عادت أزمة هايتي إلى الواجهة في الأيام الأخيرة، إثر تفاقم الفوضى فيها، بفعل تشابك مسارات عدة، بدءاً من تراجع رئيس الوزراء آرييل هنري عن مغادرته منصبه في فبراير/شباط الماضي، واتفاقه على تقاسم السلطة مع المعارضة حتى إجراء انتخابات جديدة لم يتم تحديد موعدها، مروراً بشنّ العصابات حرباً ضده، وصولاً إلى تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، مع بروز شبح المجاعة في الأفق.
وفرّ 15 ألف شخص على الأقل من أجزاء من العاصمة بور أو برنس الأكثر تضرراً، بينما حذّر مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك، الأربعاء الماضي، من أن الوضع "لم يعد يحتمل" مع مقتل 1193 شخصاً جراء عنف العصابات.
ومع أن عدم احترام هنري للاستحقاق الدستوري أدى إلى نشر المزيد من الاضطرابات في البلاد، غير أن العصابات في الأساس لم تكن تنتظر خطوة سياسية للتحرك، إذ إنها سيطرت على أجزاء واسعة من بور أو برنس، منذ سنوات طويلة، لكن نفوذها تنامى بعد اغتيال الرئيس جوفينيل مويز، في يوليو/تموز 2021.
ويتولى هنري السلطة منذ اغتيال مويز. وفي ظل الاضطرابات الأخيرة، لم يعد بإمكان هنري العودة إلى بلاده، فعلق في بورتوريكو. وكان هنري في زيارة إلى كينيا لطلب نشر بعثة شرطة متعددة الجنسيات مدعومة من الأمم المتحدة، وفق القرار 2699، من أجل المساعدة على إعادة الاستقرار في بلاده عندما بدأت محاولة إطاحته.
هيمنة العصابات على مساحات واسعة
وقامت العصابات المسلحة التي تسيطر على مساحات واسعة من هايتي بعمليات تخريب لإطاحة هنري أخيراً، وهاجمت المطار والسجون ومراكز الشرطة وهددت بحرب أهلية واسعة النطاق. ومددت حكومة هايتي حالة الطوارئ لمدة شهر واحد في غرب البلاد، بما في ذلك العاصمة، إثر فرار آلاف السجناء من سجنين منذ أيام وانضمامهم إلى صفوف العصابات.
ترفض الولايات المتحدة التدخل المباشر في هايتي
وسعت أطراف دولية وإقليمية لاحتواء الأزمة الجديدة في هايتي، فأفاد بريان نيكولز مساعد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لشؤون النصف الغربي للعالم، بأن بلينكن أجرى محادثة، الخميس الماضي، مع هنري وحضّه على تنظيم انتقال سياسي "عاجل" للسلطة.
وأشار نيكولز إلى أن بلينكن أجرى محادثة أيضاً مع رئيس غويانا، عرفان علي، الذي يرأس التكتل الإقليمي الكاريبي "كاريكوم" تناولت "الدبلوماسية المكثفة" للمجموعة الاقتصادية لمعالجة الأزمة في هايتي.
وأعرب مجلس الأمن الدولي، الأربعاء، عن قلقه إزاء تدهور الوضع في هايتي، بينما طالب بعض أعضائه بنشر بعثة أممية هناك في أسرع وقت ممكن. ودعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس إلى تقديم دعم مالي عاجل لبعثة الشرطة متعددة الجنسيات، مشيراً إلى "الوضع الأمني المتدهور سريعاً".
وبعد تأخر استمر أشهراً، أعطى مجلس الأمن الدولي الضوء الأخضر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي لبعثة شرطة متعددة الجنسيات تقودها كينيا. لكن المحاكم الكينية عطّلت نشر القوة، علماً أن نيروبي وقّعت على اتفاق ثنائي مع بور أو برنس أخيراً بشأن البعثة، لكنه لم يتضمن موعداً محدداً لبدء عملها.
وفي ظل محدودية الخيارات الأميركية في هايتي، فقد دعت واشنطن هنري إلى "تسريع" عملية الانتقال السياسي في البلاد وتنظيم انتخابات، لكن من دون حضّه على الاستقالة. مع العلم أن للولايات المتحدة تاريخاً كبيراً في هايتي، خصوصاً اجتياحها والسيطرة عليها بين عامي 1915 و1934، ثم في العام 1994 نشرت 25 ألف جندي لدعم الرئيس، الكاهن جان برتران أريستيد، فأفشلت محاولة لإطاحته.
لكن الخيارات المتاحة حالياً أمام الأميركيين لا تتجاوز مطلب "تشكيل قوة متعددة الجنسيات" لضبط أمن هايتي، مستبعدة احتمالات التدخل العسكري المباشر. حتى أنه، ووفقاً لصحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، فإن الرئيس جو بايدن، تحدث عن هايتي عام 1994، حين كان عضواً في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ.
