بعد تراجع الملفين الأوكراني والسوري إلى المشهد الخلفي على خشبة المسرح السياسي الروسي، مقابل صدارة الملفات الداخلية والاقتصادية وتداعيات جائحة كورونا، جاء تصعيد الرئيس الأميركي، جو بايدن، لهجته تجاه موسكو، وقوله إنّه يعتقد بأنّ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، "قاتل"، ليعيد إلى الواجهة الحديث عن "تهديد العدو الخارجي". وزادت هذه التطورات والتوتر الأميركي الروسي المستجد من تساؤلات الخبراء والصحف الروسية عما إذا كانت السلطة في موسكو ستتمكن من استثمار هذه "الهدية" في حملة انتخابات مجلس الدوما (النواب) المقرر إجراؤها في سبتمبر/ أيلول المقبل.
واللافت أنّ أي تطورات سياسية خارجية كبرى سابقة، مثل إقدام روسيا على ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، وبدء التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية في عام 2015، كانت تنعكس إيجاباً على نسبة تأييد السلطة، وساعدت بوتين في الفوز بنسبة نحو 77 في المائة من الأصوات في انتخابات عام 2018، على الرغم من أنه واجه في بداية ولايته الثالثة احتجاجات حاشدة رافضة لعودته إلى الكرملين.
ومع ذلك، ثمة شكوك في أن تساعد تصريحات بايدن هذه المرة في تعبئة أنصار حزب "روسيا الموحدة" الحاكم، قبل انتخابات الدوما، في ظلّ تراكم الأزمات الداخلية، مثل تردي الأوضاع الاقتصادية نتيجة لجائحة كورونا، وتزايد القبضة الأمنية والتضييق على رموز المعارضة، وفي مقدمتهم المعارض البارز المعتقل، مؤسس "صندوق مكافحة الفساد"، ألكسي نافالني، الذي تم أخيراً تحويل حكم صادر بحقه من السجن مع وقف التنفيذ إلى السجن النافذ.
حتى الآن، لم تؤد تصريحات بايدن إلى أي تعبئة بين أنصار السلطة
وفي سياق الأزمة التي تفجّرت أخيراً بين بايدن وبوتين، وصل سفير روسيا لدى الولايات المتحدة، أناتولي أنتونوف، إلى موسكو أمس الأحد، للتشاور بشأن كيفية التعامل في إطار العلاقات الأميركية الروسية المتدهورة. وكانت قد أعلنت وزارة الخارجية الروسية، يوم الأربعاء الماضي، أنها قررت استدعاء أنتونوف إلى موسكو لإجراء محادثات عاجلة بعد أن قال بايدن في مقابلة مع شبكة "إيه بي سي نيوز" الأميركية إنه يعتقد أن بوتين قاتل و"سيدفع ثمن" تدخله في الانتخابات الأميركية.
وقالت السفارة الروسية في واشنطن على حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي في وقت سابق أمس، بعد أن نشرت صورة للسفير في مطار أميركي، إن "السفير الروسي أناتولي أنتونوف في طريقه إلى موسكو للمشاركة في مشاورات بشأن تصحيح العلاقات الروسية-الأميركية". وذكرت شبكة "فيرست تشانل" التلفزيونية الروسية الرسمية أن أنتونوف قال للصحافيين قبل صعوده على متن الطائرة إنّ الكثير من العمل في انتظار الخارجية الروسية والأطراف الأخرى، لكنه أشار إلى أنه ليس لديه شك في أن "الإبقاء على قنوات الاتصال مفتوحة هو لصالح الشعب الأميركي". ثم بثت الشبكة ما قالت إنها مقتطفات من خطابات من أميركيين لأنتونوف قبل رحيله يعتذرون فيها عن تصريحات بايدن عن بوتين.
