جورج حبش عن البواكير والرفاق والمسار: اللقاء الأول مع وديع حدّاد والبدايات الصعبة (1)

02 أكتوبر 2024
جورج حبش في مهرجان لجبهة الرفض، بيروت، 11/28/ 1977
+ الخط -
اظهر الملخص
- تأسيس الحركة والجبهة: الحوار مع جورج حبش في الجزائر 1989 يبرز تأسيس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ودور الشخصيات المؤسسة مثل وديع حداد وهاني الهندي، مع التركيز على الخلافات الداخلية والعمليات العسكرية.

- التجربة الجامعية والنشاط السياسي: حبش يروي تجربته في الجامعة الأمريكية ببيروت، حيث التقى وديع حداد وسط أجواء مشحونة بالقضية الفلسطينية، وشارك في النشاطات السياسية مثل التظاهرات ودور جمعية العروة الوثقى.

- التحديات والمواجهات السياسية: الحوار يتناول التحديات التي واجهها حبش، مثل الصدامات مع الشيوعيين والسوريين القوميين، ومحاولات تأسيس تنظيم جديد، مما ساهم في بلورة فكر حركة القوميين العرب.

هذا الحوار وثيقة مهمة في تجربة جورج حبش ورفاقه الأوائل الذين أسّسوا حركة القوميين العرب، ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. أنجزه في الجزائر سنة 1989 شريف الحسيني وسائدة الأسمر (حكمت نصّار). يتعلّق، في جزء كبير منه، بالقيادي المؤسّس في الجبهة وديع حدّاد وخلافه معها ومع حبش. ويتضمن تفصيلات مهمة عن البدايات التأسيسية لحركة القوميين العرب، وعن الرفاق الأوائل، أمثال هاني الهندي ووديع حدّاد وأحمد الخطيب وصالح شبل وحامد الجبوري ومحسن إبراهيم وأحمد اليماني. كما يحتوي معلومات شائقة عن مرحلة النضال السياسي والعسكري، ولا سيّما عمليات خطف الطائرات التي برع وديع حدّاد في تخطيطها وتنفيذها، علاوة على الانشقاقات اليسارية التي خلخلت تنظيم الجبهة الشعبية بين 1968 و1972. وقد انتشل الزميل صقر أبو فخر هذا الحوار المطوّل، والذي لم ينشر من قبل، من أوراقه الفلسطينية وحقّقه ووضع حواشيه وقدّم له. تنشر "العربي الجديد" حلقاتٍ منه، قبيل صدوره قريباً في كتاب بعنوان "جورج حبش ... عن البواكير والرفاق والمسار" عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وفيما يلي الحلقة الأولى من الحوار.

                                                       ********

- شريف الحسيني: سنحاول أن نقسّم حوارنا إلى فترات. الأولى فترة الدراسة الجامعية حيث تعرفتَ في أثنائها إلى وديع حدّاد. كيف تتذكّر تلك المرحلة؟
الحكيم: حاولت أن أتذكّر في أي يوم وفي أي شهر وسنة التقيت وديع، وما هي المناسبة، ويؤسفني أن أقول إنني لم أُوفّق. ولكن أستطيع أن أؤكّد أن اللحظة التاريخية التي تم فيها ذلك اللقاء كانت في مناسبة عرض القضية الفلسطينية على الأمم المتحدة التي أعقبها صدور قرار التقسيم في سنة 1947، ثم بداية الهجمات الصهيونية على شعبنا في فلسطين، وعمليات الطرد التي وقعت في المنطقة الشمالية من فلسطين، ثم إعلان قيام دولة إسرائيل في 15 مايو/ أيار 1948. وفي ذلك الجو الرسمي والجماهيري الذي واكب تلك الفترة، ولا سيّما أجواء الطلاب الفلسطينيين والعرب في الجامعة الأميركية في بيروت، الذين بدؤوا بالإنشداد إلى قضية فلسطين وبالنضال بالوسائل الممكنة من أجل قضيتهم، التقيت وديع. وتكرّرت اللقاءات بعدما أصدرت الأمم المتحدة قرار التقسيم، وبعد التحركات والتظاهرات التي اندلعت آنذاك احتجاجاً على ذلك القرار. وإن لم أكن مخطئاً، فقد تكون مثل تلك التحرّكات قد بدأت في العام الأسبق لقرار التقسيم أي في عام 1946، حيث كان معروفاً أن القضية الفلسطينية سوف تُعرَض على الأمم المتحدة، وأن هناك قرارات قد تُتّخذ. هذه هي اللحظة التاريخية التي التقيت فيها الشهيد الدكتور وديع (1).

- شريف: كنت تسبق وديع، دراسياً، بسنة واحدة، أَليس كذلك؟
الحكيم: بسنة واحدة، نعم.

- شريف: التحقتَ بالجامعة في عام 1944؟
الحكيم: صحيح.

- شريف: التحق وديع بالجامعة في سنة 1945، وفي تلك الفترة لم تتعرّفا إلى بعض بصفتكما فلسطينيَّين يفتّشان عن وسائل نضالية، بل بصفتكما طالبين. وفي تلك الفترة، كان الدكتور قسطنطين زريق يشرف على حلقات واجتماعات ذات طابع سياسي. هل كنتَ أحد الذين يحضرون تلك الحلقات؟
الحكيم: مائة في المائة. صحيح.

- شريف: هل كان وديع حدّاد ضمن هذه المجموعة؟
الحكيم: حاولت أن أتذكّر هذا الأمر، ولم أنجح في تأكيده.

- شريف: أبو محمود (هاني الهندي) بدوره لم يجزم في هذا الموضوع.
الحكيم: وأنا لا أستطيع أن أجزم. أعرف مائة في المائة أن أبو محمود كان ضمن المجموعة، وفيها معتوق الأسمر (من نابلس)، الذي أصبح بعد سنة أو سنتين رئيساً لجمعية العروة الوثقى (2)، وكذلك إدمون الباوي (من سورية) وآخرون ما عدت متأكّداً من أسمائهم، ولا أعرف، على وجه الدقّة، هل كان الشهيد وديع ضمن هذه المجموعة أم لا. كذلك ما عدتُ متأكّداً هل كان الدكتور أحمد الخطيب في عدادهم، لأن الدكتور أحمد إذا كان ضمن تلك المجموعة فإنني أرجّح بحدود 51% أن يكون وديع ضمن المجموعة إياها. فإذا كان الدكتور أحمد ضمن هذه الحلقات، يصبح من المُرّجَح أن يكون وديع من ضمنها أيضاً. وأنا لا أنفي ولا أؤكّد، لأنني لم أستطع تذكّر ذلك بيقين.

