لا نحتاج إلى عناءٍ كثيرٍ؛ كي نلاحظ أن السلوك العام الذي تنتهجه المؤسسة الأمنية الإسرائيلية في الآونة الأخيرة، حيال الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، قد ترتبَ أساسًا على تصاعد أعمال المقاومة، في مناطق شمال الضفة الغربية، وخصوصًا منذ بداية العام الحالي 2023، وما تطرحه من نموذجٍ مثيرٍ للاقتداء به، ولا شكّ في أنه سلوكٌ يحظى بموافقة المؤسسة السياسية الإسرائيلية أيضًا، يتسّم بالقيام بما يوصف بأنه "عمليات اقتحامٍ" في العمق، بموازاة العودة إلى استخدام سلاح الجو؛ لأول مرة منذ عقدين، وعلى نحو دوريٍّ يذكّرُ إلى حدٍ بعيدٍ بدوريّة الغارات التي يشنّها سلاح الجو الإسرائيلي في عمق قطاع غزّة، ردًّا على إطلاق أي قذيفةٍ صاروخيةٍ، من أراضي القطاع في اتجاه الأراضي الإسرائيلية.
ووفقًا لما يُنشر في وسائل الإعلام الإسرائيلية؛ من المتوقع أن تتكرّر هذه العمليات، وستكون محكومةً أكثر من أي شيءٍ آخر بما يوصف بأنها "معلوماتٌ استخباراتيةٌ"، لأنه من دونها يمكن لأي عمليةٍ أن تتعقّد، كما حدث فعلًا في جنين، في أثناء العملية التي شنّت يوم 19 يونيو/حزيران الفائت، مثلًا.
وربما هناك حاجةٌ إلى أن نشير في الوقت عينه؛ بأن مثل هذه العمليات يقف وراءها من ناحية إسرائيل محفزّان على الأقل: الأول؛ رغبة الحكومة الإسرائيلية اليمينية الكاملة في أن يساعدها ذلك على التخفيف من حدّة المعارضة والاحتجاجات الداخلية، لما يُعرف باسم "خطة الإصلاح القضائي"، التي تدفع بها قدمًا، وترى المعارضة أنها تهدف إلى إضعاف الجهاز القضائيّ. والمحفّز الثاني، فرض الردع في شمال الضفة الغربية، بسبب الاعتقاد بأنه في حال عدم القيام بذلك سيكون الردع الإسرائيلي؛ الذي ما انفك يشكّل عنصرًا حيويًّا في عقيدة الأمن الإسرائيلي، عاجلًا أم آجلًا، عرضةً للتحدّي في جبهاتٍ أخرى، ولا سيما في قطاع غزّة، وأكثر فأكثر في لبنان.
منطقة جنين تمثل التحدي المركزي الأمني في الضفة، كونها تتحوّل تدريجيًا إلى منطقةٍ تسيطر عليها "ميليشياتٍ عسكريةٍ"
كذلك ينبغي أن نشير؛ إلى أن معظم المحللين في الشؤون الأمنية والعسكرية، بمن في ذلك المقربون من أطياف الائتلاف الحكومي الحالي، يعربون عن اعتقادهم بأن مثل هذه العمليات تعتبر كافيةً في الوقت الحالي، ولا يبدو أن ثمة حاجةٌ إلى ما هو أوسع نطاقًا منها، على غرار عملية "السور الواقي"، في عام 2002، نظرًا إلى أنه في أغلبية مناطق الضفة الغربية لا يوجد؛ في قراءتهم، توترٌ أمنيٌ شبيهٌ بذلك الموجود في شمال الضفة، ومن شأن الدخول الواسع لقوات الجيش الإسرائيلي إلى كافة مدن الضفة، أن يفاقم الأوضاع الأمنيّة، ويؤدي إلى نهاية السلطة الفلسطينية.
ما نلاحظه أيضًا؛ هو أن السلوك السالف، وبالأساس المقاومة الفلسطينية، أحضر معه انشغالًا إسرائيليًا بأراضي 1967، يكشف عن آخر المواقف السائدة حيالها، وحيال القضية الفلسطينية عمومًا.
ولدى الوقوف أمام هذه المواقف، نرى وجوب الإشارة إلى مسألتين:
أولًا، هناك شبه إجماعٍ بين المحللين الإسرائيليين، على اختلاف مشاربهم وميولهم السياسية، على أن ما تواجهه إسرائيل في جنين والضفة الغربيّة كلها، وأيضًا في قطاع غزة، هو نتاج سياسات جميع حكوماتها في العقد ونصف العقد الأخيرين، في ظل تكريس الانقسام بين السلطة الفلسطينية في رام الله، وسلطة حماس في غزّة، والاستبعاد المطلق لأي عمليةٍ سياسيةٍ، بحجة "عدم وجود شريك فلسطيني"، والتي أطلقها رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق إيهود باراك، بعد محادثات كامب ديفيد عام 2000.
ثانيًا، بموازاة شبه الإجماع السالف؛ ثمة شبه إجماع آخر، على أنه ليس لدى إسرائيل أي هدفٍ لاستخدام القوة سوى الحفاظ على الوضع القائم، وإعادة الهدوء بأي ثمنٍ تقريبًا، وهذا الأمر يجعل خصوم إسرائيل؛ في كل الساحات، منهمكين في تطوير عقيدة استنزاف متعدد الجبهات، ضد دولةٍ يعتبرونها ضعيفةً الآن.
