لم تنقطع الدعوات من شخصيات كردية سورية فاعلة لفتح حوار مع الجانب التركي، الذي ينظر بقلق كبير إلى تنامي القوة العسكرية لأطراف كردية في الشمال الشرقي من سورية بدعم أميركي. وهو ما تعتبره أنقرة خطراً داهماً على أمنها القومي، لا سيما في ظل تلكؤ حزب "الاتحاد الديمقراطي"، المهيمن على "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) التي تسيطر على جل شرقي الفرات، في إعلان فك الارتباط مع حزب "العمال الكردستاني"، المصنّف في تركيا وفي دول أخرى في خانة التنظيمات الإرهابية.
وأبدى زعيم "قسد"، مظلوم عبدي، استعداده لإجراء محادثات سلام مع تركيا "من دون أي شروط مسبقة"، مضيفاً، في تصريحات صحافية نُشرت قبل أيام، أنه "يمكن أن يثبت الرئيس رجب طيب أردوغان أنه أكثر استعداداً للسلام مع أكراد سورية". ولفت عبدي إلى أنه ربما يفكر في التوسط بين تركيا وحزب "العمال الكردستاني"، الذي تضعه تركيا على لوائحها للإرهاب، لكنه اشترط "أن تتصرف أنقرة بحسن نيّة"، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة حريصة على الوساطة في السلام بينهم وبين تركيا.
يتوجب تغيير التفكير في تقسيم سورية ومعاداة تركيا بالنسبة للمسيطرين على الشرق السوري
وهذه ليست المرة الأولى التي يبدي عبدي فيها رغبته في حوار مع الجانب التركي، الذي ينظر بقلق كبير إلى تنامي قوة "قسد" في الشمال الشرقي من سورية، لأن "وحدات حماية الشعب" الكردية، الذراع العسكرية لحزب "الاتحاد الديمقراطي"، الذي ينظر إليها على أنها نسخة سورية من حزب "العمال"، هي المتحكمة في "قسد" لجهتي القيادة والتوجيه. وتسيطر "قسد" على مجمل منطقة شرقي الفرات، وهو ما يدفع الجانب التركي إلى التشدد في التعامل معها، في ظل اتهامات بأن قياديين وعناصر من "العمال الكردستاني" يتخذون من هذه القوات غطاء، للانتشار في الشمال الشرقي من سورية.
ولكن أنقرة منفتحة على "المجلس الوطني الكردي" الذي شرع منذ إبريل/نيسان الماضي في حوار، يكاد يرقى إلى مستوى المفاوضات مع "الاتحاد الديمقراطي"، وأحزاب أخرى تشكل "الإدارة الذاتية في شمال شرقي سورية"، لتشكيل مرجعية سياسية كردية واحدة في سورية والتشارك في إدارة شرقي الفرات. ولكن الحوار تعثر بسبب رفض "الاتحاد الديمقراطي" حتى اللحظة، فك الارتباط مع "العمال" وطرد عناصر الأخير من سورية.
في هذا السياق، قال عضو الهيئة الرئاسية لـ"المجلس الوطني الكردي"، المنسق العام في حركة "الإصلاح الكردي"، فيصل يوسف، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن المجلس "يؤكد أهمية حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية". وأضاف: "نحن مهتمون بالوضع السوري وتحييده من التجاذبات الإقليمية وتحسين العلاقة مع دول الجوار ومنها تركيا التي تجمعنا معها حدود طويلة وتتوزع العائلات على جانبي الحدود، ولا شك أن تحسين العلاقات معها يخدم مصالح السوريين عموماً".
وكان "مجلس سورية الديمقراطية" (مسد)، الذي يعتبر بمثابة الجناح السياسي لـ"قسد"، قد أبدى هو الآخر رغبة في الحوار مع المعارضة السورية. ولكن الائتلاف الوطني السوري يربط بين خروج "العمال الكردستاني" من سورية وبين الجلوس على طاولة التفاوض، بينما قالت رئيسة الهيئة التنفيذية في "مسد" إلهام أحمد، أخيراً، إن "تركيا تتحكم في قرارات الائتلاف وتمنع الحوار مع مسد والإدارة الذاتية".
ويرجح مراقبون ألا تستجيب أنقرة لدعوة عبدي فتح حوار علني معها، خصوصاً في ظل تعثر المفاوضات بين أكبر كيانين سياسيين كرديين في سورية بسبب عقدة حزب "العمال الكردستاني". ورأى المحلل السياسي التركي فراس رضوان أوغلو، في حديث لـ "العربي الجديد"، أن الجانب التركي "لن يستجيب للدعوة لأسباب عدة"، مضيفاً أن "الأزمة السورية لم تحل بعد، فضلاً عن كون مظلوم عبدي نفسه على اللائحة البرتقالية في تركيا، أي أنه مطلوب للعدالة". ومضى بالقول: "يجب تغيير الفكر السياسي بشكل كامل للمسيطرين على الشمال الشرقي من سورية، ولا سيما لجهة التفكير في تقسيم سورية ومعاداة تركيا. وربما ستكون هناك استجابة استخباراتية، ولكن الطريق لا يزال طويلاً أمام الاستجابة السياسية".
وفي السياق، أكدت مصادر كردية مطلعة لـ"العربي الجديد" أن الأكراد السوريين "يشعرون بأن حزب العمال تحوّل إلى عبء كبير عليهم"، مشيرة إلى أن هناك محاولات لتقليص نفوذ هذا الحزب استجابة لمطالب أميركية، ولتفادي أي مخاطر على مكتسبات حصلوا عليها في سورية، خلال السنوات الأخيرة، وأبرزها الإدارة الذاتية للمناطق التي يسيطرون عليها".
يرجح مراقبون ألا تستجيب أنقرة لدعوة عبدي فتح حوار علني معها
ويعد العرب غالبية السكان في منطقة شرقي نهر الفرات، ولكن سيطرة الأكراد على "قسد" سمح لهم بالتفرد في إدارة المنطقة. ويتلقى الأكراد السوريون دعماً كبيراً من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة منذ عام 2014، بسبب تصديهم لمهمة محاربة تنظيم "داعش" الذي تمدد في ذاك العام في سورية والعراق، وهو ما شكل خطراً كبيراً على مجمل منطقة الشرق الأوسط. ووضع الأميركيون الوحدات الكردية في قلب قوات "قسد" التي تشكلت أواخر عام 2015، من فصائل عربية وكردية وتركمانية وآشورية عدة. وهو ما سمح لها في السيطرة على أكثر من ثلث مساحة سورية، وهي منطقة شرقي الفرات الغنية بالثروات، المتاخمة للحدود الجنوبية لتركيا.
وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ترجم الأتراك غضبهم من خلال عملية عسكرية محدودة في شرقي الفرات سيطروا من خلالها على شريط حدودي بطول 100 كيلومتر وبعمق 30 كيلومتراً. وعلى الرغم من ذلك لا تزال أنقرة تعتبر "قسد" خطراً داهماً، ولكن واشنطن تقف في وجه المحاولات التركية التوغل أكثر في الأراضي السورية للقضاء على هذه القوات. وكان الجيش التركي قد طرد الوحدات الكردية في مطلع عام 2018 من منطقة عفرين ذات الغالبية الكردية من السكان والواقعة شمال غربي حلب، ولكنه لم يستطع مواصلة عملياته العسكرية باتجاه مناطق أخرى تسيطر عليها هذه الوحدات غربي نهر الفرات، منها مدينة تل رفعت وعدة قرى في محيطها في ريف حلب الشمالي، ومدينة منبج في ريف حلب الشمالي الشرقي.