استمع إلى الملخص
- **إشكاليات قانونية ودستورية**: نصوص اتفاق الصخيرات تؤكد مبدأ الشراكة في إصدار القوانين، لكن النصوص المتعلقة بالميزانية غير واضحة. المحامي بلقاسم القمودي أشار إلى أن جلسة إقرار الموازنة قد تكون غير قانونية لعدم توفر النصاب القانوني.
- **أبعاد سياسية**: الأكاديمي أحمد العاقل يرى أن الموازنة تعكس صفقات وأهداف سياسية، حيث يستغل مجلس النواب هشاشة الأوضاع داخل مجلس الدولة. تكالة أعلن تجميد التشاور مع مجلس النواب لحشد الأنصار، مشيراً إلى أن الأزمة مفتعلة ولن تجد صدى دولياً.
فجرت قضية إقرار موازنة الدولة العامة من قبل مجلس النواب الليبي بشكل أحادي، دون إشراك المجلس الأعلى للدولة الخلاف بين المجلسين، وسط مخاوف من تداعيات هذه الخطوة على مسارات التقارب بينهما، وتساؤلات حول الأسباب التي تقف وراء تفجر هذه الأزمة.
ورغم استمرار الغموض الذي لا يزال يلف التفاصيل حول إقرار مجلس النواب موازنة بقيمة 179 مليار دينار (كل دولار يساوي 4.85 تقريبا) وظروف الجلسة التي تم إقرار الموازنة فيها وعدد النواب المشاركين فيها، وكذلك تحديد أي من حكومتي البلاد المناط بها تنفيذ هذه الموازنة، إلا أن الخلاف بين مجلسي النواب والدولة تجاوز ذلك للحديث عن قانونية وشرعية تفرد مجلس النواب بهذه الخطوة.
وبعد قرابة الأسبوع من خطاب وجهه رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد تكالة إلى رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، الثلاثاء الماضي، يطالبه فيه بعدم المضي في إقرار الموازنة الليبية قبل إحالتها إلى مجلس الدولة لمناقشتها، رد صالح على خطاب تكالة بالتأكيد أن مجلس النواب "صاحب الاختصاص الأصيل" في إقرار الموازنة.
وطالب صالح تكالة، خلال رده الذي نشره المتحدث الرسمي باسم مجلس النواب عبد الله بليحق ليل أمس، "بأن يعطينا (تكالة) نص قانون واحد يعطي مجلسه صلاحية إقرار الموازنة العامة". وأضاف: "وفقا للاتفاق السياسي، فإن مجلس النواب هو السلطة التشريعية الوحيدة في البلاد في المرحلة الانتقالية"، وأنه من "منح الثقة لحكومة الوفاق الوطني (الحكومة السابقة في طرابلس) واعتماد الموازنة المقدمة من الحكومة".
وتابع صالح بالقول: "هذه النصوص الصريحة لا توجد بها أي إشارة لمشاركة مجلس الدولة في إصدار قانون الموازنة، كما يلاحظ في معظم الدول ذات الأنظمة البرلمانية أن مجلس النواب هو صاحب الاختصاص في إقرار الموازنة دون غيره من المجالس الأخرى". وتساءل رئيس مجلس النواب "هل شارك مجلس الدولة في إعداد الميزانية أو مناقشتها أو إقرارها، وأن ما يقوله رئيس مجلس الدولة الاستشاري لا أساس له من صحيح القانون وحتى طبقا للاتفاق السياسي الذي عفا عليه الزمن وتجب مراجعته".
وجاء رد صالح بعد ساعات من جلسة عقدها المجلس الأعلى للدولة في طرابلس، ظهر الأمس، لمناقشة موقفه من تفرد مجلس النواب بقرار اعتماد موازنة الدولة، انتهت إلى رفض الموازنة التي أقرها مجلس النواب "لمخالفتها الدستورية الصريحة، فضلا عما اكتنفها من مخالفات في الشكل والمضمون".
وفي خطابه إلى صالح الثلاثاء الماضي، لوح تكالة بإمكانية طعنه أمام القضاء على إقرار مجلس النواب بشكل أحادي للموازنة، مؤكدا ضرورة إحالة الموازنة إليه لمناقشتها قبل تصويت مجلس النواب عليها.
وعقب هذا الخطاب، وجه تكالة خطابا إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبوالغيط، أبلغه فيه بتعليقه المشاركة في أي مشاورات أو حوار مع مجلس النواب، بسبب "ما يصدر عنه من قرارات بالمخالفة للاتفاقات السياسية السابقة"، مؤكدا تعليق المشاركة "إلى حين معالجة القضايا العالقة وفي مقدمتها قانون الميزانية، وإزالة ما ترتب على إصدار مجلس النواب منفردا من آثار".
نصوص اتفاق الصخيرات غير واضحة بشأن الموازنة الليبية
وحول الإشكال القانوني والدستوري يؤكد بلقاسم القمودي، المحامي والخبير القانوني، أن نصوص اتفاق الصخيرات الذي يستمد منه المجلسان شرعيتهما تؤكد مبدأ الشراكة في إصدار القوانين والقرارات الهامة، لكن في قانون الميزانية فنصوص الاتفاق السياسي إشكالية وغير واضحة.
ومن المقرر أن تستضيف الجامعة العربية بمقرها في القاهرة جولة ثانية من حوار سياسي كان قد بدأ في مارس/ آذار الماضي، بين تكالة وصالح بالإضافة إلى رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، لمواصلة التشاور حول عدد القضايا الخلافية العالقة في القوانين الانتخابية التي أنتجتها لجنة 6+6 المشتركة من المجلسين.
