يزداد التصعيد بشكل تدريجي في محافظة إدلب، شمال غربي سورية، منذراً بقرب انهيار وقف إطلاق النار الموقع بين أنقرة وموسكو حولها، بعد 8 أشهر منذ أن ولد من الأساس ضعيفاً. فعلاوة على القصف والخروقات المستمرة من قبل قوات النظام وحلفائها من مليشيات مدعومة من روسيا وإيران قرب خطوط التماس ونقاط المواجهة جنوبي إدلب، توسعت دائرة القصف والاستهداف من قبل هذه القوات والمليشيات، لتطاول المدن والقرى المزدحمة بالسكان والنازحين، ما يوقع ضحايا باستمرار. من جهتهم، يفقد النازحون الأمل تدريجياً بالعودة إلى مدنهم وقراهم التي أبعدتهم عنها قوات النظام والمليشيات، مع تسجيل خطاب الضامن التركي برودة في ما يتعلق بالدفع باتجاه انسحاب النظام وحلفائه من جنوب منطقة خفض التصعيد (إدلب وما حولها) تطبيقاً لاتفاق سوتشي. بل على العكس، سحب الجيش التركي نقطتي مراقبة له محاصرتين من قبل قوات النظام جنوب منطقة خفض التصعيد، وتحديداً من ريف حماة الشمالي التابع للمنطقة، ما يفتح باب التكهنات بشأن إمكانية حصول تفاهمات جديدة حول إدلب ومحيطها بين الروس والأتراك، طرفي الاتفاق.
لم يخف النظام السوري رغبته بالوصول إلى أريحا ثم جسر الشغور
وقضى 8 مدنيين على الأقل، بينهم أطفال، أمس الأربعاء، بقصف من قبل مدفعية قوات النظام على كل من مركز مدينة إدلب ومدينة أريحا في الريف الجنوبي لإدلب، وبلدتي كفريا ونحليا، كما أصيب حوالي 25 مدنيا آخرين جرّاء القصف الذي ركزته المدفعية على الأحياء السكنية في المناطق الثلاث، دون أي مبرر بوجود اشتباكات أو استهداف من قبل فصائل المعارضة لقوات النظام. وقالت مصادر من مدينة أريحا لـ"العربي الجديد" إن قوات النظام قصفت المدينة أمس بأكثر من 50 صاروخاً، فضلاً عن القصف المدفعي، ما أدى إلى مقتل 3 مدنيين، بينهم طفلة، وإصابة 5 آخرين على الأقل بجروح متفاوتة الخطورة.
وبحسب المصادر، فإن قصفاً مماثلاً طاول بلدة نحليا الواقعة قرب أريحا، ما أوقع قتيلين. كما طاول القصف حي الصناعة في مدينة إدلب، والمنطقة الواقعة بين مدينة إدلب وبلدة كفريا، ومناطق في بلدات وقرى أحسم ومرعيان وبليون ودير سنبل والبارة وشنان، ما أوقع ضحايا وأضراراً مادية.
وتزامن ذلك مع قصف طاول عددا من القرى القريبة من خطوط الاشتباك بين الفصائل والجيش التركي من جهة، وقوات النظام وحلفائها من جهة أخرى، في جبل الزاوية جنوب إدلب. ويعد هذا القصف معتاداً، وهو يتجدد ضمن الخروقات اليومية التي تحدثها قوات النظام في اتفاق وقف النار منذ توقيعه في مارس/آذار الماضي.
وتكرر القصف على مدينة أريحا في الآونة الأخيرة، ما يؤكد أن النظام السوري لا يزال يصر على وصول قواته إلى المدينة والوقوف على الطريق الدولي حلب – اللاذقية "أم 4" المار من إدلب. ويدعم ذلك رغبة روسية في فتح الطريق أمام الحركة التجارية أولاً، والطبيعية في وقت لاحق، بعدما نجحت بدعم النظام لفتح طريق دمشق – حلب "أم 5" المار من إدلب في الأيام الأخيرة للمعارك قبل توقيع الاتفاق.
والوصول إلى مدينة أريحا، ومن ثم إلى مدينة جسر الشغور، هدف لم يخف النظام رغبته في تحقيقه، للسيطرة على "أم 4" بغية فتحه والاستفادة من حركته التجارية لتخفيف الأعباء الاقتصادية عليه. وكان رأس النظام السوري بشار الأسد، قد أشار أخيراً في تصريحات لوسائل إعلام روسية، إلى أن الاتفاقات التركية – الروسية باتت تقضي بانسحاب الجيش التركي وفصائل المعارضة إلى شمال الطريق الدولي "أم 4"، وذلك طريق يقسم إدلب و"منطقة خفض التصعيد" إلى قسمين تقريباً، ما يعني سيطرة النظام وحلفائه على القسم الجنوبي من المنطقة كاملاً. وهذا الأمر ينفيه سياسيون وصحافيون أتراك مقربون من الحكومة، مؤكدين أن لا اتفاقات جديدة بين بلادهم وروسيا حول تغيير خرائط السيطرة في إدلب.