بكل تأكيد هناك ما يمكن إضافته إلى ما تقدّم، في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية الأكثر تطرفًّا قوميًّا ودينيًّا. ففضلًا عما تقدّم ذكره، تجاهر هذه الحكومة بتطلعها إلى القضاء على ما يسمى "حل الدولتين"، وإلى ترسيخ وضعٍ لا عودة عنه في أراضي 1967، من خلال الاستيطان، بغية بلوغ مرحلة الضم وحسم الصراع. ومعلومٌ أن أطرافًا في الحكومة (أحزاب الصهيونية الدينيّة) وأوساطًا مقرّبةً منها، تضغط من أجل عدم الاكتفاء بالعمليات العسكرية الموضعية الدورية، على غرار ما كان في جنين ومخيمها في بدايات يوليو/تموز 2023، بل والقيام بعمليةٍ كبيرةٍ تعتبر المؤسسة الأمنية أنها ستؤدي إلى انهيار السلطة الفلسطينية بالكامل، وهو ما ترفضه هذه المؤسسة حتى الآن.
أمّا سياسة الاستيطان التي تنتهجها هذه الحكومة، فتصر على توسعة المستوطنات خارج الكتل الاستيطانية، ونقض التعهدات التي قدمتها إسرائيل إلى الإدارة الأميركية، بإخلاء البؤر الاستيطانية غير القانونية. هذه السياسة مع عدم وجود أفقٍ سياسيٍ تبرّر النظر إلى خطوات الاستيطان؛ التي تدفع بها الحكومة الإسرائيلية قدمًا، كخطوات ضمٍ متسارعةٍ. وفي الأشهر الأخيرة؛ سُجّل رقمٌ قياسيٌ في عدد تصاريح البناء في المستوطنات، وعمليًا شرعَ انتهاك القانون، وتجلى ذلك في العودة من جديدٍ إلى مستوطنتي حومش وأفيتار، وإقامة عشر بؤرٍ استيطانيةٍ غير قانونيةٍ جديدةٍ على الأقل.
من المتوقع أن تتكرّر هذه العمليات، وستكون محكومةً أكثر من أي شيءٍ آخر بما يوصف بأنها "معلوماتٌ استخباراتيةٌ"
وبلغة أحد كبار محللي الشؤون الأمنية في "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، في واقع إسرائيل، ليس هناك من يعارض الموقف العام للحكومة. فمثلًا أطراف الحكومة الإسرائيلية السابقة، التي كان أبلغ وصف لها في إسرائيل هو "حكومة التغيير" (حكومة بينت- لبيد)، ظلّت في ما يتعلّق بأراضي 1967، والقضية الفلسطينية، تطرح مبدأ "إدارة الصراع" أو "تقليصه"، والذي هو في الحقيقة تأييد استمرار عدم وجود سياسة، وهو ما سيؤدي إلى النتيجة عينها.
بالعودة إلى جنين وشمال الضفة الغربية؛ يمكن القول إن المواجهات العسكرية الأخيرة قد حازت اهتمامًا واسعًا في المجتمع الإسرائيلي. غير أنّ نقاش الموضوع قد تركّز بالأساس على التهديدات العسكرية، جرّاء هذه المواجهات في تلك المنطقة، وعلى رأسها تفجير العبوات الناسفة ذات القوة الكبيرة، ضد قوات الجيش الإسرائيلي، ومشاركة طائراتٍ حربيةٍ في المواجهات للمرة الأولى منذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وتعزّز هذا التركيز بالتزامن مع كتابة هذا المقال، وفي إطاره جرى تأكيد أن منطقة جنين تمثل التحدي المركزي الأمني في الضفة، كونها تتحوّل تدريجيًا إلى منطقةٍ تسيطر عليها "ميليشياتٍ عسكريةٍ"، وضمنها شبكاتٌ تابعةٌ لحماس والجهاد الإسلامي، وتتلقى دعمًا من إيران، وفي الوقت ذاته يتراجع تأثير السلطة ووجودها فيها. أضيفت إلى التهديدات السابقة تهديداتٌ أخرى، منها إطلاق نار مستمر على المستوطنات في الأراضي الإسرائيلية، واستخدام القناصة، ومحاولاتٌ أوليةٌ، ليست فاعلة حتى الآن، لتصنيع قذائف وإطلاقها على المستوطنات الإسرائيلية.
والنتيجة التي نخلص لها من الناحية العسكرية هي؛ كما أوجزها المحلّل العسكري لصحيفة "مكور ريشون" اليمينية: الاستمرار في عمليّات إحباط عناصر المقاومة، وبنى المقاومة الآخذة في التطوّر في كُل مكان، وعدم انتظار نموّ فروع جديدةٍ وجذورٍ، أي "جزّ العشب" عندما يبدأ النمو، و"الحرث العميق" أيضًا، في مناطق لا تكفي فيها عمليّات الاحتلال اليومية.
تظلّ هناك مسائل عدة لاكتمال الصورة، ولكننا لا نملك حيالها سوى طرح تساؤلاتٍ مثل: هل ما يحدث في جنين سيبقى في هذه المدينة ومنطقتها؟ وهل من الممكن عزل جنين عن سائر الضفة الغربية؟ هل سيكون بالإمكان سدّ الفجوة بين أطرافٍ أمنيّةٍ إسرائيليةٍ ترى أنه من المهم تعزيز دور السلطة الفلسطينية، وبين جهاتٍ في الحكومة تسعى لانهيارها؟ وعلى فرض أنه يمكن سدّ تلك الفجوة، ما هي الخطوة السياسية المحتملة التي يمكن أن تقوم بها الحكومة الإسرائيلية لترسيخ سياستها تجاه السلطة الفلسطينية؟