتبلور بطرق غير مألوفة في السياسة الأميركية". واعتبر ويلسون أن "مساحات السياسة الأميركية ظلّت، لوقت طويل، محكومة من يمين الوسط ويسار الوسط، وأن أطراف الحزبين لم تكن يوماً بهذا التأثير. اليوم، لدينا صوت في اليمين المتطرف، وهو الترامبية". ورسم ويلسون صورة قاتمة عن مستقبل الحزب الجمهوري إذا ما مضى ترامب في خطته، بقوله إنه سيصبح حزباً صغيراً على غرار "حزب ميت رومني (المعارض لترامب) وغيره". وبرأيه، فإنه لم يعد هناك "مؤسسة حزب جمهوري قوية لمقاومة الترامبية".