وفي حينه، قال السيناتور بايدن، في مقابلة تلفزيونية ضمن برنامج "تشارلي روز"، إن "التأثير المباشر لمشاكل هايتي على الولايات المتحدة تمحور حول ارتفاع عدد المهاجرين الهايتيين"، مضيفاً أنه "إذا غرقت هايتي بهدوء في منطقة البحر الكاريبي، أو ارتفعت 300 قدم (نحو 91 متراً)، فلن يكون لذلك تأثير مهم على مصالحنا".
لذلك، تتمسك واشنطن بـ"عملية الانتقال السياسي"، المطلب الرئيسي لزعيم عصابة "جي 9" جيمي شيريزييه الملقب بـ"باربكيو" (أي الشواء). وحذّر شيريزييه، الثلاثاء الماضي، من أن الفوضى الحالية ستؤدي إلى حرب أهلية وحمام دم إلا إذا استقال رئيس الوزراء.
ورجل العصابات شيريزييه ليس غريباً عن ضفتي القانون والنظام، إذ كان ضابط شرطة في السابق، وكان مقرّباً من مويز لفترة، قبل الانفكاك عنه. وتشابك المصالح بين العصابات والسياسيين في هايتي ليس جديداً، لكونه انبثق من عهد ديكتاتورية آل دوفالييه: الأب فرانسوا، المعروف بـ"بابا دوك"، والابن جان كلود.
حكم الأول هايتي بين عامي 1957 و1971، والثاني بين عامي 1971 و1986. وفي عهد دوفالييه الأب، تمّ إضعاف الجيش، مع إنشائه مليشيا "تونتون ماكوت"، التي استخدمها لتصفية معارضيه السياسيين. وواصل ابنه مسار والده، لدرجة أن ما بين 40 و60 ألف هايتي قُتلوا في العهدين.
وغادر الابن البلاد عام 1986 إلى فرنسا، بعد تظاهرات عمّتها، وفي ظلّ ضغوط أميركية. سقطت عائلة دوفالييه، لكن مليشيا "تونتون ماكوت" استمرت بالعمل، مانعة إجراء انتخابات كانت مقررة عام 1987، قبل إرجائها إلى عام 1988.
واستنسخت جماعات مسلحة وسياسيون نموذج "تونتون ماكوت"، ما دفع إلى إنشاء المزيد من العصابات، خصوصاً بعدما أضعف أريستيد جيش هايتي في العام 1994، خشيةً من حصول انقلاب ضده. ملأت العصابات الفراغ الأمني، وصولاً إلى تكريس قدرتها على الإمساك بمفاصل الحياة في البلاد، من طاقة ونفط وسلاسل توريد.
شيريزييه ومنافسوه
وبحسب موقع "وورلد إذ وان نيوز" (دبليو آي أو أن)، فإن شيريزييه، الشرطي، متورط في مذابح متعددة، بما فيها تلك التي أدت إلى مقتل أكثر من 70 شخصاً في العام 2018 بعد إشعال النار في أكثر من 400 منزل في حي لا سالين بالعاصمة، وفقاً للأمم المتحدة. وشيريزييه من منطقة ديلما في بور أو برنس، وتمكن في العام 2020 من توحيد 9 عصابات في منطقة العاصمة، تحت راية تحالف "جي 9".
تتنافس عصابتا "جي 9" و"جي بيب" على العاصمة
وتصدّر التحالف عناوين الصحف الدولية بعدما سيطر على ميناء الوقود الرئيسي في هايتي، في أعقاب اغتيال مويز في العام 2021، في خطوة أدت إلى توقف النقل وفقدان المستشفيات لإمدادات الطاقة، وعلى الرغم من انتهاء السيطرة بعد أكثر من شهر، غير أن شيريزييه، أعلن بهذا العمل، وجوده الميداني في هايتي. وتعجّ هايتي بالعصابات، ومنها "جي 9" العاملة في ديلما وبيتيون ـ فيي وأجزاء من حي كارفور في العاصمة.
وذكر الموقع أن "جي 9" تضمّ جنوداً وشرطيين سابقين، وبعدما كانت مهادنة لهنري، فإنها نأت بنفسها عنه، وصولاً إلى الانقلاب عليه. وتسعى العصابة إلى تشكيل تحالف على امتداد البلاد، تحت اسم "جي 20"، على أن تعمل بشكل مستقل عن السياسيين.
وتُظهر هذه خطوة المخاوف من انتقال هايتي إلى مستوى جديد من تطور العصابات، إذ بدلاً من أن تبقى تلك الجماعات المسلّحة تحت إمرة "صاحب الأموال" من سياسيين، موالين ومعارضين، ورجال أعمال، فإن إنشاء مناطق نفوذها الخاصة، يجعلها "صانعة الطبقة السياسية" في البلاد.
