دخلت تونس عامها الجديد بحادثة غير مسبوقة لا تبشر بأي خير، بل تنبئ بأيام حالكة، ظن التونسيون أنها انتهت منذ أكثر من عشر سنوات مع سقوط الديكتاتورية، خصوصاً بعودة الاختطاف القسري المباشر في وسط الشارع وفي وضح النهار وأمام أنظار العائلة والجيران.
هذا ما حصل مع القيادي في حركة "النهضة"، نور الدين البحيري، المحامي ووزير العدل الأسبق ونائب رئيس أكبر حركة سياسية في البلاد، فماذا عن المواطن المعارض العادي؟ اختُطف البحيري ولا أحد يعلم أين هو وما هو وضعه الصحي، باستثناء زيارة غامضة لعميد المحامين في ظروف غريبة.
ولا أحد يعرف لماذا اختُطف بتلك الطريقة وما هي التهم الموجهة إليه، باستثناء بيان لوزارة الداخلية يشير إلى الأمن العام، على الرغم من أنه كان يمكن أن توجّه إليه التهم بطريقة عادية، مثلما يحصل يومياً مع غيره من المتهمين ودعوته للمثول أمام القضاء. وإذا افترضنا أنه سيرفض، حينها يمكن لقوة الدولة أن تتدخل، وبما يتيحه لها القانون.
ولكن ما حصل مع البحيري لم يكن بريئاً، ولم يكن القصد منه محاكمة مسؤول بطريقة عادية عن تهم وُجّهت وتوجه لمعارضين يومياً، وإنما كانت رسائله مختلفة وغايته إحداث تغيير في موازين القوى الذي بدأ يميل نحو تصاعد المعارضة التي برزت مؤشرات كثيرة عن إمكانية توحد أطياف منها وتجاوز خلافاتها.
وأياً تكن الأسباب والدوافع والتحليلات، فإن ما حصل مع البحيري يؤشر على دخول البلاد منعرجاً خطيراً للغاية تستعرض فيه الدولة قوتها وترهب به معارضيها. ولكن ردود الفعل بيّنت بوضوح أن هذا لم يفلح، وانقلبت العملية على أصحابها بعدما زاد المعارضون تأكداً من أن الجميع مستهدف، ولكنها مسألة وقت لا أكثر، ويبدو أن محاولة استمالة البعض منهم بضرب قيادات "النهضة" لم تنجح بالبحيري.
ارتكب الرئيس قيس سعيّد ومساندوه خطأ استراتيجياً فادحاً بهذا القرار، لأنهم عادوا بالمعركة إلى ذكريات هجرها التونسيون ولا يريدون تذكّرها، وقضوا سنوات في محاولة نسيانها، بينما لم يبرأ منها كثيرون إلى اليوم، ولا تزال جروحهم تنزف.
وعلى الرغم من الخلافات، فإن أصوات أغلب الديمقراطيين كانت واضحة في الرد على هذا التطور الخطير، بينما لا يزال هناك مترددون يحسبونها بالقلم والممحاة، ولكن التونسيين لن يقبلوا العودة إلى ما قبل زمن الحرية، فقد دفعوا في سبيل ذلك شهداء ومناضلين، وما يخوضه مناضلو "مواطنون ضد الانقلاب" من إضراب جوع يؤكد أن بعض التونسيين مستعدون لدفع حياتهم من أجل الحرية.