كنّا نشعر بأن حزب البعث لا يجيب عن القضايا التي أصبح من المفروض أن تجيب عنها النكبة

- شريف: الدكتور أحمد الخطيب التحق بالجامعة مع وديع حدّاد في السنة نفسها.
الحكيم: كانا في كلّية الطبّ في الصف نفسه، ومعهما الدكتور آمال نفاع (3). وكان واضحاً أن كلّاً منهم له شخصيته. آمال لم يكن يتعاطى العمل السياسي المباشر، لكنه كان وطنياً.

- سائدة الأسمر: يقال إن تلك التحرّكات كانت تدخل الجامعة الأميركية للمرة الأولى، بمعنى أن القضايا السياسية والوطنية لم تكن موجودةً في حلقات الطلاب واهتماماتهم، التي انحصرت قبل ذلك في الحفلات واللقاءات.
الحكيم: هذا ما كانت تقوله إدارة الجامعة، وهذا ما لمسناه في أثناء دراستنا. أما جمعية العروة الوثقى فقد كانت قائمةً قبل ذلك، لكنها كانت جمعية أدبية هدفها الحفاظ على اللغة العربية. نحن أعطيناها الطابع السياسي للمرّة الأولى في تاريخ الجامعة، وهذا الفضل لا يعود إلينا وحدنا، وإنما إلى الأحداث التي فرضت نفسها على العالم العربي وعلى الشبان العرب في الجامعة الأميركية، ومن ثم ما عاد ممكناً إلا أن يتعاطى الطلاب العرب مع القضية القومية والعمل الوطني، وأن يستفيدوا من أي وسيلة في سبيل تلك الغاية، وكانت جمعية العروة الوثقى إحدى الوسائل المتاحة لنا.

- شريف: هل كنتم تقيمون في حرم الجامعة أم خارجها؟
الحكيم: كنت أُقيم في البناية الطبّية، وهو المكان الذي كان يضم طلاب الطبّ، وهذا المكان يقيم فيه الطلاب بعد التحاقهم بالسنة الأولى في كلّية الطبّ. الدكتور أحمد الخطيب، ولأنه لم يكن في السنة الأولى عندما كنت أنا في السنة الأولى، بل في السنة الجامعية الثالثة التي تسبق الدخول إلى السنة الأولى في كلّية الطبّ، ولذلك لم يكن يقيم في البناية نفسها. أما الدكتور وديع فقد كان أهله يسكنون في منطقة الصنائع في بيروت، وكان هو مقيماً في منزل العائلة.

وديع حداد في ثياب التخرج، 1952
                                                   وديع حدّاد في ثياب التخرّج، 1952

- شريف: هل كان برنامج الدراسة في الجامعة في ذلك الوقت يتضمن ثلاث سنوات جامعية قبل الدخول إلى السنة الأولى في كلية الطب؟
الحكيم: كان برنامج الكلّية على النحو التالي: عندما ننهي الدراسة الثانوية في فلسطين، نُقبَل في السنة الجامعية الثانية في الجامعة الأميركية. فإذا كان الطالب يريد دراسة الطبّ يلتحق بالسنة الثالثة التحضيرية. فيصبح عند ذلك في السنة الأولى طبّ وتستمرّ دراسته حتى السنة الخامسة.

- شريف: سألت هذا السؤال لعلّه يساعدني في حساب السنوات بدقة. معنى ذلك أن الطالب القادم من فلسطين لا يلتحق بالسنة الجامعية الأولى، بل الثانية؟
الحكيم: دخلت إلى الجامعة في عام 1944 في السنة الثانية. وفي عام 1945 صرت في السنة الثالثة - تحضيري طبّ، وفي عام 1946 أصبحت في السنة الأولى طبّ، وفي عام 1947 ترفّعت إلى السنة الثانية طبّ. آنذاك اتخذت الأمم المتحدة قرار التقسيم وكنت في السنة الثالثة.

- شريف: هل أدّت النكبة في عام 1948 وبداية الهجرة الفلسطينية إلى قطع دراستكم؟
الحكيم: لا، لكن دراستنا باتت قلقةً جداً؛ في كلّ لحظة كنا نفكّر أن من الممكن أن نتوقّف عن الدراسة. إدارة الجامعة اضطرت إلى أن تطلب من الطلاب اليهود القادمين من فلسطين أن يتركوا صفوفهم ويغادروا الجامعة قبل انتهاء السنة الدراسية. وأعتقد، إنْ لم أكن مُخطئاً، أن إدارة الجامعة طلبت من الطلاب اليهود أن يغادروا الجامعة جرّاء تحرّك الطلاب العرب. أما الأمر الذي لست متأكداً منه تماماً فهو أن السنة الدراسية (1947) اختُصِرت ببضعة أسابيع.

- شريف: هل كنت في فلسطين يوم سقوط اللد؟
الحكيم: اللد سقطت في يوليو/ تموز 1948، أي بعد الهدنة الأولى.

- شريف: هل كان أهل وديع في لبنان في تلك الفترة؟
الحكيم: نعم، لأن أهل وديع من شمال فلسطين [من صفد]. وأُرجِّح أن الشمال هُجِّر قبل إعلان قيام إسرائيل في 14/5/1948. أعتقد أن أهل وديع كانوا في لبنان منذ بداية عام 1948. وأنا التقيت وديع، على الأرجح، من خلال النشاط الذي كنا نقوم به عفوياً لنجدة الناس الذين لجؤوا إلى خارج فلسطين، أو في التظاهرات التي اندلعت ضدّ قرار التقسيم.

- سائدة الأسمر: كان وديع حدّاد يتحدّث عن اللجان التي أسّستموها لاستقبال اللاجئين من فلسطين.
الحكيم: هذا صحيح.

- سائدة: هل كان وديع ناشطاً فيها؟
الحكيم: لا أستطيع أن أجزم، لكنني أُرجِّح ذلك.

- سائدة: يذكر وديع أنه كان ناشطاً فيها.
الحكيم: لذلك قلت إنني التقيت وديع في تلك الأجواء.

لم تتّخذ علاقتنا بالقوميين السوريين علاقة صِدام، بل حلّت في محلّه نقاشاتٌ عن القومية السورية في مقابل منطلق القومية العربية

- شريف: كان إبراهيم أبو ديّة أحد موضوعات الاستقطاب، وقد تجمّعتم حوله، وحول من كان معه أمثال [محمد خليفة] أبو عبد الله بعد إصابة إبراهيم أبو ديّة ونقله إلى العلاج في مستشفى الجامعة الأميركية؟
الحكيم: أصيب إبراهيم أبو ديّة (4) في معركة القطمون في القدس، وهذه المعركة وقعت في عام 1948. أتذكّر أننا تعرفنا إلى إبراهيم أبو ديّة في العام الدراسي الذي بدأ في أكتوبر/ تشرين الأول 1948.

