منذ وقت طويل لم يعد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب رئيساً أميركياً، أو سابقاً، أو سياسياً "من خارج الصندوق" فحسب، بل يجُمع خصومه، وجزء من الحزب الجمهوري، ومن الأميركيين، على أنه مصدر خطر على الديمقراطية الأميركية التي تمكنت من تطويع المتطلبات والتحديات للبقاء والاستمرارية، وفق دستور هو الأقدم في العالم الذي لا يزال سارياً من دون انقطاع.
ومنذ انتخابه رئيساً للولايات المتحدة عام 2016، أظهر ترامب ازدراء للدستور لم يعهده التاريخ الأميركي من قبل، بل حتى جهلاً بمواده، منذ أن اجتمع مع أعضاء في الكونغرس الأميركي قبل الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري لاختيار مرشحهم للرئاسة في 2016، وسوّق لنفسه متعهداً بحماية الدستور الأميركي وكلّ مواده، بما فيها المادة 21، فيما لا يتضمن الدستور الأميركي سوى 7 مواد.
ويقول خصوم ترامب، من الحزبين ومن المعلّقين السياسيين، والمتابعين، إن جهل الآخرين، أو صمتهم عنه، شجّع الملياردير الجمهوري على أن يبقى على ما هو عليه اليوم، وصولاً إلى حدّ مطالبته، السبت الماضي، بإلغاء الدستور، وتنصيبه رئيساً، بعد إلغاء نتائج انتخابات الرئاسة التي أجريت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020.
كتب الدستور الأميركي عام 1787، وهو أقدم دستور مكتوب في العالم لا يزال سارياً من دون انقطاع
وبينما لم يعد هوس ترامب بخسارته تلك الانتخابات مقتصراً على تمسكه بنظرية المؤامرة حولها، بل تخطاه في محاولة لهزّ الأسس الصلبة التي يقوم عليها التاريخ الأميركي الحديث، يرى متابعون أن كل ذلك أصبح يأخذ من رصيد الرئيس السابق، الذي ترشح للمرة الثالثة للرئاسة، وقد يشكّل دليلاً جديداً على عدم أهليته للرئاسة، ما قد يقنع حزبه بنفض يديه نهائياً منه.
ترامب يلعب ورقة اليمين المتطرف
لكن هذا السيناريو، بعد تصريح ترامب الصادم، السبت، عبر منصته للتواصل الاجتماعي "تروث سوشيال"، قد لا يسير وفق ما يشتهي معارضو الرئيس السابق، الرافضين لآرائه ونظرياته، التي أصبحت أخيراً تضعه في محور اليمين المتطرف الأميركي بشكل نهائي.
أولى دلالات ذلك، التزام الحزب الجمهوري، أو الوجوه القيادية فيه، بل حتى معظمهم، بالصمت وعدم إدانة ترامب، الذي طالب بمنشور على منصته بـ"إلغاء جميع القواعد واللوائح والمواد، بما في ذلك تلك الواردة في الدستور"، وذلك بعد "الاحتيال والخداع على نطاق واسع"، في إشارة إلى مزاعمه حول حصول تزوير على نطاق واسع شاب الاقتراع الرئاسي في 2020.
ويبدو أن دونالد ترامب يلعب ورقة اليمين المتطرف إلى حدّها الأقصى، أو قرّر التموضع والثبات في هذه الخانة، منذ أن أعلن ترشحه للرئاسة مرة جديدة في 16 نوفمبر الماضي، وإثر خسارة عدد كبير من مرشحيه في الانتخابات النصفية للكونغرس التي أجريت في 8 نوفمبر الماضي.
وسبقت حديث ترامب عن إلغاء الدستور الأميركي، الذي أبصر النور عام 1787، إدانة هيئة محلفين في واشنطن مؤسس مليشيا "حافظي القسم" (أوث كيبرز) اليمينية المتطرفة ستيوارت رودس، ورفيقه في المليشيا كيلي ميغس، بتهمة التآمر والتمرد على سلطة الدولة، لدورهما في اقتحام أنصار ترامب مقر الكونغرس في 6 يناير/ كانون الثاني 2021، لمنع المصادقة على فوز جو بايدن بالرئاسة.
والتهمة منصوص عليها في الدستور الأميركي، في قانون أقر عقب الحرب الأهلية الأميركية (1861 - 1865)، ويجرّم كل من يستخدم القوة أو يخطط لاستخدامها في مواجهة الحكومة الأميركية. وكان ترامب قد تعهد، إذا ما عاد إلى البيت الأبيض، بالعفو عن جميع المتهمين بأحداث اقتحام الكابيتول.
