تدخل تونس عام 2022 في ظروف لا تنبئ باحتمال أن تكون الأشهر المقبلة أفضل من السنة الماضية التي شهدت أخطر حدث منذ الثورة. مرت الآن خمسة أشهر على احتكار السلطة من قبل الرئيس قيس سعيّد من دون أن تترجم وعوده إلى إنجازات وحقائق على الأرض.
كما أنّ هجمات الرئيس على معارضيه لم تتوقف، إذ طالب في اجتماع للحكومة أخيراً كلاً من وزيري الداخلية والعدل بـ"التحقيق في ملف الاغتيالات السابقة أو التي يتم الإعداد لها"، والمستهدف من وراء ذلك حركة "النهضة" بالأساس.
تراجع شعبية قيس سعيّد
وعلى الرغم من أنّ شعبية سعيّد لا تزال عالية، إلا أنه خسر 15 نقطة خلال الأشهر الخمسة الأخيرة، بعد أن تراجع رضا الشارع عن أدائه من 82 في المائة إلى 67 في المائة حسب الاستطلاع الأخير الذي أجراه معهد "إمرود كونسلتينغ".
كما يمكن أن تتراجع ثقة التونسيين في الرئيس إذا لم يتمكّن من تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، ولم يتحكّم في الأزمة السياسية، على الرغم من إصراره على تنفيذ الأجندة التي أعلن عنها يوم 13 ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وتتضمن هذه الأجندة تنظيم استفتاء وطني حول إصلاحات دستورية في 25 يوليو/تموز المقبل، بالإضافة إلى إجراء انتخابات تشريعية في 17 ديسمبر/كانون الأول المقبل.
وعلى الرغم من ذلك، يتوقع 61 في المائة من المستجوبين، بأن السنة الجديدة ستكون أفضل حالاً من سابقتها، وهو ما يجعل المشهد التونسي غامضاً في ضوء هذه المؤشرات المتناقضة.
تراجعت شعبية سعيّد 15 نقطة خلال الأشهر الخمس الأخيرة
ميزانية "استثنائية"
أخيراً، تمكّنت حكومة نجلاء بودن من وضع ميزانية "استثنائية"، هي الأولى من نوعها في تاريخ البلاد، إذ لم يصادق عليها البرلمان المجمّد، ولم يزكها أي طرف سياسي أو اجتماعي. ميزانية ظرفية أعدها موظفون داخل مكاتب وزارة المالية لم يتشاوروا مع غيرهم.
لم تتضمن هذه الميزانية رؤية اقتصادية متكاملة، واكتفت بالإشارة إلى إصلاحات لم تتبلور أسسها وقواعدها وانعكاساتها حتى الآن. وهو ما أثار مخاوف أطراف متعددة، بما في ذلك العديد من خبراء الاقتصاد والمالية، واعتبرها حزب "آفاق تونس"، وهو حزب ليبرالي، "أكبر خطر داهم على تونس".
والغريب في الأمر، أنّ سعيّد نفسه الذي أصدر الميزانية بمرسوم رئاسي، أكد عدم رضاه عن هذه الميزانية، على الرغم من كونه المسؤول الفعلي والمباشر عن الحكومة، وبالتالي عن اختياراتها ومواقفها.
وحاول الرئيس أن يبرر ذلك، من خلال حديثه عن "إكراهات المرحلة"، وهي الإكراهات نفسها التي واجهتها الحكومات السابقة، مؤكداً بالخصوص على "قانون المالية، وما تضمّنه من بعض الاختيارات التي لم تكن مقنعة، ولم تسمح بتحقيق مطالب الشعب في العدالة الجبائية".
كما أشار العديد من النقابيين، إلى أنّ معظم الإجراءات التي تم الإعلان عنها، وردت في الميزانية السابقة لحكومة هشام المشيشي، التي ناقشها البرلمان قبل تجميده. وبذلك، لم تحصل القطيعة التي وعد بها قيس سعيّد مع المرحلة الماضية.
