ليست المرّة الأولى التي يتم فيها هذا النوع من المقارنات، إذ سبق أن أُثيرت تفاصيلها وأسئلتها بعد اعتدائي باردو، في مارس/آذار الماضي، وسوسة في 26 يونيو/حزيران الماضي، مخلِّفة انتقادات واسعة بين الأحزاب والشخصيات التي لم تصطفّ مطلقاً إلى جانب الحكومة وقراراتها. وحاولت الحكومة بعد كل حادثة، الضغط على الساحة السياسية لحشد أكبر دعم ممكن لقراراتها، وتأجيل انتقادها وتوجيه أصابع الاتهام لها بالفشل في التعاطي مع المجموعات المتشدّدة. كما شهد قرار "الطوارئ" بعد سوسة، جدلاً كبيراً تحوّل إلى مواجهة سياسية وشعبية ساخنة. وعلى الرغم من كل الجدل الذي يخلّفه أي اعتداء في تونس، تبقى الدعوة إلى الوحدة والتكاتف في مقدمة التصريحات السياسية.
ودعا الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، أمس الأوّل الأحد، مجدداً إلى الوحدة الوطنية، والسلم الاجتماعي، باعتبارهما السبيل الوحيد للانتصار على الاٍرهاب، على حدّ تعبيره. وعلى الرغم من أنّ معظم الأحزاب عبّرت، بعد اعتداءات شارع محمد الخامس، عن مساندتها قرارات الحكومة، إلّا أنّها تمسّكت في المقابل بحقها في إبداء الرأي والكشف عن نقاط الضعف والأخطاء المرتكبة، واختلفت حول الحلول المقترحة لمحاربة الاٍرهاب، ومن بينها "المؤتمر الوطني لمكافحة الاٍرهاب"، الذي تأجّل مرّتَين.
وترفض أحزاب عدة عقد المؤتمر، كي لا يتحوّل إلى عملية جرد حساب واتهامات في ما بينها تؤدي إلى مزيد من التفرقة. في حين ترى فيه أحزاب أخرى، إطاراً حقيقياً لرسم استراتيجية وطنية لمقاومة الاٍرهاب، يتفق حولها الجميع بدل خطط وقرارات ارتجالية تُتّخذ بعد كل اعتداء. ويظهر الاختلاف الأكبر بين حزبَي "النهضة" الإسلامية و"الجبهة الشعبية" اليسارية حول شكل ومضامين هذا المؤتمر، بل حول عقده أساساً، إذ تصرّ الأخيرة على أنّه "لا يمكن الحديث عن نجاح هذا المؤتمر من دون الكشف عن الملفات العالقة، المتعلقة بالعمليات الإرهابية والاغتيالات التي جرت في بلادنا ومصارحة الشعب بنتائجها، وأنّ الوحدة الوطنية يجب أن تبتعد عن النفاق السياسي"، وفق تعبير رئيس كتلتها في البرلمان، أحمد الصديق.
كما تصرّ "الجبهة" على قطع كل علاقة أو اتصال سياسي مباشر بحركة "النهضة"، حتى وصل الأمر إلى تجميد عضوية حزب "القطب"، أحد الأحزاب المكوّنة لها، بسبب لقاء تم بين أحد قياداته، رياض بن فضل بالأمين العام لـ"النهضة"، علي العريض، تبيّن في ما بعد، أنّه لقاء غير مباشر، تمّ أثناء زيارة الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، نائف حواتمة للعريض، بحضور بن فضل.
وعلّق العريض على قرار "الجبهة"، واصفاً إياها بأنّها مريضة بـ"النهضوفيتش" (فوبيا ضد النهضة)، ومشيراً إلى أنه لا يستغرب أي شيء من الجبهة الشعبية في سبيل مهاجمة النهضة، مضيفاً في تصريحات صحافية، أنّ "بعض قيادات الجبهة همّها الوحيد كيفية النيل من حركة النهضة، ولا يهمها لا ميزانية دولة ولا مكافحة إرهاب، بقدر ما يهمها التجنّي واتهام النهضة، وليس لديها ما تقدّمه للتونسيين سوى شتم الحركة".
