مع دخول حرب أوكرانيا أسبوعها الثالث، صار من شبه اليقين في واشنطن أنّ خطة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من البداية كانت وما زالت تغيير توازنات وتصفية حسابات جيوسياسية أوروبية، وبما يتعدى الساحة الراهنة، وأنّ العقوبات لم ولن تحمله على التزحزح.
على هذا الأساس، بدأ الحديث عن المراهنات والبدائل يتوزّع على ثلاث جبهات: صمود التصدي الأوكراني ودعمه للتحوّل إلى مقاومة مديدة؛ ثانياً، تفاقم النقمة في الشارع الروسي وربما "في الدائرة الضيقة للرئيس بوتين، علّ وعسى أن يؤدي إلى تغيير القرار؛ وأخيراً الصين بأمل أن يحرّكها تضرّر مصالحها من تصعيد وإطالة أمد الحرب باتجاه الضغط على الكرملين لوقفها.
البديل في اعتقاد معظم الدوائر الأميركية يكون في تطوير المقاومة وتحضيرها لمرحلة ما بعد سقوط كييف أو إطباق الحصار الخانق عليها
الاحتمال الأول ما زال محاطاً بالكثير من الالتباس والخلافات بين القيادة الأوكرانية والتحالف، وحتى داخل التحالف نفسه. آخر التعبيرات كانت في الجدل حول تزويد كييف بمقاتلات "ميغ-29" الموجودة بحوزة بولندا من الزمن السوفييتي. لكن واشنطن كما وارسو حسمت برفض القيام بمهمة إرسال الطائرات خشية ردة فعل روسية تؤدي إلى دخولها في الحرب، وهذا ما لا تريده إدارة بايدن.
موقفها هذا، معطوفاً على إصرار القيادة الأوكرانية على تسليح جوي وتذمرها من تقاعس واشنطن التي "يمكنها أن تفعل أكثر" بحسب الرئيس فولوديمير زيلينسكي، كشف عن وجود تباين في المقاربة وضعف في التماسك لدى التحالف، وهو بذلك يعكس حالة من البلبلة وربما الارتياب المتبادل في صفوفه.
فمطالبة زيلينسكي "بحظر جوي" فوق بلاده محكومة بالتحوّل إلى اشتراك في الحرب، التي يقول بايدن إنها قد تتطور حينذاك إلى مواجهة نووية لا تجوز المجازفة بشأنها. وحتى الاستعانة بمقاتلات "ميغ-29" غير ذي جدوى لأسباب لوجستية، وكذا لعدم التكافؤ مع سلاح الجو الروسي ودفاعاته عدداً وعدّة، كما يرى جنرالات متقاعدون. وبالتالي، الفكرة أصلًا غير عملية ولا مجدية ويضعها بعض الخبراء في خانة "الوهم والهوس".
البديل في اعتقاد معظم الدوائر الأميركية يكون في تطوير المقاومة وتحضيرها لمرحلة ما بعد سقوط كييف أو إطباق الحصار الخانق عليها قريباً وفق التوقعات. وهذا مرهون بقدرتها وعزمها على الاستمرار وتصميم التحالف على شد أزرها والتحول إلى سندِها الاستراتيجي، لأنه – أي التحالف – "لا خيار له سوى حرمان بوتين من نصر في أوكرانيا".
الاحتمال الثاني المتداول، ولو أنّ الرهان عليه ضعيف، يتمثل في تطور الرفض الشعبي الروسي للحرب مدفوعاً بانعكاساتها السلبية على أوضاعه وكلفة عقوباتها. فما تنقله التقارير عن التظاهرات وفرض تدابير صارمة لإخراس الاعتراضات وتقليص التغطية الإعلامية للحرب وغير ذلك من مظاهر التعتيم والقمع - كله تجرى الإشارة إليه كعوامل كابحة للكرملين، لو تصاعدت واتسعت رقعتها. وذهبت بعض المعلومات إلى حد الحديث عن بدايات تشقق في الحلقة المقربة "من الأوليغارشيين المحسوبين على بوتين، فضلاً عن نخب فنية ورجال أعمال وأحد كبار العسكريين" الذين عبّروا بطريقة أو بأخرى عن امتعاضهم من الحرب؛ خاصة أنها تبدو، وفق المعطيات، عملية طويلة ومتصاعدة، وبالتالي متزايدة الأعباء والتكاليف.