لكن القمودي يلفت في حديثه لـ"العربي الجديد" إلى أن الإشكال الدستوري في إقرار مجلس النواب للموازنة ليس في اختصاصه في طبيعة الجلسة التي أقر فيها الموازنة"، موضحاً أن "اللوائح تنص على ضرورة توفر 120 صوت لتمرير الموازنة الليبية وانعقاد الجلسة بشكل مغلق يشكك في توفر هذا العدد ليكون نصاب التصويت قانونيا، وهو إشكال أساسي يمكن أن يبنى عليه طعن مجلس الدولة أمام القضاء".
طبيعة هذه القضايا التي تبنى على صفقات سياسية لا تُمكن القضاء من البت فيها
كما يعتبر القمودي أن موقف مجلس الدولة "مُشكل أيضا في ظلّ عدم وضوح وضع مجلس النواب في قضية الموازنة، ومركزه الأساسي في القضية يقوم على نصوص اتفاق الصخيرات؛ التي توجب أن التي تقترح الموازنة الليبية هي السلطة التنفيذية، وحكومة الوحدة الوطنية بطرابلس بالنسبة إلى مجلس الدولة هي الشرعية، بخلاف حكومة مجلس النواب التي اقترحت الموازنة التي أقرها مجلس النواب". واستدرك القول: "لكن صمت حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس قد يفقد مجلس الدولة مركزه القانوني في القضية، فهذا الصمت يشير إلى وجود صفقة غير معلنة بينها وبين مجلس النواب لتنفيذ الموازنة بالتقاسم مع حكومة مجلس النواب".
ويؤكد الخبير الليبي أن طبيعة هذه القضايا التي تبنى على صفقات سياسية لا تُمكن القضاء من البت فيها، خاصة الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا التي سبق وأن جمدت نفسها لعدة سنوات لتنأى بنفسها عن الخلافات والتجاذبات السياسية. ومضى قائلاً: "قد يشير رد صالح الذي تأخر لأيام عدة ولم يصدر إلا بعد جلسة مجلس الدولة بالأمس إلى خوف ما استشعره صالح حيال ما يمكن أن يترتب على هذه الجلسة، لذا نلاحظ أن رده جاء في مستوى تفصيل علاقة مجلس الدولة بمجلس النواب في مستوى التشريعات الدستورية الحاكمة في المرحلة الانتقالية كاتفاق الصخيرات".
الموازنة الليبية عنواناً لصفقات وأهداف سياسية
لكن الأكاديمي والمهتم بالشأن السياسي أحمد العاقل في المقابل لا يرى أن كل ما أثير حول إقرار مجلس النواب للموازنة له علاقة بالجانب الدستوري والقانوني، بل حسب رأيه إن قضية الموازنة الليبية كانت عنوانا لصفقات وأهداف سياسية سعى لها الجميع.
ويوضح العاقل رأيه بالقول لـ"العربي الجديد": "مجلس النواب يستغل هشاشة الأوضاع داخل مجلس الدولة لتمرير ما يمكن تمريره، فهو لا يرى في تكالة خطرا لقرب مغادرته منصبه في انتخابات رئاسة مجلس الدولة التي ستنعقد الشهر القادم، لذا لم يرد عقيلة صالح على خطابه الأسبوع الماضي، بل رد بالأمس فقط بعد جلسة مجلس الدولة مجتمعا لتداعيات موقفه المستمر حتى بعد تكالة". وتابع: "ووضع تكالة المهدد بالمغادرة لا يشجع رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة لاستمرار التحالف معه، لذا فضل الدبيبة القبول بتقاسم الموازنة مع حكومة مجلس النواب ضمن صفقة قد تفتح له باب توافقات أكثر مع مجلس النواب".
وبالنسبة لتكالة، يرى العاقل أن قرار إعلانه تجميد التشاور مع مجلس النواب جاء في توقيت دقيق، إذ من المقرر أن يجدد تكالة وصالح لقاءهما في القاهرة برعاية الجامعة العربية منتصف الشهر الجاري "لذا فكل مواقفه كرفض تفرد النواب بالتصويت على الموازنة ثم التلويح بالطعن فيها ثم تعليق أي حوار سياسي، هدفها حشد أكبر قدر ممكن من الأنصار داخل مجلس الدولة وتوجيه الموقف ضد مجلس النواب، فربما يضمن إعادة انتخابه رئيسا لمجلس الدولة في دورة جديدة".
وبرأي الأكاديمي الليبي، فإن قضية الموازنة "أزمة مفتعلة، لكل المشاركين فيها غرضه وهدفه، ولا حقيقة لها ولا يمكن للبنك المركزي أن يغطيها ماليا لحجمها الكبير، ولو كانت حقيقية لوجدت صدى وترحيبا من المجتمع الدولي والبعثة الأممية، الذين لا يمكنهم تجاوز أي خطوة من شأنها تقارب الخصوم، وعلى الأخص أن الموازنة قربت المسافة بين الحكومتين ويمكن البناء عليها لتجاوز أزمة الانقسام الحكومي الحادة".
وحول تداعيات المواقف في مجلسي النواب والدولة على الحوارات السياسية التي تستضيفها الجامعة العربية، يعلق العاقل بالقول إنها "حوارات يُجمع الداخل والخارج أنها لن تصل إلى شيء، فاستمرارها وتوقفها سواء، والجمود هو المهيمن على مشهد البلاد إلى حين أن تستجد قضايا إقليمية ودولية مرتبطة بليبيا فتتحرك عجلة اللقاءات السياسية مجددا في طريق مرسومة لها مسبقا، كما تعودنا في السنوات الماضية".