وبالعودة للاتفاق الذي مضى على توقيعه 8 أشهر، فقد تضمن ثلاثة بنود: وقف إطلاق النار، وإنشاء حرم على جانبي الطريق الدولي حلب – اللاذقية "أم 4" بـ6 كليومترات من الجنوب ومثلها من الشمال، بالإضافة إلى تسيير دوريات مشتركة على الطريق. ونُظر حينها للاتفاق على أنه مبهم ومنقوص، إذ لم يتضمن من بين البنود مسألة عودة حوالي 1.7 مليون نازح إلى مدنهم وقراهم، كانت قوات النظام وحلفاؤها قد أبعدتهم عنها خلال معارك امتدت على مدار عام قبل توقيع الاتفاق. واكتفى نصّ الاتفاق، الذي عدّ "بروتكولاً" ملحقاً باتفاقية سوتشي، بذكر مسألة عودة النازحين ضمن "ديباجته". كذلك فإن مسألة السيطرة على الطريق الدولي "أم 5"، انفرد النظام والروس والمليشيات المحسوبة على إيران بها دون أن يكون للأتراك أي دور، علماً أن المنطقة التي يقطعها الطريق في إدلب تقع ضمن النفوذ التركي بموجب اتفاق سوتشي الذي توصل إليه الرئيسان الروسي والتركي، فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان في سبتمبر/أيلول 2018 حول إدلب.
عمدت روسيا إلى قصف معسكر لأكثر الفصائل قرباً من أنقرة
يعد وقف إطلاق النار الذي حمله الاتفاق الأكثر صموداً في إدلب من حيث العامل الزمني عن سابقيه، على الرغم من كل الخروقات التي تخللته، سواء بالقصف أو محاولات التقدم على الجبهات، والتي كان مصدرها دائماً قوات النظام. وعلى الرغم من ذلك، باتت الخروقات الأخيرة كبيرة وواضحة النية من جهة النظام لإنهاء الاتفاق، ويبدو أن روسيا باتت تتشارك معه هذه الرغبة أخيراً، بعد محاولاتها المحافظة على صمود الاتفاق طوال هذه المدة بالتعاون مع أنقرة. ويعود ذلك لارتباك العلاقة بين الروس والأتراك حول ملفات إقليمية عدة، لاسيما في ليبيا والنزاع حول إقليم ناغورنو كاراباخ بين أذربيجان وأرمينيا. وعمدت روسيا أخيراً إلى قصف معسكر لأكثر الفصائل قرباً من أنقرة، فصيل "فيلق الشام"، كما أنها تغض الطرف عن كل الخروقات التي تحدثها قوات النظام على الجبهات، والتي باتت أخيراً تطاول المناطق المأهولة بالسكان.
أما بخصوص البند الثاني المتعلق بإنشاء حرم على جانبي الطريق شمالاً وجنوباً، فهو بند لم يطبق، ولم يتم تفسيره أو التطرق إليه من الأساس بعد إبرام الاتفاق. ويبدو أن هناك تفاهماً روسياً تركياً على إهمال هذا البند لصعوبة تطبيقه، كون فصائل المعارضة لا تزال تسيطر على مساحات من جنوب الطريق، ما يعني أن وصول الروس إليها لمراقبة الحرم، المفترض أن يكون منزوع السلاح، أمر محفوف بالمخاطر.
أما الدوريات المشتركة بين القوات الروسية والتركية، فهي البند الأكثر التزاماً وتطبيقاً، على الرغم من استخدامه من قبل موسكو لإرسال رسائل الرضى والانزعاج نحو أنقرة، سواء بالمشاركة بالدوريات أو الإعراض عنها. ووصلت الدوريات بين الطرفين إلى 26 دورية مشتركة، كان آخرها في 25 من أغسطس/آب الماضي. وكانت روسيا قد علقت مشاركتها مراراً قبل هذا التاريخ، لأسباب عدة، منها استهداف الدوريات، ومنها عدم الرضى عن أداء تركيا بضبط تصرفات المعارضة، بحسب وزارة الخارجية الروسية. إلا أن القوات الروسية لم تعد للمشاركة بعد 25 أغسطس، ما جعل القوات التركية تنفرد بتسيير الدوريات على الطريق، من دون توضيح تاريخ جديد لاستئناف الدوريات المشتركة. وتريد روسيا من هذه الدوريات تأمين طريق "أم 4" للإسراع بفتحه أمام الحركة التجارية لتخفيف الأعباء الاقتصادية عن النظام، إلا أن مصادر إعلامية تركية فضلت عدم الكشف عن هويتها، قالت لـ"العربي الجديد"، إن أنقرة لا تزال تمانع فتح الطريق المذكور، قبل حلّ مسألة السيطرة على طريق "أم 5" بالكامل، الأمر الذي ترفضه روسيا، باعتبار أن السيطرة على الطريق، أي طريق حلب - دمشق، بات أمراً مفروغاً منه لصالح قوات النظام.