- شريف: هل كانت لديكم فكرة عن إنشاء تنظيم سياسي في تلك الفترة؟
الحكيم: الأمر المتبلور في تلك الفترة هو التظاهر والاحتجاج وما إلى ذلك. والوسيلة الوحيدة المتاحة هي جمعية العروة الوثقى، وكذلك محاضرات الدكتور قسطنطين زريق، التي كانت تهدف إلى تأسيس حركة قومية عربية تتصدّى للقضية الفلسطينية وللنهضة العربية عامة.

- شريف: هل كان لحزب البعث وجود في الجامعة في ذلك الوقت؟
الحكيم: نعم.

- شريف: هل كان البعث يطرح هذه الفكرة؟ وهل كنتم، أنت ووديع حدّاد وأحمد الخطيب وهاني الهندي، ميالين إليه في تلك الفترة أم لا؟
الحكيم: نعم، فالبعث أُسّس قبل نكبة فلسطين، لكن كنا نشعر بأن حزب البعث لا يجيب عن القضايا التي أصبح من المفروض أن تُجيب عنها النكبة. وعلى سبيل المثال، لم نكن نشعر بأن البعث يولي أي خصوصية للقضية الفلسطينية. ثم كانت لدينا أحاسيس تشير إلى أن هذا العدو لا بدّ من مواجهته بالعنف، والبعث لم يكن في هذا المناخ. وكنا نشعر بأن البعث في ضوء مقاييسنا وطريقة تفكيرنا في تلك الفترة، لا يجيب عن اعتقادنا بأن هناك خيانةً عربيةً رسميةً حصلت. هذه الأمور كلّها كانت تُشعرنا بأن البعث ليس كافياً لنا للعمل السياسي انطلاقاً من مركزية القضية الفلسطينية، وضرورة العنف لمواجهة خيانة الملك عبد الله ونوري السعيد، وجميع الخيانات التي ارتُكِبت في سنة 1948. في الواقع كان ميشال عفلق يتردّد إلى بيروت ويعقد، بين وقت وآخر، ندواتٍ ضيقةً. وكان السؤال الرئيس الذي يُطرَح علينا آنذاك، خاصةً بعد النكبة، هو سؤال المواجهة والتصدّي للنكبة بالعنف. في ذلك الوقت كنا نتدرّب بدنياً في جبال لبنان، وعسكرياً على بارودة صيد، وهذا يدلّ، بقطع النظر عن صحّته الآن، على توجّه مختلف عن توجّه حزب البعث. وكنا نرى في الوقت نفسه أن هناك ما يجمعنا مع البعث كاعتبار القضية الفلسطينية قضيةً عربيةً، وهي المظهر الرئيس للفلسطينيين والعرب، أنظمةً وجماهيرَ. أما التوجّه القطري الذي تغلغل في وعي كثيرين في السنوات الأخيرة، والذي ساعدت الثورة الفلسطينية فيه، فلم يكن وارداً لدينا نحن والبعث. معاهدة سايكس - بيكو وضرورة إفشال نتائجها، وقضية النهضة العربية، وأن فلسطين جزءٌ من الأمة العربية، هو ما كان يعتلج في ضمائر الناس وعواطفهم وعقولهم. وكنا نشعر أن هذا ما يجمعنا مع البعث خصوصاً شعار الوحدة والحرية. لكن البعث لم يكن يشدّد كثيراً على ما استجدَّ في عام 1948.

- شريف: ذكرت أنكم كنتم تخرجون في الصيف إلى جبال لبنان وتتدرّبون على بارودة صيد وعلى الملاكمة، هل كان هذا التحرّك بقرار؟ وممَّن؟ هل كانت لكم مساهمة في أي نشاط رياضي في داخل الجامعة؟ فالمعروف أن وديع كان رياضياً في أثناء دراسته الثانوية، هل تابع في الجامعة مثل هذا النشاط؟
الحكيم: أما في ما يخص وديع، فلا أستطيع أن أجيب عن هذا الموضوع، لأن الحدث السياسي كان هو الطاغي على نشاطنا معاً.

ميشيل عفلق
                                                                  ميشال عفلق

- شريف: هل كان مطعم "فيصل" المركز الرئيس في لقاءاتكم آنذاك؟
الحكيم: نعم، كان مطعماً صغيراً نضرب مواعيدنا فيه. حين نحتاج إلى خلوة ووشوشة بيني وبين أحمد الخطيب مثلاً، أو بيني وبين وديع حدّاد، فإن ذلك كان يجري غالباً في مطعم فيصل.

- شريف: عندما تدرّبتم على بارودة صيد، هل كان هناك تفكير في القيام بأعمال عسكرية ردّةَ فعلٍ على ما حصل في فلسطين، أو مثل نسف المدرسة اليهودية على سبيل المثال؟
الحكيم: في تلك الفترة كان هناك أكثر من إطار في ما يخصّني ويخصّ أبو محمود [هاني الهندي]. أولاً كان هناك الإطار التنظيمي السياسي غير المتبلور، الذي يتمثل بحلقات قسطنطين زريق التي انقطعت بعد النكبة. الإطار الثاني كان جمعية العروة الوثقى التي، من خلالها، كنا نُعبّر عن عواطفنا وأفكارنا واستعدادنا. وكان الإطار الثالث في ذلك الوقت، الشباب القومي العربي، خصوصاً عندما نتصل بالمدارس الثانوية والجامعة اليسوعية لبلورة نشاط طالبي لا يقتصر على الجامعة الأميركية وحدها. ثم هناك الإطار الرابع والأخير وهو كتائب الفداء العربي. كتائب الفداء العربي مسألة وحدها. الأطر الأخرى كانت تهدف إلى القيام بنشاط سياسي وجماهيري. أبو محمود وأنا قلنا إن هذه الأطر غير كافية. وهذه الأطر هي التي تَحرّكنا من خلالها بين 1947 و1951.
في عام 1951، بعد فشل تجربة كتائب الفداء العربي، أصبحت هناك مجموعة تفكّر في تأسيس منظمة جديدة صارت تُعرف فيما بعد باسم حركة القوميين العرب. لكنّ التشابك الحاصل في ذهني بين هذه الأطر الأربعة، خاصةً عندما تضيف إليها الإطار الخامس، في بداية التفكير في تأسيس حركة القوميين العرب لم أستطع حسمه. كنت أقول: لعلّ أبو محمود [هاني الهندي] يستطيع أن يحسمه لأننا عشنا التجربة معاً. وهذا التشابك بين الأطر كلّها. أبو محمود كان يداوم على حضور حلقات زريق، ولكنه لم يكن يُحبّ أن يكون قيادياً في إطار العروة الوثقى، بل كان من المجموعات التي تخطط لتنظيم إطار أبعد من نطاق الجامعة الأميركية ومن كتائب الفداء العربي، وكان فاعلاً جداً في إطار حركة القوميين العرب، واستمرّ فاعلاً في كتائب الفداء الغربي خلال تلك السنوات الثلاث. طبعاً في عام 1948 انتهى إطار زريق، وأنا ما عدت أذكر أي ندوات عُقِدت، وكانت تُعقَد في النادي الثقافي العربي، الذي كان على رأسه شابّ لبناني اسمه رامز [شحادة]. أعتقد أن زريق تأثر سلباً بما حصل. كانت النكبة مفاجأة له، ومن ثم أنهى موضوع الندوات. أما نحن فكنا ما زلنا شباناً فحافظنا على جمعية العروة الوثقى إطاراً للتحرّك الطالبي في لبنان، حتى إن بعضاً منا حافظ حتى على كتائب الفداء العربي. وفي عام 1951عندما شعرت هذه المجموعة أنها على وشك التخرّج، وفي ضوء فشل تجربة كتائب الفداء العربي، بدأتُ التفكير جدّياً في موضوع تأسيس حركة القوميين العرب.

