تتفق المعارضة السياسية في تونس على ضرورة التصدي للمسار الأحادي الذي فرضه الرئيس قيس سعيّد منذ بداية مساره الانقلابي في 25 يوليو/تموز 2021، لكنها تعجز على التوصل إلى مبادرة سياسية جامعة وبديل موحد لتجاوز الأزمة السياسية، في انعكاس لمدى تفتت المعارضة وتشتتها.
وتختلف أسباب رفض المعارضات للتقارب فيما بينها رغم التوافق المبدئي على مناهضة الانقلاب، بين أسباب أيديولوجية تاريخية وأخرى لتعنت القيادات ورفض التنازلات. كما أن هناك أسباباً ترتكز على البحث المحموم عن التموضع بشكل متفرد ما زاد في فُرقة المعارضين.
سعيّد يُهاجم المعارضين في تونس
ورغم عجز المعارضة عن التوحد في جبهة واحدة أو في كتلة حزبية ائتلافية موحدة أو حتى ضمن مبادرة واحدة، فإن توافقها حول رفض خيارات سعيّد ومناهضتها، أزعجه إلى حدّ انتقاده هذه القوى المتفرقة. ولطالما هاجم سعيّد المعارضين مذكراً بصراعاتهم وتشتت صفوفهم، فقد أشار، خلال إشرافه على مجلس وزراء في شهر مارس/ آذار 2022، إلى أنهم "كانوا يتصارعون بالأمس ويتبادلون العنف، واليوم صاروا على نفس الموقف وعلى قلب رجل واحد". ولفت إلى أنهم "كانوا متفرقين وكانت الاعتصامات تنظم ضد كل طرف من هذه الأطراف، التي اجتمعت اليوم على تشويه الحقائق وعلى تجويع الشعب والتنكيل به''. كما ادعى سعيّد، في خطابه لدى إشرافه على موكب الاحتفال بالذكرى الـ66 لتأسيس قوات الأمن الداخلي في إبريل/نيسان 2022، أنهم (المعارضون) "يريدون لعب أدوار البطولة، وهم يتقلبون ويتلونون كل يوم، وكانوا بالأمس خصماء وصاروا اليوم ولفاء".
مؤشرات على استعادة الثقة بين أطراف المعارضة
بدوره، اعتبر رئيس المكتب السياسي لحركة النهضة نور الدين العرباوي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "المعارضة معارضتان: الصنف الأوّل يضم القوى السياسية والشخصيات الوطنية الرافضة لما أقدم عليه سعيّد يوم 25 يوليو 2021 وتعتبره انقلاباً، وفي مقدمتها جبهة الخلاص الوطني ومن مكوّناتها الرئيسية حركة النهضة". هذه القوى والشخصيات "تقاوم الانقلاب منذ حدوثه وتعمل على استعادة الديمقراطية المغدورة عبر النضال السياسي والميداني السلمي"، بحسب العرباوي. وشدد على أن "الثقة لا تزال مهتزّة بين هذه الأطراف بسبب الصراعات السياسية التي قامت بينها خلال العشرية الديمقراطية السابقة للانقلاب، وهناك مؤشرات على بداية استعادة الثقة بين هذه الأطراف خلال المرحلة المقبلة".
العرباوي: حجم الدمار الذي ألحقه الانقلاب بالدولة يدفع الأطراف إلى تجاوز خلافاتها
وأشار العرباوي إلى أن "الصنف الثاني يضمّ المعارضة من داخل الانقلاب، وفيه أساساً القوى التي ساندت انقلاب 25 يوليو في البداية واعتبرته تصحيحاً، وطمعت في المشاركة في الحكم، لكنها لم تجد من سعيّد استجابة، فغيرت موقفها منه".
