مرت الأحد خمسة أشهر على الحرب الروسية على أوكرانيا. بعد هذه المدة وتعذر الحسم فيها؛ تراجعت سيرتها ومتابعاتها الميدانية في واشنطن، وصار الاهتمام بها مثل الاهتمام بكورونا، حال فرضت التعايش معها كأمر واقع، رغم كلفتها ومخاطرها ومفاجآتها المحتملة.
عند هذه المحطة تجمع التقديرات الأميركية لحصيلة الحرب حتى الآن، على أنها انتهت إلى "فشل استراتيجي" للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأن كل حساباته فيها؛ السياسية والعسكرية، كانت "مغلوطة وفاضحة". قيل الكثير عن خسائرها وتداعياتها وبما لا يخلو من المبالغات والإشاعات، مثل الحديث عن "بداية صراع على السلطة" في الكرملين، واهتزاز وضع بوتين "الضعيف"، والذي "يعاني من مرض خطير" نفاه مدير الـ"سي آي إيه" وليام بيرنز، الذي ذكر أن القوات الروسية "خسرت 15 ألف جندي" حتى الآن.
أما القراءات لما بعد هذا "الفشل" فقد جاءت متباينة؛ إذ ثمة توقعات ومنها لهنري كيسنجر، ترى أن الكرملين محكوم في النهاية بخيار التفاوض، لكن على أساس "تعديلات في الحدود الأوكرانية". وخطواته الأخيرة جرى تفسيرها، وإن بتحفّظ، كإشارات مبكرة في هذا الاتجاه، مثل موافقته على استمرار ضخ الغاز في خط "نورد ستريم 1" إلى أوروبا، وقبوله قبل يومين، بالإفراج عن ملايين الأطنان من الحبوب الأوكرانية لتصديرها إلى الخارج، وثمة من يضيف أن تلويحه بضم الأراضي التي تسيطر عليها القوات الروسية، يندرج أيضاً في هذا السياق، من زاوية أنها محاولة لحسم وضع هذه الأراضي قبل مفاوضات آتية، وبالتالي تحويلها إلى ورقة قوة بيد الكرملين لتحديد وضعية أوكرانيا "الحيادية" الجديدة.
لكن الجهات المتشددة لا ترى في هذه الإشارات غير تخريجات بوتينية استوجبها المأزق للتضليل. فالكرملين يراهن على الوقت لإحداث تصدّع في صفوف القوى التي توفر الدعم العسكري المتقدم لأوكرانيا، والذي تسبب بانتكاسات للقوات الروسية وإعاقة زحفها. خاصة تزويدها براجمات وقاذفات صاروخية متوسطة المدى وبالغة الدقة في استهدافاتها. يذكر أن هذه المعدات تعمّدت الإدارة وبالتحديد البنتاغون، إرسالها بالقطّارة إلى أوكرانيا، بحجة التخوّف من سقوطها بيد الروس، وأن القوات الأوكرانية يلزمها وقت للتدريب على استخدامها. لكن في تفسير آخر، ثمة من يرى أن الشح في تسليم هذه الأسلحة الفعالة إلى كييف، كان سياسة محسوبة لترك الجسور مفتوحة مع موسكو، بغية حملها على اختيار طريق التسوية.
والرأي السابق خيار تحبّذه الإدارة. خاصة في وقت بدأ يتردد أن علامات "التعب" من كلفة الحرب وتداعياتها الاقتصادية مرشحة للتزايد. وفي هذا السياق، حذّر السناتور راند بول من "إنقاذ أوكرانيا على حساب تدمير أميركا". ورغم أنه وحيد في هذا الخطاب؛ فإن البيت الأبيض يخشى توسّع دائرته في زمن التضخّم وتأثيراته الانتخابية. ولا تقل عن ذلك وربما أكثر؛ الخشية من تزايد "الشقوق" في الصف الأوروبي، أو "خروج" بعض الحلفاء على وحدة الصف في الموقف ضد حرب بوتين في أوكرانيا. وهي خشية أعربت الإدارة عنها في معظم لقاءات بايدن والوزير بلينكن مع الحلفاء والأوروبيين. وكان أهمها في كلمته أمام قمة الدول الصناعية السبع في يونيو/حزيران الماضي في ألمانيا، والتي أكد فيها على "الحاجة" لضرورة الاستمرار في هذه الوحدة.
ورغم دراية واشنطن بحساسيات الوضع الأوروبي وتناقضاته؛ فإن استقالة رئيس الحكومة الإيطالية ماريو دراغي عززت التخوّف لدى الإدارة من احتمال مجيء حكومة بعد الانتخابات يرأسها التحالف "الشعبوي - اليميني" الإيطالي، الذي لا يؤيد دعم أوكرانيا فقط؛ "بل يساند بوتين" أيضاً. وفي ذلك لو حصل، مشكلة كبيرة تتخوف الإدارة من تأثيراتها وارتداداتها على الموقف الأوروبي من حرب أوكرانيا.
الأشهر الخمسة الماضية لم تكن لصالح بوتين وفق معاييره التي حددها من البداية للحرب؛ لكن ما بعدها قد يختلف الأمر. فالرئيس السابق ديمتري مدفيديف توعّد بتبعات "تنتظر أوكرانيا والغرب"، مهدداً بأن هذه الحرب قد تؤدي إلى زوال ما تبقى من دول ذات سيادة في أوروبا الشرقية. فهل هو تهديد كالذي لوّح به بوتين في بدايات الحرب، أم أنه عنوان للمرحلة القادمة؟