تعود السجالات بشأن كتابة دستور جديد في تركيا إلى الواجهة، في ظلّ مواجهة سياسية مستمرة بين التحالف الجمهوري الحاكم وأحزاب المعارضة، حتى أن التحالف الجمهوري نفسه شهد انقسامات تتعلق بالموقف من تغيير المواد الدستورية.
تركيا... نقاشات جديدة حول تعديل الدستور
وكانت تركيا على موعد خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، مع مواجهة أولى غير مسبوقة بين المحكمة الدستورية العليا والمحكمة الإدارية العليا، بعد رفض الأخيرة لقرارات الدستورية العليا قبل أسبوعين، في ما يتعلق بإسقاط عضوية النائب في البرلمان عن حزب العمل التركي المعارض جان أطلاي (المسجون منذ 2022 والمدان بمحاولة المساعدة في قلب نظام الحكم، والذي استأنف على الحكم).
وانقسمت الأطراف السياسية في البلاد ما بين التحالف الحاكم الداعم للمحكمة الإدارية، وما بين المعارضة الداعمة للدستورية العليا، وتبع ذلك حديث الحكومة عن حاجة البلاد إلى دستور جديد، في ما عدّته المعارضة محاولة انقلابية على الدستور؛ إذ تُشكّل المحكمة الدستورية العليا أعلى سلطة دستورية في البلاد.
وتبع هذه النقاشات حديث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن تأييده لتغيير قاعدة انتخاب الرئيس في البلاد، والتي تنص على حصوله على نسبة 50 في المائة زائد واحد، حيث إنها تقود الأحزاب إلى مسارات خاطئة.
يتطلب التعديل عبر الاستفتاء موافقة 360 نائباً وهو ما لا يمتلكه التحالف الجمهوري
وجاء كلام أردوغان في تصريح للصحافيين الأسبوع الماضي، تطرّق فيه إلى المستجدات ومنها السجالات الداخلية عقب المواجهة القانونية التي تشهدها تركيا للمرة الأولى بين المحكمة الإدارية العليا والمحكمة الدستورية العليا. وأشار أردوغان إلى قاعدة انتخاب الرئيس، وهي المادة 101 من الدستور التركي التي تنص على حصول الرئيس على الأغلبية الكافية، أي أكثر من 50 في المائة، حيث أعلن تأييده لتغيير هذه القاعدة، رغم أن انتخاب الرئيس بشكل مباشر من الشعب ودستور النظام الجمهوري أقرّ في زمن حكومات الرئيس أردوغان الذي يحكم البلاد منذ عام 2003.
وقال أردوغان في حديثه: "مناسب تغيير هذا الشرط، وإذا تمّ اتباع إجراء انتخاب المرشح الحاصل على الأغلبية، فإن الانتخابات الرئاسية ستكون سريعة، ولن تسبب أي متاعب، ولن تؤدي إلى مسارات خاطئة". وأضاف: "حالياً هذه القاعدة تقود الأطراف إلى مسارات خاطئة، حيث لا تتوضح خريطة التحالفات وتؤدي إلى طاولات عديدة، ولا أحد يدري ماذا سيحدث بعد ذلك، ولكن عندما يقال إن المرشح الحاصل على أكبر عدد من الأصوات هو المنتخب فإن الانتخابات تكتمل بسرعة".
ولفت الرئيس التركي إلى أن الدستور الحالي يحمل "روح العقلية الانقلابية، وأكثر ما يزعجنا أن سطور الدستور الحالي تعود للانقلابات بينما العالم تغير كثيراً". وأكد أن "إعداد دستور جديد مدني شامل لتركيا ويتوافق تماماً مع متطلبات العصر، هو أحد أهم أهدافنا التي نرغب في تحقيقها، وبدأنا العمل على دستور جديد في البرلمان مرات عدة، لكنه كان لا يكتمل دائماً بسبب عوائق المعارضة وعدم الوفاء بوعودها، إننا على وعدنا وسنمنح شعبنا الدستور المدني الذي يستحقه".
ومع هذه الدعوة، يطالب أردوغان بتعديلات على الدستور الذي سبق وأن عدّل عليه في ما يتعلق بالانتخابات. وكانت صحف معارضة ساقت، في وقت سابق، أن هناك توجهات من الحكومة لتوسيع التعديلات، بحيث تسمح لأردوغان بالترشح مجدداً للانتخابات بعدما استنفد حقوقه الدستورية وفق الدستور بالنظام الرئاسي الجديد، وتسمح بالترشح مرتين لتولي منصب الرئاسة.
وكانت تركيا انتقلت في عام 2017 إلى النظام الرئاسي وألغي منصب رئيس الحكومة، ومنح الرئيس صلاحيات أكثر، وذلك بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في عام 2016، وهو ما نقل تركيا إلى مرحلة جديدة ترى المعارضة أنها تجمع الصلاحيات كلّها في يد الرئيس وتقلّل من سلطة البرلمان.