وفسّر رئيس المكتب السياسي للنهضة رفض الأحزاب الاجتماعية واليسارية التقارب مع "النهضة" وجبهة الخلاص بأن "بعضه يعود إلى تاريخ طويل من الصراع الأيديولوجي السابق للثورة بين النهضة وتلك القوى اليسارية". كما أوضح أن "بعضه الآخر يأتي من مخلّفات تجربة عشرية الثورة التي شهدت صراعاً على الحكم بين الطرفين أنتج هزائم انتخابية متتالية لقوى اليسار أمام حركة النهضة".
وشدد العرباوي على أنه "لكلّ طرف نصيبه من الأخطاء في استمرار الصراع، ولكن الوعي بضرورة تجاوز ذلك الصراع يتنامى اليوم، وهناك جهود تبذل من أجل استعادة الثقة بين الفرقاء". ولفت إلى أن "حجم الدمار الذي ألحقه الانقلاب بالدولة ومؤسساتها وبالمكاسب الديمقراطية في تونس يدفع مختلف الأطراف، اليوم، وإن ببطء، إلى تجاوز خلافاتها والتركيز على مقاومة انقلاب يدمّر كلّ شيء". وتتفق تنسيقية الخماسي الاجتماعي الديمقراطي (مجموعة أحزاب التيار الديمقراطي والتكتل والجمهوري والعمال والقطب) مع جبهة الخلاص على ضرورة إسقاط الانقلاب ورفض المسار السياسي الأحادي، ولكنها تختلف حول سبل الوصول إلى ذلك والطُرق النضالية.
أسباب تمنع اتفاق قوى المعارضة التونسية
من جهته، أشار الأمين العام لحزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات خليل الزاوية، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن "هناك معارضات لا يمكن أن تتفق أو تتجمع، خصوصاً الحزب الدستوري الحر برئاسة عبير موسي، الذي لا يريد أن يتفق مع أحد إلا تحت سقفه". ولفت إلى أن الدليل على ذلك "أن موسي قدمت قضية (دعوى) بحق قيادات في جبهة الخلاص، وهي قيادات غير نهضوية، واتهمتها بالتعامل مع الإرهاب". كما أكد الزاوية أن هذه التهم "خطيرة، وبالتالي لا يمكن أن تلتقي هذه المعارضات".
وأوضح أن "أحزاب الخماسي بدورهم لا يمكنهم التحالف مع الدستوري الحر لأنها شبيهة بسعيّد وثقافتها الإقصاء". وبيّن أن "اختلاف أحزاب الخماسي مع جبهة الخلاص مرتبط أساساً بحركة النهضة التي لم تقم بمراجعات ولم تقم بنقد ذاتي لسياساتها، ونحن نعتبر أن مسار النهضة كان سيئاً، خصوصاً بعد عام 2019، وأدى إلى أزمة خانقة نتج عنها سقوط حكومة إلياس الفخفاخ". كما شدد على أن "مسؤولية التلاعب السياسي مع حكومة هشام المشيشي تتحمله النهضة وحلفاؤها الموجودون في جبهة الخلاص، على غرار ائتلاف للكرامة وقلب تونس، فهم من مهدوا الطريق لنجاح خريطة طريق سعيّد في 25 يوليو 2021".
الزاوية: المهم ليس في توحد المعارضة بل في القدرة على إقناع المواطنين
وأوضح الزاوية أن "المهم ليس في توحد المعارضة، بل في القدرة على إقناع المواطنين". ولفت إلى أن "هناك مطلباً مشتركاً بين جميع المعارضات يتمثّل في المطالبة بإلغاء العملية الانتخابية وعدم إجراء دور انتخابي ثانٍ (المحدد في 20 يناير/كانون الثاني الحالي) وهي نقطة لقاء أساسية".
