تواجه خطط الرئيس الأميركي جو بايدن، لترفيع مسألة احترام حقوق الإنسان حول العالم، والقضايا الإنسانية والمجتمعية المرتبطة بها، عراقيل من الدول المعنية، والمتهمة أنظمتها بشتى أنواع الانتهاكات الحقوقية، فضلاً عن الدول التي لم تنفض عنها غبار الحروب التي عانت منها طويلاً. وفي جنوب السودان، الدولة التي احتفلت في 9 يوليو/ تموز الحالي، بعيد انفصالها العاشر عن السودان، تبدو انتكاسة بايدن جلية، حيث لم تبصر المحكمة الجنائية لمحاسبة مجرمي الحرب الأهلية التي دارت في هذا البلد حديث النشأة، عام 2013، النور بعد، لا سيما منذ أن تعهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بأن تمنح بلاده لجنوب السودان حوالي 5 ملايين دولار لإنشائها، في 2015. وقرّرت إدارة بايدن إعادة تخصيص هذه الأموال لبرامج أخرى في جنوب السودان، وإعادة جزء منها إلى وزارة الخزانة الأميركية. ويعكس هذا التخلي إحباطاً متزايداً من قبل واشنطن، ليس فقط تجاه رئيس جنوب السودان سيلفاكير ميارديت، الذي يرفض إنشاء مثل هذه المحكمة، ومعه نائبه ومنافسه الأول رياك مشار، بل أيضاً تجاه الاتحاد الأفريقي، الذي كان المتحمس الأول لإنشاء محكمة إقليمية لجرائم الحرب في جنوب السودان، على أن يكون أعضاؤها وفريقها من المحامين والقضاة الأفارقة، ومنهم من الدولة المعنية. ويملك الاتحاد الأفريقي سلطة إنشاء المحكمة، لكنه ظلّ متردداً ومنتظراً الحصول على ضوء أخضر من الأفرقاء السياسيين في جوبا.
ستعيد واشنطن تخصيص أموال إنشاء المحكمة لبرامج أخرى
ويبدو أن واشنطن رضخت أخيراً لعرقلة جوبا، وتراجعت عن رغبتها بولادة هذه المحكمة، التي من شأنها أن تكشف الكثير من الفظائع التي ارتكبت خلال الحرب، وهو ربما ما لا يريده زعماء هذا البلد، الذين يتحدثون عوضاً عن ذلك عن ضرورة إنشاء آلية لـ"المصالحة". وخلال الأسابيع الماضية، أعطت وزارة الخارجية الأميركية إشارة بأنها ستعيد تخصيص أموال تمويل المحكمة وتوجيهها إلى برامج أخرى في جنوب السودان، مع إعادة جزء منها إلى الخزانة الأميركية. وبحسب مسؤولين في إدارة بايدن وخبراء، فإن الخطوة "على الرغم من تواضع المبلغ، تشكل هزيمة للمدافعين عن حقوق الإنسان، ولدور الولايات المتحدة الذي كان رائداً وأساسياً خلال مرحلة انتقال جنوب السودان إلى الاستقلال". كما أن الخطوة تعكس بنظرهم ضربة لأجندة بايدن الطموحة، للدفع قدماً بالديمقراطية وحقوق الإنسان حول العالم، وانتصاراً في الوقت ذاته لسلفاكير، الذي عمل طويلاً على اعتراض إنشاء المحكمة.
وأكد متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، لمجلة "فورين بوليسي"، أن 2.5 مليون دولار سوف تعود إلى الخزانة الأميركية، فيما سيتم تجديد الإبقاء على منح مكتب الاستشارية القضائية في الاتحاد الأفريقي مبلغ مليون ونصف المليون دولار، كانت مخصصة لتمويل المحكمة، على أن تذهب إلى "برامج أخرى للدفع بأجندة العدالة والمحاسبة في جنوب السودان، بطرق أخرى". وأضاف: "ندرك أن إنشاء المحكمة من دون تعاون ثابت من حكومة جنوب السودان، سيكون مخاطرة، ونحن نتواصل مع الاتحاد الأفريقي حول أفكار للتقدم بالعدالة في هذا البلد، حتى مع غياب تعاون واضح من حكومته". لكن في الكواليس، يعرب مسؤولون أميركيون عن إحباطهم من الاتحاد الأفريقي أيضاً.