أغلبية رافضة لاقتراحات أردوغان
وعقب حديث أردوغان، علّق زعماء الأحزاب السياسية على دعواته، وتباينت المواقف وأغلبها كان رافضاً، حيث لم يحظ الرئيس التركي بالدعم الكافي من حليفه زعيم حزب الحركة القومية دولت باهتشلي، والذي رأى في كلمة أمام كتلة حزبه النيابية أن "انتخاب رئيس الجمهورية بنسبة 50 في المائة زائد واحد، هو أساس النظام الرئاسي، ورأيُنا في هذه القضية لم يتغير، لأننا ننتخب رئيساً وليس مختاراً، وبناء عليه يجب أن تتجلى الإرادة الوطنية، وإن كانت هناك عيوب تشوب النظام فهناك استعداد للنقاش".
كما أغلق زعيم حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزيل الباب أمام إمكانية الموافقة على شرط انتخاب الرئيس. وقال أوزيل أمام كتلة حزبه النيابية: "لن نشارك في هذه المناقشة"، مخاطباً الرئيس أردوغان بأنه "لن تتمكن معنا من تغيير الدستور". ويتطلب التغيير المباشر من البرلمان موافقة الثلثين، أي 400 عضو من أصل 600، والتعديل عبر الاستفتاء موافقة 360 نائباً، وهو ما لا يمتلكه التحالف الجمهوري الذي لديه 323 نائباً فقط.
وقالت زعيمة الحزب الجيّد ميرال أكشنر في حديثها أمام كتلة حزبها: "قلنا بالفعل في عام 2017 إن النظام الرئاسي، الذي أدخل على عجل ودون أي حسابات، سيسبب مشاكل لتركيا، ونظراً لأن أردوغان منزعج جداً من نظام التحالف الذي يفرضه شرط 50 في المائة زائد واحد، أقول له تحلّ بالشجاعة لدخول الانتخابات المقبلة بمفردكم في حزب العدالة والتنمية، تماماً مثل الحزب الجيد". وشدّدت أكشنر على أن "التغيير الدستوري المنشود إن كان يشمل شرط الترشح لفترتين، فإن الحزب الجيد لن يدعم أي تغييرات".
رفض حليف أردوغان، تعديل انتخاب رئيس الجمهورية بنسبة 50% زائد واحد، وقال إننا لا ننتخب مختاراً
وصدرت تصريحات مشابهة من قبل زعيمي حزب السعادة، تمل قره موللا أوغلو، وحزب المستقبل أحمد داود أوغلو، اللذين وجّها انتقادات شديدة اللهجة للرئيس أردوغان. لتستمر السجالات في ظل حديث من المعارضة أن موقف باهتشلي حليف أردوغان، أربك حزب "العدالة والتنمية"، وجعل الحديث عن شرط انتخاب الرئيس يتراجع حاليا.
ومن المؤكد أن النقاشات المرتبطة بالدستور ستكون محدداً أساسياً للأجندة في تركيا، حيث إن الدستور الحالي، ورغم التعديلات عليه، إلا أنه وضع بعد انقلاب عام 1980، وهناك رغبة لدى البعض للتغيير، لكن الأجواء السياسية التي يسودها الاستقطاب الحاد تعطل توافق الأحزاب على التغيير بشكل توافقي. ويبقى الحديث عن أن النقاشات هذه والخطوات الفعلية ستكون بعد فترة الانتخابات المحلية التي تجري في نهاية مارس/آذار المقبل، وبعدها تشهد البلاد 4 سنوات دون انتخابات، تشكل فرصة للتحضير الجيد وإحداث التوافقات في التعديلات الدستورية.
الكاتب والصحافي غونغور يافوز أرسلان علّق، في حديث لـ"العربي الجديد"، على هذه النقاشات، بأنها "ليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها طرحها حول الدستور ونسبة الـ50 في المائة زائد واحد على جدول الأعمال في تركيا". ولفت إلى أنه "كانت هناك (في السابق) أجندة دستورية جديدة في البرلمان، لكن في الآونة الأخيرة، وخصوصاً بعد قرارات المحكمة الدستورية، ظهرت على جدول الأعمال مسألة كتابة دستور جديد في تركيا من قبل حزبي الحركة القومية والعدالة والتنمية، أي التحالف الجمهوري".
ورأى يافوز أرسلان، أنه "في الغالب بعد الانتخابات المحلية، ستبدأ النشاطات المتعلقة بالدستور في البرلمان، وقد تشير كلمة 50 زائد واحد إلى تشكيل تحالفات سداسية أو تحالفات أخرى من خلال اجتماع الأحزاب الصغيرة، وبعدما قال الرئيس أردوغان إنه يمكن مناقشتها، ردّاً على سؤال صحافي، إلا أن الخطابات المرتبطة بهذه المسألة التي ألقاها حزب الحركة القومية اعتبرت واحدة من أهم معالم تحالف الشعب، بقوله نحن لا ننتخب مختاراً، بل ننتخب رئيساً، وقاعدة 50 زائد واحد هي انعكاس للإرادة السياسية، أي عدد الأصوات التي تم الإدلاء بها".