وأشار الأمين العام للتكتل إلى أن "هناك تغييراً في الشارع ولدى الرأي العام تجاه مسار سعيّد، بسبب الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وهو تغيير أساسي". كما أكد أن هذا التغيير "قد يفضي إلى إيقاف الانتخابات المقبلة وفتح الباب للنقاشات حتى يجد التونسيون مخرجاً، كما حدث في 2013". وبيّن أن "الوضع المالي متردٍ في البلاد بعد تعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ما يعني أن الحكومة لم تقدم ملفاً مقنعاً للصندوق". كما أوضح أن هذه المشكلة "حلها سياسي بالأساس، عبر خروج من الأزمة مبني على تقديم حلول تحفظ كرامة الدولة التونسية، وليس عبر الشكل المذل الحالي".
مبادرة لتجميع المكونات السياسية المعارضة
من جانب آخر، تبرز قوى حزبية وسياسية يسارية اجتماعية وأخرى ليبرالية بمبادرات تطالب بتوحيد القوى لتجاوز الأزمة، على غرار حزب الاتحاد الجمهوري الشعبي وحزب آفاق تونس والراية الوطنية وحركة "عازمون". من جهتها، أشارت المتحدثة الرسمية باسم الاتحاد الجمهوري الشعبي مريم الفرشيشي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أنه "من المؤسف جداً ألا تجتمع الأحزاب السياسية المعارضة للسياسات المنتهجة من سعيّد والمنحى الانقلابي، رغم اتفاقها على تشخيص المشكلة وخشيتها أن تنفلت الأوضاع الاجتماعية وقد تبلغ، لا قدر الله، حالة من الفوضى". وبيّنت أن "الاتحاد الشعبي الجمهوري تقدم بمبادرة (ارحل) بهدف تجميع المكونات السياسية والمجتمع المدني والجمعيات، شعوراً بدقة المرحلة والمخاطر التي تهدد البلاد". كما أكدت أن الاتحاد حاول تأمين الالتفاف "حول الدعوة لرحيل سعيّد، وأن نقوم بتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة وتنصيب حكومة تصريف أعمال تكون مهمتها الأساسية الإعداد لانتخابات".
الفرشيشي: تباعد النهضة مع الأحزاب الاجتماعية واليسارية فيه منحى تاريخي وأيديولوجي
ولفتت الفرشيشي إلى أنه "على الرغم من قبول الجميع بهذا الطرح، إلا أنهم رفضوا الجلوس معاً". وشددت على أن الاتحاد طلب "من كل طرف التوقيع على عريضة بشكل فردي، ولكن لم نتوصل إلى نتيجة بسبب حسابات ضيقة تحكم تصرفات البعض". وأوضحت أنه "رغم أنهم معنيون بسقوط سعيّد ويشعرون بالخطر الذي يمثله على البلاد، إلا أن البعض يقدّر أنه لا بد أن يكون مستفيداً من رحيله، وبالتالي كل مبادرة لا تصب في خانة هذه الفائدة والمغنم لا يمكن أن يساندها".
وأعربت المتحدثة عن أملها في أن "يقود الاتحاد العام التونسي للشغل حوارا كما دعونا إليه، ولكنه نأى بنفسه عن هذا الطرح بسبب المشهد القائم على التنافر، فلم يرد أن يكون طرفاً أو أن يلعب دوراً توافقياً بين المعارضات". وأكدت أن اتحاد الشغل "شعر بأنه قد لا يفلح في ذلك، فارتأى أن تكون مبادرته بين المنظمات والمجتمع المدني بعيداً عن الأحزاب، ما يفقد الاتحاد الدفع اللازم الذي كان سيحققه لو جمع كل المكونات حول طاولة الحوار أحزاباً وجمعيات ومنظمات". ولفتت الفرشيشي إلى أن "تباعد النهضة مع الأحزاب الاجتماعية واليسارية فيه منحى تاريخي وأيديولوجي يعود إلى زمن (الرئيس التونسي السابق) زين العابدين بن علي، والمناكفات التي تجري في رحاب الجامعات". كما شددت على أن "بلوغ النهضة الحكم وتصدرها المشهد خلال السنوات الماضية خلّفا ضغائن ترفض بعض المكونات الحزبية تجاوزها".