كنتُ حين نحتاج إلى خلوة ووشوشة بيني وبين أحمد الخطيب مثلاً، أو بيني وبين وديع حدّاد، فذلك كان يجرى غالباً في مطعم فيصل

- شريف: هل كنتم، إلى جانب التظاهر والعمل السياسي في تلك الفترة، تنشرون كتابات في الصحافة المحلّية فضلاً عن مجلّة العروة الوثقى؟ فقد ذكرتَ في معرض حديثك صحيفة التلغراف التي كان يصدرها نسيب المتني، وصحيفة الحياة التي كان يصدرها كامل مروّة في بيروت.
الحكيم: صحيح. أنا عندما قرأت ذلك على لسان صالح [شبل]، غبطته على هذه الذاكرة. كانت "التلغراف" تنشر لنا بعض المقالات (5. لا أدري تماماً كيف أننا، في ذلك الوقت، كنا نريد التدرّب على السلاح والقتل والضرب، وكنا، في الوقت نفسه، متنبهين إلى الكتابة وتنمية كفاءات صحافية وإثارة الرأي العام. كانت هناك عفوية حتى بداية عام 1950. أما في عام 1951 فقد أصبح لنا هدف مُحدّد.

- شريف: هل كانت الكتابات تتم بانتظام أم مجرّد مبادرات؟
الحكيم: عندما بدأت المجموعة تلتقي، كان في ذهنها موضوع تأسيس حركة القوميين العرب، وأعتقد أننا كنا نطلب من رفاق محدّدين الكتابة في "التلغراف" [التي كان يصدرها نسيب المتني]، وهي الصحيفة الوحيدة المفتوحة لنا آنذاك، ثم كانت صحيفة الحياة. وكنا نحاول أن نستفيد من أي باب، حتى من باب بريد القراء.

- شريف: هل كان وديع حدّاد ناشطاً في هذا المجال؟
الحكيم: هل أنت متأكّد أن نشرة "الثأر" صدرت في عام 1952 أم في عام 1951؟

- شريف: لا، لست متأكّداً، لكن، يتبيّن من الأعداد التي بين أيدينا أنها بدأت بالصدور في عام 1952. هل كانت تصدر بشكل بغير انتظام في الفترة الأولى؟ يبدو أنها كانت تصدر مرةً في كلّ أسبوعَين.
الحكيم: نعم. مرّةً في كلّ أسبوعين. أنا لا أستبعد أن تكون قد بدأت بالصدور في عام 1951.

- شريف: هل كان لوديع، ضمن نشاط العروة الوثقى، مساهمات في الكتابة والخطابة والمهرجانات أم لا؟
الحكيم: وديع كان فاعلاً جدّاً في العروة الوثقى، وفاعلاً جدّاً في الإطار الطالبي العام، وفاعلاً جدّاً في نواة حركة القوميين العرب. أستثنيه من كتائب الفداء العربي. لم يكن وديع يميل أو يندفع إلى الكتابة. كان يندفع إلى الفعل الميداني، وإلى القضية المالية، أو قضية تنظيم مهرجان، أو توزيع منشور بعد طباعته، والتدقيق في الإيصالات. هذا كان ميدانه الأساس منذ أن عرفته. طبعاً كان هناك حدّ أدنى من الواجبات التي بدأنا نفرضها على الإخوة منذ أن بدأنا نفكّر في تأسيس حركة القوميين العرب مثل المطالعة والكتابة. لكن وديع لم يكن مشدوداً إلى هذا الميدان. واتضح هذا الأمر عندما انتقلنا إلى الأردن، حيث عملت معه ليلاً ونهاراً، وكنا ننام في سرير واحد في العيادة. كان طبعاً ينفّذ واجبات المطالعة لأننا كنا صارمين جداً. يجب أن نقرأ، وأن يقرأ، لكن ميله لم يكن إلى هذا الجانب.

نشرة الثأر 12/3/1953
                                                      نشرة الثأر في 12/ 3/ 1953

- شريف: ذكرتَ حزب البعث في تلك الفترة. فيما الشيوعيون والسوريون القوميون كانوا موجودين طبعاً في تلك الأجواء. الموقف من الشيوعيين كان معروفاً. وأنت تذكر أحد حفلات جمعية العروة الوثقى حين وقع صدام مع الشيوعيين أصيب خلاله شفيق الحوت وأُدخل إلى المستشفى. كيف كانت العلاقة بالسوريين القوميين في تلك الفترة؟ وأنا أسأل هذا السؤال لأن الدكتور أحمد [الخطيب] يقول إن أحد الكتب التي كنتم تطالعونها كان كتاب "كفاحي" لهتلر. السوريون القوميون كانوا أيضاً متأثرين بهذا النهج. ألم تكن هناك محاولة من السوريين القوميين لالتقاطكم؟ أم هل كانت الفكرة العربية متبلورة لديكم، وكنتم تدركون ذلك الحاجز بينكم؟
الحكيم: على هامش موضوع "كفاحي"، صحيح أننا كنا نطالعه، لكن الصحيح أيضاً أننا كنا نطلب من المجموعة مطالعة جميع الأفكار. قلنا يجب أن ندرس كتاب "كفاحي"، وتجربة موسوليني ولينين. يجب أن ندرس كلّ شيء، ونقرأ القرآن ونعرف تراثنا. في ذلك الوقت لا تستطيع القول إننا كنا نطالع في خطّ محدّد، بل كنا نطالع جميع التجارب.
أما فيما يتعلق بالفارق بين علاقاتنا بالشيوعيين من ناحية والسوريين القوميين من ناحية ثانية، فقد كان الموقف السياسي للشيوعيين يفرض علينا تصنيفهم، لأن ردَّة فعلنا على مواقفهم كانت هي نفسها ردَّة فعل المواطن الفلسطيني والعربي العادي: وطن يُغتصب، وهذا ظلم، ومن ثم علينا أن نثور ضدّ هذا الظلم. عندما كنا نجد فلسطينياً أو عربياً يرفع شعار الصلح مع إسرائيل وتأييد قرار التقسيم لم تكن عقولنا قادرةً على استيعاب ذلك، وتلقائياً نعتبر ذلك الموقف ضرباً من الخيانة، على الرغم من خوضنا بعض الحوارات معهم. هذا هو الموقف من الشيوعيين. أما الموقف من السوريين القوميين فكان مختلفاً. هم معنا في القضية الفلسطينية. لكن، في ذلك الوقت، كانت القضية العربية والاتجاه العروبي عميقين لدينا، ولم نكن نتصوّر أن نصبح ضمن فكر السوريين القوميين. ولعلّ هذا ما يُفسِّر لماذا لم تتّخذ علاقتنا بالقوميين السوريين علاقة صِدام، بل حلّت في محلّه نقاشات عن القومية السورية في مقابل منطلق القومية العربية.