وأخيراً، شهدت إدلب تقلبات ميدانية عدة أنذرت بتبدل المشهد على الأرض تدريجياً، لاسيما بالتزامن مع الخلافات التركية - الروسية حول كل من الملفين السوري والليبي ضمن المفاوضات المشتركة بين وفديهما في كل من موسكو وأنقرة، في جولتي أول ومنتصف سبتمبر/أيلول الماضي. وأشارت تسريبات روسية إلى أن موسكو طلبت من أنقرة سحب نقاطها المحاصرة من قبل قوات النظام جنوبي "خفض التصعيد"، وهي حوالي 15 نقطة، أو تخفيض سلاحها الثقيل جنوب إدلب، الأمر الذي رفضته أنقرة بحسب التسريبات. إلا أن تسريبات أخرى أشارت إلى طلب تركيا انسحاب "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) من مدينتي منبج وتل رفعت شمالي حلب، مقابل الانسحاب التركي من جنوب "خفض التصعيد"، وهو ما نفاه سياسيون أتراك مقربون من الحكومة لـ"العربي الجديد" حينها.
بات المدنيون والنازحون في إدلب يتهمون تركيا باستخدام المحافظة كورقة مساومة مع الروس
إلا أن تركيا عمدت أخيراً إلى سحب نقطتها الأكبر حول منطقة "خفض التصعيد" من مدينة مورك شمالي حماة، المحاصرة من قبل قوات النظام، وأتبعتها بسحب نقطة شير مغار في الريف الشمالي من حماة كذلك، والتي من المفترض أن تنتهي من انسحابها اليوم، وسط معلومات عن سحبها نقطة ثالثة شرقي إدلب خلال الأيام القليلة المقبلة. هذه الحركة، أي الانسحاب المفاجئ، بددت آمال النازحين بالعودة إلى مدنهم وقراهم في كل من ريف حماة الشمالي، وحلب الغربي والجنوبي، وإدلب الجنوبي والشرقي. وتتبع هذه المناطق لـ"منطقة خفض التصعيد" المثبتة حدودها باتفاق سوتشي بين النظام وروسيا على أنها تحت النفوذ التركي قبل أن تتقدم إليها قوات النظام. ويشير النازحون بأصابع الاتهام نحو تركيا، لتساهلها بالوقوف عند مسؤولياتها في تطبيق الاتفاقات وإعادتهم إلى ديارهم، كما كانت تشير المطالب التركية من أعلى مستويات، حين أطلقت تركيا عمليتها العسكرية "درع الربيع" في إدلب لإبعاد قوات النظام عن حدود "خفض التصعيد" بحسب اتفاق سوتشي. وهذا ما عبر عنه المسؤولون الأتراك وفي مقدمتهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قبل أن تغيب هذا التصريحات عن المشهد بعد توقيع الاتفاق وتوقف المعارك. على ذلك، بات المدنيون والنازحون في إدلب يتهمون تركيا باستخدام المحافظة كورقة مساومة مع الروس لتحقيق مكاسب سياسية وأمنية، في مقدمها تأمين تركيا لحدودها الجنوبية – الشرقية المحاذية لمناطق السيطرة مع القوات الكردية في سورية.
وحاصر النظام حوالي 15 نقطة للجيش التركي، خلال المعارك قبل توقفها، منها نقاط مراقبة ومنها نقاط انتشار. وعلى الرغم من انسحاب الجيش التركي الأخير من النقطتين، مورك وشير مغار، إلا أن أنقرة لا تزال ترسل التعزيزات إلى إدلب و"خفض التصعيد". وتركزت التعزيزات التركية الأخيرة عند مواقع مرتفعة واستراتيجية قرب خطوط التماس في جبل الزاوية، كما تجدر الإشارة إلى أنه ومنذ توقيع الاتفاق، لا تزال تركيا ترسل التعزيزات بشكل شبه يومي نحو إدلب، حيث بات يقدر عدد الجنود الأتراك في إدلب أكثر من 23 ألف جندي، فيما وصل عدد الآليات إلى 9 آلاف آلية، معظمها من الدبابات المتطورة والمدرعات وحاملات الجنود، بالإضافة إلى مدافع الميدان وثلاث منظومات مضادة للطيران، إحداها أميركية الصنع. ويشير ذلك أيضاً إلى استعداد تركيا لسيناريو أسوأ جنوبي إدلب.
وتقاطعت المعلومات التي حصلت عليها "العربي الجديد" من مصادر تركية وأخرى من فصائل المعارضة المقربة منها، إلى أن أنقرة لجأت لسحب نقاط من جنوب "خفض التصعيد" لعدم التأكد من حمايتها في حال استئناف المعارك، كي لا تبقى هذه النقاط مصدر ضغط على خيارات تركيا الهجومية، إن لجأ النظام وحلفاؤه لإنهاء الاتفاق والتقدم نحو مواقع جديدة.