وخرج اقتراح إنشاء المحكمة المختلطة لجنوب السودان، حين خلصت لجنة تحقيق تابعة للاتحاد الأفريقي في 2015 إلى أن سلفاكير ونائبه مشار انخرطا في فظائع جماعية خلال الحرب الأهلية التي اندلعت بعد عامين من انفصال جنوب السودان. وتعهد الرجلان في اتفاقين (2015 و2017)، رعتهما الولايات المتحدة والاتحاد الأفريقي، بدعم إنشاء المحكمة. بدورها، تعهدت إدارة أوباما في 2015 بمنح حوالي 5 ملايين دولار لإنشائها. وأعلن وزير الخارجية الأميركي حينها جون كيري، من نيروبي، في مايو/ أيار من ذلك العام، دعم بلاده لإنشاء "آلية عدالة ذات مصداقية، وحيادية، وفاعلة، مثل المحكمة المختلطة، بهدف سوق المسؤولين عن العنف إلى المحاسبة".
لكن وعود القيادة في جنوب السودان ظلّت حبراً على ورق. في 2019، وقعت هذه الحكومة عقداً بملايين الدولارات مع شركة ضغط أميركية، تضم دبلوماسيين أميركيين سابقين كبار، لمحاولة إقناع الولايات المتحدة بـ"تأخير، وفي النهاية، منع إنشاء المحكمة"، بحسب ما جاء في العقد. ولاحقاً، أقدمت الشركة وحكومة جنوب السودان على تمزيق العقد واستبداله بآخر لا يتضمن مصطلح "منع"، بعد اعتراض مسؤولين أميركيين سابقين ومجموعات حقوقية. وقال سلفاكير، في مقابلة تلفزيونية، أخيراً، إن "من الأفضل إنشاء لجنة للمصالحة والحقيقة، على غرار ما فعلته جنوب أفريقيا".
يبدي مسؤولون أميركيون إحباطهم من جوبا والاتحاد الأفريقي
ويخشى خبراء حقوق الإنسان، اليوم، من أن ذهاب مشروع إنشاء المحكمة أدراج الرياح، قد يعني أن الجنود وعناصر المليشيات في جنوب السودان، المسؤولين عن ارتكاب الفظائع، كالتصفيات والمجازر الجماعية، والاغتصاب والتعذيب والاستعباد الجنسي، والتجويع الممنهج والمتعمد للسكان، لن يحاسبوا يوماً.
وكانت منظمات حقوقية عالمية، وحكومات غربية، قد اتهمت كلاً من سلفاكير ميارديت، ومشار، بإدارة حكومة ينهشها الفساد، متعكزين على وعود (زائفة) لبناء دولة ديمقراطية، على الرغم من حصول جنوب السودان على أكثر من نصف مليار دولار سنوياً منذ اندلاع الحرب الأهلية فيها. ويحتاج اليوم حوالي ثلثي سكان هذا البلد (حوالي 7.7 ملايين نسمة من أصل 11.3 مليون نسمة)، لمساعدة غذائية، بحسب بيانات وكالة الأمم المتحدة للتنمية، مع تحذير أممي من أن شرائح كبيرة من شعب جنوب السودان تواجه ظروفاً أشبه بالمجاعة. ويقدر عدد الذين قتلوا خلال الحرب الأهلية التي اندلعت في جنوب السودان في 2013، بـ400 ألف شخص.
ورأى بيتر أجاك، وهو سجين سياسي سابق في جنوب السودان، ومختص في شؤون بلده، أن المشكلة تكمن بأن الولايات المتحدة توقفت منذ وقت طويل عن إبداء الاهتمام بجنوب السودان. لكن في الولايات المتحدة، هناك من يرى أن هذا التخلي ناجم عن الإحباط. وقال مصدر في مجلس الشيوخ: "لقد أحبطنا الفساد في هذا البلد. أحبطتنا القيادة. المشكلة أن لدينا التزاماً معنوياً، وربما تاريخياً. لقد لعبنا دوراً في ولادة هذا البلد".
(العربي الجديد)