في 1951، بعد فشل تجربة كتائب الفداء العربي، أصبحت هناك مجموعة تفكّر في تأسيس منظمة جديدة صارت تُعرف فيما بعد باسم حركة القوميين العرب.

- شريف: هل كانت المنافسة هي قاعدة انتخابات العروة الوثقى في ذلك الوقت؟
الحكيم: تنافس حادّ جدّاً.

- شريف: كيف كان الاستقطاب يتجسّد؟ هل كنتم كتيار قومي مع البعث في مقابل الشيوعيين مثلاً؟ أم كانت هناك قوى أخرى؟
الحكيم: في انتخابات الأعوام 1948 - 1950، ولا سيّما في الانتخابات التي أُجريت في نهاية عام 1949، كانت هناك ثلاث قوائم: قائمة الشباب القومي العربي، وهذا هو اسمنا آنذاك، وقائمة الشيوعيين، وقائمة ثالثة حيادية، ربما كان فيها صبحي غوشة وعاطف دانيال [من اللاذقية، وكان بعثياً]. وكانت المعركة حامية الوطيس بكلّ معنى الكلمة. وهنا يؤسفني القول إن إدارة الجامعة كانت تراقبها مباشرة، وكنت أشعر أحياناً أنها ترتاح للصراع، وكان ذلك يؤلمني. لكن في الوقت نفسه كنا نشعر بأن لا بدّ من ربح المعركة ضدّ الشيوعيين. ثم بعد ذلك نواصل معركتنا ضدّ الإدارة.

 

وديع حداد بالكوفية الفلسطينية
                                            وديع حدّاد متوشّحاً الكوفية الفلسطينية

- شريف: كانت المنطقة تعجّ في هذه المرحلة، أي بعد عام 1948، بالتظاهرات والتحرّكات السياسية. والجامعة الأميركية، كونها مركزاً طليعياً، كانت التظاهرات تنطلق منها. ويتذكّر بعض الأشخاص أن وديع حدّاد اعتُقِل أو كُسِرت رجله في إحدى التظاهرات، هل تتذكّر تلك التظاهرة؟
الحكيم: حدث ذلك في عام 1951 كما أعتقد، وهذه الحادثة أذكرها جيّداً للسبب الآتي: عندما تخرّجت في الجامعة التقينا كلّنا: هاني [الهندي] وأحمد [الخطيب] ووديع [حدّاد] وصالح [شبل] وحامد [الجبوري] (6)، لأنني كنت أول واحد من المجموعة أتخرّج. تخرّجت في يونيو/ حزيران 1951، ومن هنا صار المطلوب مني أن أقرّر ماذا سأعمل، وكان الجواب هو أن أحاول البقاء في الجامعة لأدرّس، لأن من المفيد أن نبقى معاً لنعمّق هدفنا، ومن المفيد أن يبقى تنظيمنا قوياً في الجامعة الأميركية حتى بعد ما يتخرّج الآخرون. وهذا هو النقاش الذي دار آنذاك، إذا لم أكن مخطئاً. واستقر الرأي على أن أعمل في الجامعة الأميركية. ولربما كان هناك سبب آخر، لكنني لست متأكّداً منه، إذ إنني اتهمت، ليس زوراً وبهتاناً، بمحاولة التخطيط لاغتيال الملك عبد الله. ومن ثم سأواجه عند ذهابي إلى الأردن مشكلةً. ولهذه الأسباب كلّها، وحتى لو كانت المشكلة المتعلّقة بوجودي في الأردن قد حُلّت، كانت هناك فتاة في ذلك الوقت متحمّسة لأكون في الأردن، وسعتْ في هذا الأمر، ونجحتْ، استناداً إلى البراءة التي أخذتها من المحاكم السورية في شأن كتائب الفداء العربي.

- شريف: في يوليو/ تموز عام 1951.
الحكيم: نعم، ولم يكن موضوع محاولة اغتيال الملك عبد الله قد اتضح تماماً. وعلى هذا الأساس قدّمت طلباً للتدريس في دائرة الهيستولوجيا (علم الأنسجة) الذي يرأسها البروفيسور شانكلين، فقبلوا طلبي، لأن شانكلين كان لديه انطباع جيّد عنّي في ضوء نتائج السنة الأولى، حين لم يكن موضوع النكبة وقرار التقسيم قد فرض نفسه عليَّ، وكنتُ مُتفرِّغاً لدراستي، ومنذ السنة الأولى رحتُ أساعده في الأبحاث، كما كنت أساعد أستاذ الكيمياء الحيوية أيضاً. المهم قَبِل البروفيسور طلبي بحماسةٍ شديدة.
في السنة التي تخرّجت فيها في نهاية عام 1951، وقع حدث كبير كان يتطلّب منا أن نتظاهر، فاتخذنا قرار التظاهر، ولكن عليَّ أن أكون وراء الستار، باعتباري أستاذاً. وحين انطلقت التظاهرات فإذا بالشرطة تحيط بالجامعة بشكل مكثّف جدّاً جدّاً جدّاً، وشدّدت السلطات الأمنية على أن التظاهرة يجب ألا تخرج من نطاق الجامعة، واتخذت كلّ الإجراءات، بما في ذلك تربيط البوابة الطبية بجنازير، ووقف الجنود متراصّين لمنع هذا التحرّك. كنا نصر على أن القيادة يجب أن تكون في الأمام دائماً. إنها مفاهيم جميلة في ذلك الوقت. ومن ثم جاء وديع [حدّاد] وأحمد [الخطيب] لمواكبة التظاهرة. أنا كنت أراقب التظاهرة باعتباري أستاذاً، لكنني كنتُ أغلي في داخلي، ولم يكن واضحاً هل سنربح المعركة أم لا. لم أستطع الابتعاد عن الميدان، بل وجدت نفسي أدفع الباب الحديدي معهم. ولما فُتح الباب غمرنا شعور بالنصر. ثم جاء بعد ذلك الضرب؛ ضُرِب وديع على رأسه، واعتقلوه ثم اعتقلوني أنا أيضاً. وجاءت والدة وديع وراحت تردّد: "عجبك هيك". هذا هو الحادث الذي أذكره إبان احتجاجنا على الأحلاف التي كانت تريد ربط المنطقة العربية بالدوائر الاستعمارية. في بداية عام 1952 قدّمت استقالتي لأتفادى مجيء البروفيسور شانكلين، أو البروفيسور غنطوس عميد كلّية الطبّ، ليحاسباني، فقلت لهما فوراً: لا أستطيع الاستمرار في العمل. وقد اعتُقِلنا ثلاثة أو أربعة أيام، فقد كان النظام اللبناني نظاماً ليبرالياً في ذلك الوقت، ولم يكن ثمة بطش وكبت من النوع الذي نشهده الآن لدى الأنظمة العربية، رجعيةً كانت أم وطنيةً.