يافوز أرسلان: ستبدأ النشاطات المتعلقة بالدستور في البرلمان بعد الانتخابات المحلية
وشدّد الكاتب والصحافي على أن "هذه النقاشات تحدث في كل وقت قبل الانتخابات"، مضيفاً أن "التحالف الجمهوري هو هيكل مختلف عن المعارضة تمّ تشكيله بعد 15 يوليو/تموز (2016)، أي بعد المحاولة الانقلابية، وأعتقد أن هذه المشكلة داخل التحالف سيتم حلها على مستوى القيادة، لكن كل هذه النقاشات ستحددها السياسات التي سيتم وضعها بعد الانتخابات المحلية".
وختم يافوز أرسلان بالقول: "سيكون هناك تعديل دستوري لأن هذا مطلب شعبي، والدستور الحالي تم وضعه في الثمانينيات، أي في فترة الانقلابيين أثناء الانقلاب العسكري. ورغم حدوث تغييرات بعد ذلك إلا أن هناك استياء شعبيا من المواد الدستورية، ولذلك على الأرجح سيكون الدستور الجديد هو الأجندة الأولى لتركيا في 2024 أو 2025".
أما الكاتب والصحافي إسماعيل جوكتان، فاعتبر من جهته، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن أردوغان "أعرب مراراً وتكراراً عن الحاجة إلى تعديل الدستور في تركيا منذ ما قبل الانتخابات التي جرت في 14-28 مايو/أيار الماضي، وعلى الرغم من أن الدستور الحالي تم إعداده بعد انقلاب 1980، إلا أن أردوغان وحزبه استمرا في اعتبار هذا الدستور بمثابة دستور انقلابي رغم إجراء العديد من التغييرات عليه". وأوضح أن السبب الرئيسي لذلك "هو بعض مواد الدستور التي لا يمكن تغييرها، وتعد قاعدة 50+1، التي قدمها حزب أردوغان أيضاً من بين هذه التعديلات، ومن خلال النقاشات الجارية يحاول أردوغان قياس الدعم الشعبي الذي سيلقاه، ورد فعل شريكه في التحالف والإجراءات التي ستتخذها الأحزاب السياسية الأخرى".
ولفت جوكتان إلى أن "قاعدة 50 بالمائة زائد واحد، المطبقة في الانتخابات، أجبرت السياسة التركية على موقفين أساسيين: أولهما ضرورة تشكيل تحالف، والثاني هو أن الأحزاب الصغيرة التي تتمتع بنسبة تصويت تبلغ حوالي 1-2 في المائة باتت ذات أهمية، وأردوغان لا يحب هذا الرأي ولا يريد تقاسم السلطة مع حزب الحركة القومية أو أي حزب آخر. ومن ناحية أخرى، يدرك حزب الحركة القومية الثقل الذي تجلبه له هذه القاعدة في السياسة". إضافة إلى ذلك، برأي الكاتب، فإن حزب الحركة القومية "لا يزال يستفيد من مزايا كونه شريكاً في السلطة"، معرباً عن اعتقاده بأن "هذا هو السبب وراء معارضته لهذا التعديل مسبقاً".
إسماعيل جوكتان: حزب العدالة والتنمية لا يريد تقاسم السلطة مع الحركة القومية أو أي حزب آخر
وعن موقف المعارضة، اعتبر جوكتان أن "المعارضة التابعة للفكر الكمالي والعنصري في تركيا تخشى من أن يقوم أردوغان بشكل متكرر بتغيير المادة غير القابلة للتغيير الخاصة بتركيا كجمهورية علمانية مع التعديلات التي يجريها في الدستور، ومع ذلك أردوغان أتيحت له هذه الفرصة عدة مرات من قبل إلا أنه لم يغير المواد المعنية". وبرأيه، فإن "من أهداف المعارضة الاستيلاء على السلطة عبر التحالفات التي جاءت بهذه القاعدة، وهو ما خبروه في الانتخابات الأخيرة".
وأشار جوكتان إلى أنه "من الطبيعي أن يقف حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، وهو حزب لا يمكن الاستهانة بنفوذه في تركيا، على الحياد تجاه هذا التعديل للدستور، لأن تغيير المواد العنصرية في الدستور وإنشاء دستور أكثر ديمقراطية يزيد من فرصة ظهور حزب الشعوب الديمقراطي في السياسة، ويعطي مساحة لحزب العمال الكردستاني، لكن في رأيي لا ينبغي أن يؤدي ذلك إلى التراجع عن التغيير والتحول الديمقراطي".
وأعرب الكاتب والصحافي أخيراً عن اعتقاده بأن "التغيير ليس مستحيلاً إذا أديرت العملية بشكل صحيح واستطاع أردوغان شرح هدفه جيداً للقوى السياسية التي سيشكل تحالفاً معها، لكن لا ينبغي أن ننسى أن أحد الأسباب التي دفعت أردوغان إلى إحداث هذا التغيير، رغبته في قياس الأجواء السياسية بعد الانتخابات الأخيرة".