لكن يبدو أن هذه التقديرات مبالغ في تفسيرها، على الأقل في الوقت الحاضر. خاصة الكلام عن التململ في محيط بوتين، بما حمل البعض على عدم استبعاد وقوع "انقلاب" ضده. فقرار الحرب مسألة كبيرة لا بد أنّ بوتين أعدّ لتداعياتها الداخلية على الأقل في المرحلة الأولى التي لم تتجاوز ثلاثة أسابيع بعد، من دون عدم استبعاد تطور ردود الفعل لغير مصلحته في وقت لاحق.
يبقى الاحتمال الثالث التعويل على الورقة الصينية. هناك اعتقاد واسع بأنّ الرئيس الصيني شي جين بينغ يملك ما يمكّنه من مخاطبة الكرملين بصورة ضاغطة. وثمة من يزعم بأنه "الشخص الوحيد" في العالم الذي يقوى على كبح بوتين. فهو المنقذ الرئيسي لروسيا لكسر عزلتها الدولية. وبالأخص لتيسير مدفوعاتها وتعاملاتها المالية الدولية التي أجرتها في الأيام الأخيرة عبر المؤسسات المالية الصينية، حسب المعلومات الأميركية.
علاوة على ذلك، تشكل المشتريات الصينية للطاقة الروسية أحد أهم عوامل الدخل لروسيا في هذه الظروف. ثم هناك رفض الصين إدانة الحرب في الأمم المتحدة، ولو أنّ بكين ألمحت أكثر من مرة إلى عدم ارتياحها لها، مع التحذير الضمني من خطر تمددها والحث على "لجوء موسكو إلى الحوار" لحل خلافاتها مع أوكرانيا.
ففي حالة الانسداد الراهنة، وعجز الدبلومسية والعقوبات والأمم المتحدة حتى على إحداث فتحة صغيرة في جدار الأزمة، ترى جهات أميركية كثيرة – مثل السفير السابق في موسكو مايكل ماكفول ووزير الدفاع السابق وليام كوهين وغيرهما – أنّ ورقة بكين تكاد تكون فريدة ولا غنى عن توظيفها.
لكن هذا الاحتمال تعترضه عوائق، ويدور حوله خلاف في واشنطن. منذ مجيئها، وضعت إدارة بايدن الصين في منزلة الخصم الأول. ثم صعّدت خطابها وتحذيراتها بشأن تحركات الصين تجاه تايوان. لكن انفجار الحرب اضطر واشنطن لتجديد الاتصال مع الخصم الأول رغم التأزم.
فقبل أيام، تحادث وزير الخارجية أنتوني بلينكن مع نظيره الصيني طالباً إدانة الصين للحرب. ومع أنّ ذلك لم يحصل، فإنّ الإدارة تواصل السعي في ضوء شح ّخياراتها، ولو أنها تواجه اعتراضات كبيرة، في الكونغرس وغيره، من جانب المحذرين من عواقب الاستعانة بالصين التي "كانت على علم بحرب بوتين"، الذي ضمن وقوفها إلى جانبه ولو بصورة ملتوية من خلال التوقيع على ميثاق الصداقة "اللامحدودة" أثناء زيارته إلى بكين أوائل فبراير/شباط الفائت.
مع ذلك، يرى المتحمسون للورقة الصينية أنّ بكين تنطلق في سياستها الخارجية من حسابات الحفاظ على نموها الاقتصادي الذي أقام شبكة مصالح كبيرة في العالم. ومن هنا يأتي حذرها وابتعادها عن التأييد الصريح للحرب، خصوصاً أنّ علاقاتها الواسعة والغنية التي طورتها مع الأوروبيين لا بد أنها حريصة على عدم التفريط بها.
بذلك تتقاطع المصالح والحرص على الاستقرار وامتلاك الصين دوراً هي قادرة ومؤهلة لتلعبه وتكسب من خلاله هالة دولية متميزة، لتضع مفتاح منع حرب الغرب الثالثة بيدها.
المتشائمون في المقابل يرون أنّ بوتين دخل في صراع تناحري، ورتّب علاقاته مع الصين على هذا الأساس، حتى لو أعادت بكين النظر في موقفها.