بعد فشل تجربة كتائب الفداء العربي، أصبحت هناك مجموعة تفكّر في تأسيس منظمة جديدة صارت تُعرف فيما بعد باسم حركة القوميين العرب

- شريف: هل فُصِل وديع حدّاد من الجامعة، وهل فُصِلت أنت؟
الحكيم: أمّا أنا فلم أُفصَل من الجامعة، بل كانت هناك صدامات دائمة مع الإدارة وإنذارات. وكنت خائفاً من أن تستند الجامعة إلى ما تكشّف من معلومات عن كتائب الفداء العربي وعن صلتي بها في دمشق وبيروت (7). لكن عندما كُشفت الأسماء في قضية كتائب الفداء العربي، وجرت المحاكمة، اضطررتُ إلى الابتعاد عن محيط الجامعة كلّياً نحو شهر أو شهرين. وأذكر أنني اختفيت في محلّة البسطة [لدى شاب يدعى منير سنو]، لأن أصدقائي راحوا يقولون لي إن أديب الشيشكلي سيرسل مَن يختطفك مادمتَ تدرّس في الجامعة، وهي مكان معروف ومكشوف، فاضطررت إلى الاختفاء. لكن، بعد شهر أو شهرين بدأت المحاكمة وأُعلنت الأحكام، فقلّ الخوف لديّ من أن يعمد الشيشكلي حقّاً إلى إرسال مجموعة لاختطافي من بيروت إلى دمشق، ورجعت إلى الجامعة. كنت أتوقّع في تلك الفترة أن تتخذ إدارة الجامعة من المحاكمات حُجَّة لفصلي، لكنها لم تفعل، بل على العكس، فقد ساعدني الأساتذة، ومنهم الأستاذ توفيق الشخشير، وهو لبناني، على تجاوز فترة الانقطاع المؤقّتة.
وأود أن أقول إنني مررت، في جمعية العروة الوثقى، بعدّة مراحل: الأولى كنت فيها نائبَ الرئيس حين كان الرئيس هو إدمون الباوي من سورية. وفي المرحلة الثانية كنت رئيسَ اللجنة التنفيذية في الجمعية.

جورج حبش في عمّان
                                               جورج حبش في عمّان (Getty)

- شريف الحسيني: في الفترة التي كنت فيها طالباً في كلّية الطبّ، هل كانت مدّة الدراسة خمس سنوات ثم يلتحق المتخرّج بسنة تخصّص؟
الحكيم: لا، أنا حاولت بعد التخرّج أن أدرّس. بينما وديع غادر بعد تخرجه في يونيو 1952 إلى الأردن مباشرة، والدكتور أحمد الخطيب تخرج في يونيو 1952 وذهب فوراً إلى الكويت.

- شريف: اشتغل وديع في مصح الدكتور شارل نخو (8).
الحكيم: نعم، لكن هذا كان جزءاً من السنة الدراسية الخامسة، فعمل في المصحّ شهرَين، وهي فترة التدرّب. وأنا عملت في مستشفى في طرابلس، في الميناء. وأعتقد أن الدكتور أحمد عمل أيضاً في ذلك المستشفى نحو شهرَين.

- شريف: إذاً أنت لم تكمل عملك في الجامعة، هل قدّمت استقالتك؟
الحكيم: نعم، وسبقت وديع إلى عمان وهيأت العيادة، ربما قبله بنحو ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر، وربما أقل. وعندها جاء وديع وحامد الجبوري إلى العيادة.

حاولت بعد التخرّج أن أدرّس، بينما غادر وديع بعد تخرّجه في يونيو 1952 إلى الأردن مباشرةً، وأحمد الخطيب تخرّج وذهب فوراً إلى الكويت