كما جاء تصريح ترامب حول الدستور، الذي رآه خصومه بمثابة دعوة لإنهاء الديمقراطية الأميركية، وصادرة عن رئيس سابق يميل إلى معسكر الديكتاتورية، بعد يوم من نشر موقع "تويتر" الذي استحوذ عليه إيلون ماسك، وثائق إلكترونية داخلية حول كيفية تعامل شركة "تويتر" (قبل أن يستحوذ ماسك على ملكيتها) مع قصة نشرتها صحيفة "نيويورك بوست" حول جهاز الكمبيوتر الخاص بهانتر بايدن، نجل جو بايدن، قبيل رئاسيات 2020، وقرّرت إيقاف نشر القصة على "تويتر".
كما جاء كلام ترامب بعد أسبوع على استقباله مغني الراب كانيي ويست، الذي أصبح يشتهر بتصريحاته المعادية للسامية، ونيك فوينتيس، المروج لنظرية تفوق العرق الأبيض، والمنكر للمحرقة النازية بحق اليهود (الهولوكوست)، ما أثار تنديد البيت الأبيض.
ويُظهر كل ذلك استمرار تفاقم الصراع في الولايات المتحدة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، الذي دخل البيت الأبيض في صلب متاهاته، وجعله البوق الأول للتصويب على الرئيس الجمهوري السابق. من جهتهم، امتنع عدد كبير من الجمهوريين عن إدانة تصريحه حول الدستور، إما لعلمهم بأن ذلك يدخل في إطار الحرب المفتوحة الأوسع بين الحزبين، أو خشية من ردّ فعل ترامب، الذي رغم خسارته النسبية في الانتخابات النصفية، إلا أنه تمكن من إدخال عدد كبير من "الترامبيين" إلى مجلس النواب الجديد. لكن حديث ترامب الجديد يمنح أيضاً التيار الجمهوري الذي يطالب بإزاحة الرئيس السابق من المشهد دفعاً قوياً جديداً.
ودان البيت الأبيض، أول من أمس الأحد، دعوة ترامب إلى إلغاء الدستور، في إطار سرديته المستمرة حول "سرقة الانتخابات الرئاسية" قبل عامين، والتي يبدو أنها ستظلّ شعاره الأول لحملته الرئاسية الجديدة، لا سيما إذا ما تمكن من نيل تفويض حزبه ليكون مرشحه المقبل إلى البيت الأبيض.
وقال المتحدث باسم الرئاسة أندرو بيتس، في بيان: "لا يمكنك أن تحب أميركا فقط عندما تفوز". وشدّد بيتس على أن "دستور الولايات المتحدة وثيقة مقدسة تكفل منذ أكثر من 200 عام الحرّية وسيادة القانون في بلدنا الجميل"، ولفت إلى أن "مهاجمة الدستور وكل ما يمثله مناقضة لروح بلادنا ويجب إدانتها". ودان معظم الديمقراطيين في الكونغرس تصريح الرئيس السابق، لكن الصمت ظلّ مخيماً على معظم الجمهوريين حتى يوم أمس، بمن فيهم أسماء من داخل الفريق المعارض لبقاء ترامب في المشهد.
يعدّ الجمهوريون الذين أدانوا تصريح ترامب، على أصابع اليد الواحدة، حتى يوم أمس
وفي هذا الإطار، كتب زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ تشاك شومر على "تويتر": "الأسبوع الماضي كان يتناول العشاء مع معادين للسامية، والآن يدعو إلى إنهاء الديمقراطية الدستورية في أميركا"، معتبراً أن ترامب أصبح "خارجاً عن السيطرة ويشكل خطراً على ديمقراطيتنا. يجب على الجميع إدانة هذا الهجوم على ديمقراطيتنا".
ويعدّ الجمهوريون الذين أدانوا تصريح ترامب على أصابع اليد الواحدة، حتى يوم أمس. وكتبت النائبة الجمهورية (التي تغادر مقعدها في مجلس النواب المقبل)، ليز تشيني، وهي العضو في لجنة التحقيق النيابية بأحداث الكابيتول، والمعارضة الشرسة لترامب، على "تويتر"، إن الأخير "يؤمن بأن علينا أن ننهي العمل بجميع القواعد والمواد، بما فيها تلك الموجودة في الدستور لقلب نتائج الانتخابات. لقد كان ذلك رأيه عندما حدث الاقتحام، وسيبقى كذلك اليوم. لا شخص صادق بإمكانه بعد اليوم إنكار أن ترامب هو عدو الدستور".