في السياق، شكك أستاذ العلوم السياسية بمعهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، كيريل كوكتيش، في واقعية تأثير تصريحات بايدن بشكل كبير على حملة انتخابات الدوما، معتبراً أنّ "التصعيد الأخير لا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنته مع حدث مفصلي مثل ضم القرم". وقال كوكتيش في حديث مع "العربي الجديد": "حتى الآن، لم تؤد تصريحات بايدن إلى أي تعبئة بين أنصار السلطة، على الرغم من أنّ هذه ثاني محاولة من الغرب للتأثير على الأوضاع في روسيا، بعد دعم نافالني، الذي حضر عدد من السفراء الأجانب جلسة محاكمته". وتابع: "لست متأكداً من أنّ حزب روسيا الموحدة سيحاول استثمار تصريحات بايدن، كون الحزب لم يعد مرتبطاً في أذهان المواطنين بشكل مباشر ببوتين، وبالتالي هذا ليس وضعاً يمكن الرهان عليه".
وحول دوافع بايدن لتصعيد لهجته تجاه روسيا في مستهل ولايته، قال كوكتيش: "من الواضح أنّ هدفه هو زيادة حدة المواجهة مع روسيا، إذ دفعت المنافسة عسكرياً مع موسكو، واقتصادياً مع الصين، بواشنطن إلى الرهان على ردع الخصمين للحفاظ على الهيمنة". واستبعد كوكتيش أن يذهب الرد الروسي إلى ما هو أبعد من تصريحات بوتين الذي رد على بايدن بالقول إنّ "القاتل هو من يصف الآخر بذلك"، وتمنى في الوقت نفسه "الصحة" للرئيس الأميركي، مؤكداً أنه لا يسخر منه.
بدوره، شكّك مدير برنامج "المؤسسات السياسية والسياسة الداخلية الروسية" في مركز "كارنيغي" في موسكو، أندريه كوليسنيكوف، هو الآخر، في أن تساعد تصريحات بايدن على تعبئة الروس، في ظلّ تعوّد غالبيتهم على محاولات السلطة استثمار اللهجة المعادية للغرب كأداة للتعبئة، وتحوّل اهتماماهم إلى المشكلات الداخلية.
صحيفة: السلطة الروسية لا تنظر إلى تصريحات بايدن على أنها نقطة تحوّل
وفي مقال بعنوان "مفعول بايدن الذي لم يفلح. لماذا الخلاف مع الغرب لم يعد يعبئ المجتمع؟" نشر بموقع مركز "كارنيغي"، يوم الجمعة الماضي، لفت كوليسنيكوف إلى أنّ "تصريحات بايدن التي تبدو للوهلة الأولى فضيحة كبرى، لا تغيّر شيئاً في نموذج العلاقات الروسية الأميركية الذي يمكن تلخيصه في انعدام فرص التقارب، والمقتصر على التعاون الفني البراغماتي في مجالات مثل المناخ ومواجهة جائحة كورونا ومنع انتشار السلاح النووي". واستبعد الباحث السياسي الروسي احتمال أي تعبئة مهمة دعماً بوتين، أو عودة نسبة تأييده إلى مستواها عند ضم القرم على الرغم من "هدية" بايدن للدعاية الروسية.
من جهتها، رأت صحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا" أنّ تصريحات بايدن جاءت بمثابة "هدية في الوقت المناسب" لموسكو، في شكل "صورة العدو الخارجي الحقيقي المشترك" الذي يجب أن توحّد مواجهته الناخبين لا تفرقهم، كما هو حال بالنسبة لمواجهة المعارضة الداخلية المتمثلة بنافالني أو الحزب الشيوعي. وفي مقال بعنوان "بوتين يحصل على هدية غير مقصودة من بايدن قبل انتخابات الدوما"، لفتت الصحيفة إلى أنّ سرعة رد الرئيس الروسي على تصريحات نظيره الأميركي تدل على أنّ "السلطة الروسية لا تنظر إليها على أنها نقطة تحوّل، وإلا لكان الكرملين قد تأنى في الردّ، مثلما كان يفعل في عهد إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب". واعتبرت "نيزافيسيمايا غازيتا" أنّ التلفزيون الروسي "بات بإمكانه أن ينسى نافالني، ويركّز على أميركا، كهدف للهجمات الإعلامية، وكموضوع ليس له تأثير كبير على الاستقرار الداخلي في البلاد".