- شريف: هل ذهبت إلى الأردن في ذلك الوقت بموجب قرار حركي؟
الحكيم: ذهبت في سياق خطّة. في ذلك الوقت كنا نجتمع ونتخذ القرارات. كنا نبحث في تلك الاجتماعات المطالعات التي طالعناها أولاً، ونبحث من يكتب التعليقات، ثم ندرس النشاط الذي سنقوم به في الحركة الطالبية في لبنان، وفي نشاطنا المستقبلي. كان الأمر واضحاً في ذهني، أي أن أبقى سنةً في الجامعة بعد التخرّج، ثم أغادر إلى الأردن، ثم يأتي وديع إلى الأردن، وكلّها قرارات جماعية. ومغادرة حامد الجبوري إلى الأردن كانت قراراً أيضاً. وبقاء صالح شبل مسؤولاً في لبنان هو قرار. وذهاب هاني الهندي (أبو محمود) إلى سورية، هو قرار كذلك. وذهاب أحمد الخطيب إلى الكويت ليؤسّس فرعاً للحركة هناك هو قرار. في ذلك الوقت كنا مجموعةً بلا اسم محدّد، ولم نكن نجرؤ على أن نقول إننا سنؤسّس شيئاً جديداً. كان هناك حزب البعث وغيره، وكان علينا أن ننجح في إعطاء مثال ملموس جديد، وحينذاك يحقّ لنا أن نتصدّى لتأسيس تجربة جديدة. وكانت مقاييسنا في ذلك الوقت مقاييسَ مسلكيةً بالدرجة الأولى، بمعنى أننا كنا مستعدّين للتضحية، ومستعدّين لأن ننخرط في صفوف الناس، وأن نحيا حياةً بسيطةً. وعلى سبيل المثال كان الدكتور أحمد الخطيب يدفع راتبه كلّه للحركة باستثناء عشرة دنانير [كان يتقاضى مائة دينار كويتي ويتبرع بتسعين ديناراً للحركة]، وكان الدكتور وديع وحامد الجبوري على استعداد للذهاب إلى الأردن، وكنا نريد أن نبرهن أننا أكْفاء. هذا هو المقياس الأول. أما المقياس الثاني فهو أننا نريد أن نبلور نظريةً جديدةً، وكيف نستفيد من التجارب السابقة، وما هي الضمانات المطلوبة؟ هذه الموضوعات التي كنا نبحث فيها في أثناء وجودنا في الجامعة. وأذكر في هذا الشأن أنني كنت أكتب بعض المقالات في نشرة "الثأر" (9)، ولا أوقعها. وكنا نبحث موضوعاً رابعاً هو المستقبل الاستراتيجي، أي تأسيس منظمة صار اسمها فيما بعد حركة القوميين العرب. كانت المرحلة الأولى مؤلمة، وأحداثها مرّة وغنية جداً في الوقت نفسه، وأطرها متشابكة جداً. حلقات قسطنطين زريق كانت إطاراً، وجمعية العروة الوثقى كانت إطاراً ثانياً، والشباب القومي العربي أو الحركة الطالبية اللبنانية اعتُمدت إطاراً، وكتائب الفداء العربي إطاراً رابعاً (10). وربما في 1950 - 1951 بدأنا نفكّر في الإطار الذي قادنا إلى حركة القوميين العرب. وكنا نطرح على أنفسنا السؤال التالي: هناك بعثيون، وكنا على صلة ببعضهم، وكنا نقول لهم: هل نستطيع بهذه البنية أن نحارب العدو الصهيوني و"الهاغاناه"؟ أذكر أيضاً، ولم نكن نصدّق أن هناك أناساً تذهب لتسهر وتنفق 100 ليرة لبنانية في ذلك الوقت؟ لماذا لا يأتون إلينا بهذا المبلغ لنشتري كذا وكذا؟ هذه المقاييس الحسّية كنا مشدودين إليها، ووديع كان على رأس من يشدّد على السلوك، في الوقت الذي كان صالح شبل وهاني الهندي (أبو محمود) يؤكّدان أن أي حركة يجب أن يكون لها أفق، ولا يقتصر الأمر على العمل والميدان والممارسة فحسب. كنا مركّباً جيّداً (Compound)، وليس خليطاً (Mixture). أبو محمود [هاني الهندي] وصالح [شبل] كانا يمنحان قيمةً للجوانب النظرية. أذكر، على سبيل المثال، أن صالح كتب محاضرةً واعتمدناها، وكان السؤال الرئيس فيها: لماذا فشلت الأحزاب العربية؟ وهذا موضوع أساسي تكمن فيه أسباب وجودنا. لماذا نريد أن نقوم بعمل ما؟ ... لأن الأحزاب الشيوعية العربية فشلت، وهذه هي أسباب فشلها، وهو ما يُبرّر لنا أسباب وجودنا. وديع وأحمد كانا يركّزان على الممارسة، وشعارهما هو شعار لينين: "خطوة عملية واحدة أفضل من دزّينة برامج"، وكنتُ أحاول أن أجمع كلّ ما هو إيجابي لدى الفريقَين.

هوامش:

(1) في 2 /4/ 1947 تقدم المندوب البريطاني في الأمم المتحدة بمذكّرة يطلب فيها إدراج الوضع في فلسطين على جدول أعمال الجمعية العامة. وبناء على هذه المذكّرة شكّلت الأمم المتحدة لجنة خاصة بفلسطين (أونيسكوب). وقد انتهت تلك اللجنة إلى التوصية بتقسيم فلسطين إلى دولتَين: عربية ويهودية (القرار 181، 29 /11/ 1947). وعلى الفور أعلنت بريطانيا أنها ستُنهي الانتداب في 15 /5/ 1948، وتسحب قواتها من فلسطين في ذلك التاريخ.
(2) أُسّست جمعية العروة الوثقى في نطاق الكلّية الانجيلية السورية (الجامعة الأميركية في بيروت لاحقاً) في سنة 1917. وكانت غايتها في الأساس تطوير الآداب والفنون لطلاب الجامعة. وقد اقترض المؤسّسون الاسم من مجلة العروة الوثقى التي أصدرها في باريس جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في سنة 1884 لمواجهة الاحتلال البريطاني لمصر بعد فشل ثورة أحمد عرابي في سنة 1882. وكان أول رئيس للجمعية وواضع نشيدها الأول الدمشقي ابراهيم الدادا، أما مؤلف نشيدها الثاني فقد وضعه الشاعر السوري جلال أمين زريق في عام 1923. ووضع نشيدها الثالث الشاعر اللبناني عبد الرحيم قليلات في سنة 1936، واستقر الوضع منذ سنة 1938 على النشيد الذي نظمه سعيد عقل ولحنه الأخوان أحمد ومحمد فيلفل.
(3) آمال نفاع (أبو خلدون) شيوعي أردني، تخرج في الجامعة الأميركية في بيروت سنة 1954، واعتقل في سجن الجفر الأردني في سنة 1957، وتوفي في سنة 2018.
(4) ولد ابراهيم أبو ديّة في بلدة صوريف – قضاء الخليل في سنة 1920. شارك في ثورة 1936 تحت قيادة عبد الحليم الجيلاني، وانضم إلى جيش الجهاد المقدس بقيادة عبد القادر الحسيني في سنة 1947. أصيب في معركة رامات راحيل (17 /5/ 1948) بعدة رصاصات استقرت في عموده الفقري، الأمر الذي أدى به إلى الشلل. جاء إلى بيروت في سنة 1949 للعلاج وكان يرافقه باستمرار محمد نمر عودة ومحمد خليفة. وتوفي في بيروت في 6 /3/ 1952.
(5) اغتيل نسيب المتني في 8 /3/ 1958 فكان ذلك الحادث الشرارة التي أشعلت ثورة عام 1958. ويزعم ويلبر كرين إيفلاند، في كتابه "حبال من رمال" (بيروت: دار المروج، 1985)، أن الاستخبارات السوفياتية هي التي اغتالت نسيب المتني (ص 183)، لأنه كان يتعاون مع جهاز الاستخبارات البريطاني sis أو Secret Intelligence Services.
(6) ولد حامد الجبوري في مدينة الحلّة بالعراق في 1/ 3/ 1932، والتحق بالجامعة الأميركية في بيروت سنة 1948. وفي أثناء دراسته عرّفه جمال الشاعر إلى ميشال عفلق وانضم إلى حزب البعث العربي، وكان من رفاقه محمد عطا الله وعبد المجيد الرافعي. استقال من حزب البعث بعد اعتقال ميشال عفلق غداة انقلاب حسني الزعيم في سورية 1949. انضم إلى الشباب القومي العربي مبكراً فاعتبر أحد مؤسّسي حركة القوميين العرب في طورها الأول. عاد وانضم رسمياً إلى حزب البعث في سنة 1966، وأصبح وزيراً لشؤون رئاسة الجمهورية في سنة 1968، وتدرّج منذ ذلك التاريخ في مناصب متعدّدة إلى أن أعلن انتقاله إلى صفوف المعارضة العراقية في سنة 1993. تُوفّي في 18/ 12/ 2017.
(7) كتائب الفداء العربي منظمة سورية أسّسها في سنة 1949 جهاد ضاحي للانتقام ممن أضاع فلسطين، وكان قوامها ناجي الضلّي وجودت ضاحي ومحمد علي النويلاتي ونجيب كحيل وعاصم الشيخ وفتحي كيتكاني وأديب نصور وآخرين. وفي دمشق تعرف هؤلاء إلى مجموعة مصرية لاجئة إلى سورية تضم حسين توفيق (ابن اللواء توفيق باشا وكيل وزارة الدفاع في مصر) وعبد القادر عامر (حفيد أحمد عرابي) وعبد  الرحمن مرسي ومصطفى كمال الدفراوي. وهؤلاء كانوا أعضاء في "الحرس الحديدي" الذي أشرفت عليه ناهد يوسف وزوجها يوسف رشاد طبيب الملك فاروق، وهم الذين اغتالوا أمين عثمان في سنة 1946 وفرّوا إلى سورية.وقد انضم هؤلاء جميعاً إلى كتائب الفداء العربي، وكان هاني الهندي حلقة الوصل بينهم. ويقول جورج حبش إن هاني الهندي هو مَن أطلعه على قصة كتائب الفداء العربي وضمّه إليها (أنظر: جورج حيش، صفحات من سيرتي النضالية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2019، ص 65). وقد نفذ أعضاء الكتائب عدة عمليات منها محاولة اغتيال الكولونيل ستيرلينغ في دمشق في سنة 1949 (نفذ العملية جودت ضاحي وعبد القادر عامر وفتحي كيتكاني)، ونسف مدرسة الاليانس في بيروت (قام بالعملية جهاد ضاحي وهاني الهندي وعاصم الشيخ وطارق الخضيري)، وإلقاء عبوة ناسفة على السفارة البريطانية في دمشق (جودت ضاحي وبهجة العُلبي)، وإلقاء عبوة أخرى على السفارة الأميركية في دمشق (حسين توفيق وعبد القادر عامر وعباس الخرسان)، ونسف الكنيس اليهودي في دمشق (جهاد ضاحي وفتحي كيتكاني وموسى حمدان). ولما أراد حسين توفيق وعبد القادر عامر اغتيال أكرم الحوراني وأديب الشيشكلي رفض هاني الهندي وجهاد ضاحي هذا الأمر، فانفردت المجموعة بهذه العملية ففشلت واعتُقل كثيرون بمن فيهم هاني الهندي. ولما خرج هاني الهندي من السجن ذهب إلى بيروت والتقى جورج حبش وعملا معاً على تأسيس مجموعة الشباب القومي العربي، التي أصبحت في ما بعد حركة القوميين العرب. وبهذه السيرة لم تكن كتائب الفداء العربي سلفاً لحركة القوميين العرب، بل تجربة من تجارب هاني الهندي، وبصورة عابرة إحدى تجارب جورج حبش.
(8) ولد شارل نخو في بيروت في سنة 1917. والده نعمة نخو من مواليد الناصرة في سنة 1877، وهو أحد أشهر أطباء الأمراض الصدرية والتدرن الرئوي، وترأس مصح هملين في قرية الشبانية. وقد ورث شارل نخو والده وتخصص في جراحة الرئتين ومعالجة التدرن في مصح ضهر الباشق في لبنان.
(9) في صيف 1952 تألفت في بيروت "هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل". وهذه الهيئة أصدرت نشرة "الثأر" في 20/11/1952. وتألفت هيئة التحرير من: صالح شبل، ثابت المهايني، أديب قعوار، عدنان فرج، مصطفى بيضون، سمير صنبر. وتوقفت الثأر في سنة 1957. وكان علي ناصر الدين ألقى محاضرة في طرابلس الشام في نيسان/ ابريل 1951 بعنوان "الثأر"؛ وجمعته علاقة وثيقة بجورج حبش وهاني الهندي ووديع حدّاد. فلما ارادت مجموعة الشباب القومي العربي إصدار مجلة تعبوية اختارت اسم "الثأر" (راجع: احمد الخطيب، الكويت من الامارة إلى الدولة، بيروت – الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2007، ص 78).
(10) في آذار/ مارس 1950 التقى جورج حبش وهاني الهندي ميشال عفلق في دمشق، وعرضا عليه جعل "كتائب الفداء العربي" الجناح العسكري لحزب البعث. ولم يتوصّل الثلاثة إلى اتفاق في هذا الشأن لأن عفلق طلب من حبش والهندي أن ينضم أعضاء كتائب الفداء العربي إلى حزب البعث أفراداً لا مجموعةً. وحين يصبح الجميع في داخل الحزب رفاقاً متساوين يمكن دراسة مقترحات العمل المسلّح. ثم التقى ميشال عفلق في منزله في بيروت كلاً من جورج حبش وهاني الهندي وموسى حمدان وعلي منكو وعبد الغني النابلسي وبرهان حمّاد وناجي الضلّي، وكان عبد المحسن القطّان مع عفلق، ولم ينجم أي اتفاق عن ذلك اللقاء أيضاً (راجع: جمال باروت، حركة القوميين العرب، دمشق: المركز العربي للدراسات الاستراتيجية، 1997، ص 47 - 51). أما الخلاف فتركّز في نقطتَين: الأولى، مركزية قضية فلسطين لدى كتائب الفداء العربي، في حين كان البعث يركّز على حركة التحرّر الوطني في بقاع العالم العربي كلّه؛ والثانية، موضوعة الاشتراكية التي كان ميشال عفلق يراها ضرورية جدّاً في سياق النضال الجماهيري في سبيل العدالة الاجتماعية، فيما كان حبش يرى أن مثل هذه الأفكار ما تزال مُبكّرة.

المساهمون