ومن العصابات أيضاً، تبرز عصابة "ديلما 6"، وهي جزء من "جي 9"، وأنشأها شيريزييه. وهناك أيضاً عصابة "باز بيلات"، التي تضمّ جنوداً سابقين عملوا في وحدة "سوات" الخاصة، نخبة الشرطة الهايتية.
غير أن لـ"جي 9" منافس كبير، هو عصابة "جي بيب"، التي تأسست رداً على تشكيل "جي 9"، ويقودها جان بيار غابريال، المعروف بـ"تي غابريال". وترتبط العصابة بعلاقات مع سياسيين معارضين ورجال أعمال هايتيين، ولا تعنيها استقلالية قرارها، بل استمرارية تدفق الأموال من الجهات السياسية المعارضة، لوقف صعود "جي 9".
من جهتها، فإن عصابة "400 ماووزو"، وهي الأكبر عدداً في هايتي، فقد تحالفت مع "جي بيب"، استناداً إلى كونها مرتبطة أيضاً بعلاقات مع معارضين هايتيين.
ومن العصابات العاملة في هايتي أيضاً، وإن كان نفوذها محدوداً قياساً على العصابات الكبرى، فهي "باز كراش ديف"، و"نان تي بوا"، و"سيمون بيلي"، و"باز نان شابون، واف جيريمي"، و"نان بوسطن"، و"بيليكو"، و"نان بروكلين"، و"تيتانفين"، و"باز 5 سيغوند"، و"كانان"، و"فياج دو ديو".
وأدى صراع النفوذ بين العصابات، خصوصاً بعد عقد التحالفات الجديدة في السنوات الأخيرة، إلى تراجع قدرة الشرعية في ضبطها من جهة، وارتفاع وتيرة حرب العصابات من جهة أخرى.
وفي رواية إيطالية، بنسخة هايتية، عملت العصابات على تنظيم سلسلة اغتيالات لمنافسين، وصولاً إلى مقتل أستاذ الرياضيات، زعيم عصابة "بيليكو"، إيسكا أندريس، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، في ضربة مؤلمة لتحالف "جي 9"، إذ صعّدت "جي بيب" من هجماتها على "جي 9" في العاصمة، رغم أنه لم يتم الكشف عن قَتَلة أندريس بعد. وفي غياب أي قوة دولية أو وطنية، ظهرت حركة أهلية مسلحة، باسم "بوا كالي"، بهدف ردع العصابات وحماية المدنيين، لكنها لم تستمر طويلاً.
حصلت بعض العصابات على طائرات من دون طيار
وحول إمكانات العصابات، كشف تقرير لخبراء من الأمم المتحدة، في سبتمبر/أيلول الماضي، أن نحو 200 عصابة في هايتي تعمل في البلاد. وأوضح التقرير أن عناصر العصابات "يستخدمون العنف المسلح بأسلحة نارية متطورة، للسيطرة على الأحياء والتأثير عليها والانخراط في أنشطة غير قانونية".
وتشمل جرائمهم، بحسب التقرير: "تهريب المخدرات والأسلحة والابتزاز والخطف والقتل والعنف الجنسي وخطف الشاحنات"، مشيراً إلى أن "العصابات تسيطر على نحو 80 في المائة من أراضي العاصمة، وانقسمت إلى تحالفين رئيسيين هما جي 9 وجي بيب".
وحذّر خبراء الأمم المتحدة في تقريرهم من أن "العصابات تعزز ترساناتها بأسلحة أكثر تطوراً، وقوتها النارية تتجاوز قوة الشرطة الوطنية الهايتية".
وفي حين أن المسدسات والبنادق نصف الآلية لا تزال الأدوات المفضلة للعصابات، لاحظ الخبراء ظهور المدافع الرشاشة الخفيفة والرصاص الخارق للدروع. حتى إن بعض العصابات عززت ميزتها التكتيكية من خلال تجنيد جنود وضباط شرطة سابقين، في حين حصلت عصابات أخرى على طائرات من دون طيار للتعرف على ضحايا الخطف ومراقبة مناطق نفوذها.
وأضاف التقرير أن "الابتزاز هو المصدر الرئيسي لإيرادات العصابات، مع خضوع الشركات لابتزازات الحماية الكلاسيكية والضرائب المفروضة على السيارات، التي تستخدم الطرق التي تسيطر عليها الفصائل الإجرامية".
ونقلت وكالة "فرانس برس"، عن منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في هايتي أولريكا ريتشاردسون قولها إنه "للدخول أو الخروج من بور أو برنس، لا يمكنك ركوب السيارة والذهاب بحرية إلى أجزاء أخرى من البلاد". كما شهدت البلاد، بحسب التقرير الأممي، ارتفاعاً في الاتجار بالأسلحة منذ عام 2021، إذ يُحصَل على الأسلحة بشكل أساسي من الولايات المتحدة، وفقاً لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة.
(العربي الجديد، فرانس برس، أسوشييتد برس، رويترز)