وقال النائب الجمهوري العضو في لجنة الاستخبارات النيابية مايك تورنر، بدوره، إنه يعارض ويدين كلام ترامب بشدة، معتبراً أن على الجمهوريين أخذ تعليقه هذا بعين الاعتبار حينما يقرّرون اسم مرشحهم المقبل للرئاسة. كما أكد النائب الجمهوري المنتخب حديثاً مايك لاولر عدم دعمه لمثل هذه التصريحات، مضيفاً أن "الدستور الأميركي وضع لهدف حماية حقوق كل أميركي، لذلك فأنا لا أدعم هذه اللغة أو هذا الشعور (بإلغاء الدستور)".
كما أن النائب الجمهوري ديفيد جويس أثار الجدل حين أكد في تصريح تلفزيوني رفضه لتصريح ترامب، لكنه تمسك بالقول إنه سيدعم أي شخص يرشحه الحزب للرئاسة، حين سئل 3 مرات عما إذا كان سيدعم ترامب. ولم يعلّق زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب المقبل كيفن ماكارثي على تصريح ترامب، وهو ما انتهجه زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، وصديق ترامب السيناتور ليندسي غراهام.
ولدى سؤاله عن تصريحات ترامب على شبكة "فوكس"، امتنع نائب الرئيس السابق مايك بنس عن إدانتها، لكنه اعتبر أن "المرشحين الذين يركزون على الماضي، لا سيما الذين يركزون على التشكيك في الانتخابات الأخيرة، لم يحالفهم الأداء الجيد في انتخابات منتصف الولاية الشهر الماضي".
كما صدرت إدانة عن مستشار الأمن القومي السابق لترامب جون بولتون، الذي كتب على "تويتر" إنه "يجب على جميع المحافظين الحقيقيين معارضة حملته لانتخابات 2024 الرئاسية".
دعوة للبقاء تحت الضوء
وتبدو دعوة ترامب لإلغاء الدستور بمثابة "فانتازيا"، بحسب تحليل للمعلّق السياسي على "سي أن أن" ستيفن كولينسون، لكنها دعوة لا تزال خطرة وتبدو موجهة إلى كل "رافضي الانتخابات"، وهو الجناح الجمهوري الرافض لنتائج انتخابات 2020، وللمسار الذي أدّى إلى فوز بايدن بالرئاسة. وبرأي كولينسون، فإن التصريح يعكس اليأس الذي يعيشه ترامب، ومحاولته إحداث الجدل بأي وسيلة، وضخّ الحياة في حملته التي تبدو رتيبة حتى الآن.
وبالنسبة للمحلّل، فإن التصريح أظهر أيضاً "الخجل الأخلاقي" لدى كبار الجمهوريين، الذين لم يدينوا كلامه، لكنه يقدم ورقة مجانية لصالح أولئك المطالبين بإبعاده. وبالنسبة لـ"سي أن أن"، فإن سعي الرئيس السابق دائماً لهزّ قاعدته أصبح يضعه اليوم في أقصى اليمين المتطرف، لافتاً إلى أن مطالبته بالانقضاض على الديمقراطية الأميركية تأتي فيه وقت أظهر فيه معظم الناخبين في الولايات المتأرجحة، والتي كان يمكن للجمهوريين الفوز بها بالانتخابات النصفية، رفضهم له.
ورأى متابعون أن حديث الرئيس الأميركي السابق عن إلغاء الدستور هو الأخطر لرئيس أميركي أو سابق، منذ أن ذهب الرئيس الأميركي الأسبق (كان الرئيس العاشر للولايات المتحدة بين 1841 و1845) جون تايلر، حين عارض في سنوات ما بعد الرئاسة تقييد توسعة العبودية وصوّت مع بداية الحرب الأهلية الأميركية مع الكونفيدرالية وانتخب عضواً في مجلس نواب الكونفيدرالية.
وكتب الدستور الأميركي في عام 1787، وتمّ تعديله من قبل 9 من أصل 13 من الولايات الأميركية الأصلية بعد عام، وهو أقدم دستور مكتوب في العالم لا يزال سارياً. ومنذ تبني وثيقة الحقوق في الدستور عام 1791، مرّر الكونغرس فقط 23 تعديلاً على الدستور، صادقت الولايات على 17 منها فقط. ومعظم التغييرات في النظام الأميركي السياسي والقضائي حصلت في إطار اجتهادات وتفسيرات قانونية للقوانين الموجودة، عوضاً عن إضافة قوانين جديدة من قبل السلطة التشريعية.
ويعد الخلاف حول نتائج الانتخابات عام 1876 بين روذرفورد بي. هايز (الرئيس الأميركي الـ19) وسامويل تيلدين، وحسمه بتمرير قانون اللجنة الانتخابية بعد عام، لتشكيل لجنة من 15 شخصاً لحسم الخلاف، الأقرب لما يردّده ترامب حول "مشاكل دستورية".
(العربي الجديد)