كما أقرت الحكومة بأنها تستعد للدخول في مفاوضات معمقة مع صندوق النقد الدولي، الذي سبق لرئيس الجمهورية أن انتقد سياساته بشدة، لكنه تراجع عن ذلك ووجد نفسه كسابقيه مكرهاً على التعامل معه والقبول بشروطه. لهذا، اعتبر كثيرون أن سعيّد وحكومته سيواصلان تنفيذ الاختيارات نفسها التي اعتمدتها تونس قبل الثورة وبعدها.
لم تحصل القطيعة التي وعد بها سعيّد مع المرحلة الماضية
كما أن "الاتحاد العام التونسي للشغل"، اعتبر بدوره من خلال ما جاء على لسان سمير الطاهري أحد قادة المنظمة، أن الميزانية "تم إعدادها إدارياً في المكاتب المغلقة"، وتم تمريرها "مباشرة إلى الرائد الرسمي (الجريدة الرسمية) من دون أي تشاور أو إعلام أو حوار".
وخلافاً لما جاء على لسان رئيس الجمهورية، أوضح الطاهري أن "التصوّر العام لبنود الميزانية، يفتقد لأي إجراء اجتماعي حقيقي، ما عدا بعض الإجراءات الترقيعية بخصوص العائلات المعوزة". ووصف القرار الخاص بمنحة الدعم لعمال القطاع السياحي بأنها "دعاية سياسية".
هكذا، تجد السلطة نفسها اليوم على المحك، إذ ينصبّ اهتمام المواطنين على المسألة الاقتصادية والاجتماعية التي لم يطرأ عليها أي تغيير جوهري على الرغم من أنها ستكون محددة لمستقبل الرئيس سعيّد وحكومته.
حراك المعارضة التونسية
على المستوى السياسي، هناك اندفاع في أوساط المعارضة نحو تعميق التشاور بين مختلف المبادرات السياسية المناهضة للرئيس. ويبدو أن يوم 14 يناير/كانون الثاني الحالي، قد يكون موعداً لتكثيف الضغط ضد السلطة، من خلال تكثيف التحركات الميدانية في الشارع وداخل الولايات.
وفي ذلك رفض لرواية قيس سعيّد بشأن تاريخ عيد الثورة، بعد أن ألغى الاحتفال بسقوط الرئيس السابق زين العابدين بن علي ونجاح الثورة في 14 يناير، وجعله في 17 ديسمبر/كانون الأول.
اندفاع في أوساط المعارضة نحو تعميق التشاور بين مختلف المبادرات السياسية المناهضة للرئيس
إلى جانب ذلك، تعتبر دعوة الحزب الجمهوري التونسيين إلى مقاطعة الاستشارة الإلكترونية بشأن "الإصلاح السياسي" التي ينوي رئيس الدولة القيام بها بداية من الأسبوع المقبل، نوع من أنواع التمرّد على المسار السياسي الرسمي الذي ستتابع إيقاعاته خلال السنة الجديدة، في تجاهل كامل للرافضين لفكرة التنظيم القاعدي التي يدعو لها أنصار سعيّد.
في خضم هذه الأحداث، أعلنت وزيرة العدل ليلى جفال، عن فتح تحقيق قضائي للنظر في وفاة الرئيس السابق الباجي قايد السبسي؛ هل كان موته طبيعياً أم نتيجة تسميمه من قبل "طرف خفي؟".
ولا تعرف حتى الآن الدوافع الحقيقية التي تقف وراء التشكيك في هذه الوفاة، إذ لم تصدر دعوة من عائلة الراحل للتحقيق، ولم يتضح أي دليل قاطع يمكن أن يبرر هذا الأمر.
ثمّ لماذا اتخذ هذا القرار الآن، والبلاد تموج، والاتهامات المتبادلة بين الأطراف السياسية تتصاعد في اتجاهات مختلفة. هل في الأمر ضرورة؟ أم أن هناك رغبة في مزيد من خلط الأوراق استعداداً لمرحلة صعبة؟
السنة الجديدة ستكون سنة الحسم، وستشهد العديد من الأحداث الكبرى التي من شأنها أن تحدد ليس مصير الرئيس وأطروحته السياسية فحسب، وإنما كذلك مصير الانتقال الديمقراطي في تونس.