وحمّلت "الجبهة" التحالف الحاكم، وتحديداً "النداء" و"النهضة"، مسؤولية الإلغاء الفعلي لعقد "المؤتمر"، مشيرة إلى أنّ الأخير سيمكّن من وضع استراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب، تنطلق من كشف الحقائق حول الاغتيالات السياسية، وفي مقدمتها اغتيال شكري بلعيد ومحمّد البراهمي، وصولاً إلى كشف الأعمال الإرهابية التي استهدفت الأمنيين والعسكريين والمدنيين، والاختراقات التي تمتّ لأجهزة الدولة عبر التعيينات التي حصلت في زمن الترويكا (حكم النهضة والرئيس السابق منصف المرزوقي وحزب مصطفى بن جعفر بعد ثورة 2011)، والتي كان من المفروض مراجعتها منذ مدة. ودعت "الجبهة" في بيانها، كل القوى الديمقراطية، الحزبيّة والمدنيّة، بذل قصارى جهدها لفرض عقد هذا المؤتمر الوطني والتصدّي لمحاولات تمييعه عبر تدويله.
اقرأ أيضاً حرب سفوح الجبال: خطة تونسية لتأمين سكان مناطق المواجهات
ولا تنحصر الخلافات بين "النهضة" و"الجبهة" فقط، إذ انتقدت النائبة عن التيار الديمقراطي المعارض، سامية عبو، خلال مناقشة قانون الميزانية، تعاطي كل من مؤسسة رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية مع ملف الإرهاب، مشيرة إلى أنّ بكاء رئيس الجمهورية خلال موكب تأبين عناصر الأمن الرئاسي، يحمل رسالة سلبية للتونسيين. كما انتقدت النائبة تصريحات رئيس الحكومة، حبيب الصيد، واصفة خطابه بـ"السلبي" والذي ينقصه كثيرٌ من التواصل مع المواطنين.
في المقابل، ردّت قيادات "النهضة" على هذه الانتقادات، لافتة إلى أنّ "الوحدة الوطنية هي الآن مطلوبة وبشدّة، وهي غير مشروطة كما يدّعي بعضهم، بل المطلوب أرضية واحدة، تكمن في التوحد حول عدو يهدد الجميع"، بحسب تصريح أحد قياداتها النائب، العجمي الوريمي، خلال جلسات البرلمان.
ولم يقتصر الاختلاف على الجانب السياسي فحسب، بل طاول التعامل الإعلامي، ومعادلة الأمن وحقوق الإنسان. وكان رد الرابطة التونسية لحقوق الإنسان قوياً حين تعرضت لما سمّته "تمادي بعض وسائل الإعلام في استغباء الشعب، في ما يخصّ الموقف من معادلة الأمن والحرية". وقالت الرابطة في بيانها، إنّه "عوض أن يتم التوجه في هذه الفترة الحرجة إلى التعمق في سبل استنهاض الوعي الاجتماعي ونشر قيم الحرية والديمقراطية كضمان لتحقيق هذه الأهداف ولمقاومة الإرهاب وكل مظاهر سوء التكيف الاجتماعي، أتحنا الفرصة لبعضهم للتنصل من مسؤولية دعم أو احتضان الإرهاب".
ودعت الرابطة في بيانها، إلى عدم التهاون في الرد على هذه المغالطات، ليس فقط للدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بل لتفادي سياسة الأمر الواقع التي تريد أن تضرب "عصفورين بحجر واحد" مقاومة الإرهاب على مزاجهم ووفق ما تقتضيه مصالحهم ومحاصرة القوى الديمقراطية والإعلام الحر والناشطين الحقوقيين لإيقاف عدّاد المشروع الحضاري الذي قدّم من أجله الشعب دماءه ودموعه ووقف له العالم إجلالاً.
تبدو هذه التجاذبات بين الأحزاب أو داخل الحزب الواحد، أمراً طبيعياً أمام الاهتزازات التي تسبّبها هذه الاعتداءات الجديدة على الساحة التونسية. كما تبدو منطقية من باب الصراع السياسي الذي ترى فيه المعارضة فرصة الكسب السياسي، لما تصفه بـ"الأيادي المرتعشة" للحكومة، خصوصاً أنّ تونس على أبواب تعديلات حكومية وانتخابات محلية.
اقرأ أيضاً السبسي للتونسيين: السلم الاجتماعي هو السلاح ضد الاٍرهاب