وبيّنت أن "هناك أحزاباً تستثمر هذه العداوة لتحويلها إلى مغنم وأداة انتخابية ودعوة لاستئصال النهضة، مثل الدستوري الحر". وأوضحت أن ذلك "تقديراً قصير النظر لأنه غير مجدٍ ويعمق القطيعة ويزيد من التشتت في الوحدة الوطنية التي نطالب بها في هذا الوقت". وشددت على أن "هناك مجالات لمحاسبة هذه الأحزاب، إما قضائياً فيكون فيها للقضاء كلمته، وإما سياسياً من خلال معاقبة الناخب هذه الأحزاب عبر الانتخابات".
أبرز أقطاب المعارضة التونسية
من ناحيته، أكد المحلل السياسي ماجد البرهومي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "المعارضة في المشهد السياسي الحالي تتوزع بين 3 معارضات كبرى، حركة النهضة، مع حلفائها، التي تمثل المكون الأساسي لجبهة الخلاص ويمثلها رئيسها أحمد نجيب الشابي الذي يطمح إلى بلوغ الرئاسة وهو طموح سياسي مشروع". وأشار إلى أن "المكون الثاني هو الدستوري الحر بقيادة موسي التي تُمثل الفصيل المتطرف للعائلة الدستورية (نسبة للحزب الدستوري الذي تزعمه الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة)".
البرهومي: الأحقاد السياسية ستمنع أي تقارب بين المعارضين
كما لفت إلى أن "هناك فصيل ثالث يجمع القوى اليسارية والاجتماعية والديمقراطية التي تَشكّل جزء منها حديثاً". وبيّن البرهومي أن "هذه الأقطاب المعارضة الثلاثة يستحيل أن تتجمع في جبهة واحدة لعدة أسباب، من بينها التاريخي الذي يعود إلى صراعات تاريخية في الجامعات التونسية منذ عقود، إلى جانب الحقد الأيديولوجي والخلافات السياسية التي تراكمت خلال السنوات الأخيرة". ولفت إلى أن "الفشل الذريع لمسار العدالة الانتقالية وعدم تحقيق المصالحة في البلاد بين القوى السياسية يجعلان التقاء المعارضات أمراً صعباً جداً حول برامج أو مصلحة".
وأشار البرهومي إلى أنه يتابع "شكاية موسي بالشابي وجبهة الخلاص بتهم الإرهاب، ما يؤكد أن الأحقاد السياسية ستمنع أي تقارب بين المعارضين". وشدد على أن "تنازع الزعامات والبحث عن التموضع بهدف الوصول إلى السلطة والحكم هما ما يحول دون تحالف المعارضات أو تقاربها في مبادرات وطنية".
وحول التقاء بعض مكونات المعارضة خلال العشرية الماضية، أكد المحلل السياسي أنها "كانت لقاءات من أجل تقاسم السلطة والغنائم السياسية بمعنى المحاصصة الحكومية وتوزيع الحقائب الوزارية بين الأحزاب". ولفت إلى أنه "لا يجب أن تكون المبادرات المستقبلية في نفس الاتجاه، أي مبادرة لتقاسم السلطة والوزارات". وأفاد البرهومي بأن "الرئيس غير ناضج سياسياً ويستفرد بالرأي في تسيير أمور الدولة، وقد لاحظنا ما نتج عن ذلك في الدستور والقانون الانتخابي ومن سوء إدارة شؤون البلاد والأخطاء الكارثية". وشدد على أن "المعارضة بدورها غير ناضجة سياسياً، ورغم أدائها خلال العشرية الماضية، فإنها لم تتطور". وأوضح البرهومي أنه "لا يوجد بديل معارض لسعيّد اليوم، وحتى من راهن على الرئيس كبديل للطبقة السياسية أخفق لأنه تنقصه الكفاءة". وأشار إلى أنه يوجد اليوم "تيار شعبي يتحدث عن كنس الجميع والبحث عن طبقة سياسية جديدة لا علاقة لها مع الماضي".