توضحت الخريطة الانتخابية في تركيا بشكل كبير مع حسم أكبر الأحزاب الرئيسية مواقفها من التحالفات في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي تجري في 14 مايو/ أيار المقبل، لتقترب الساحة التركية من استحقاق الانتخابات رويداً رويداً، في ظلّ ربيع ساخن ينتظر البلاد، على اعتبار أنها انتخابات مصيرية للرئيس رجب طيب أردوغان، وحاسمة بالنسبة للمعارضة التي شكّلت أكبر تحالف لها حتى الآن.
الفترة السابقة الممتدة لأكثر من عام، شهدت حشداً ورصّاً للصفوف بين القوى السياسية التركية وتحديداً من جانب المعارضة. وتكثف الحراك أخيراً قبيل انتهاء فترة التقدم للترشح للانتخابات البرلمانية والرئاسية، وصدور القرارات النهائية من قبل الهيئة العليا للانتخابات، حيث كشفت الأخيرة أن 36 حزباً سياسياً يمكنها خوض الانتخابات المقبلة.
تحالفا "الجمهوري" و"الشعب": نقاط القوة والضعف
التحالف الجمهوري الحاكم، الذي رشّح أردوغان للرئاسة، حافظ على تشكيله بشكل كبير، إذ يقوده حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في البلاد منذ 21 عاماً، وحليفه حزب الحركة القومية اليميني المتشدد، وينضم إليهما حزب الوحدة الكبرى، وهو حزب صغير. كما أضاف التحالف خلال هذه الانتخابات حزب "هدى بارتي" الكردي الإسلامي الذي تتهمه المعارضة بقربه من "حزب الله" اللبناني وبأنه مدعوم من إيران ويطالب بتطبيق الشريعة في البلاد. في المقابل، فشل التحالف في ضمّ زعيم حزب "الرفاه من جديد" فاتح أربكان، ما يهدّد بتقسيم أصوات المحافظين، الكتلة الكبرى في البلاد، وقد يؤثر على خطط أردوغان.
تدخل أحزاب الانتخابات بشكل فردي، مثل أحزاب الوطن و"الرفاه من جديد" و"البلد"
وعلى جبهة المعارضة، تمكنت 6 أحزاب من تشكيل "تحالف الشعب" والاتفاق على ترشيح زعيم المعارضة كمال كلجدار أوغلو رغم الخلافات التي دبّت داخل "الطاولة السداسية" (تحالف المعارضة) حتى اللحظة الأخيرة قبل اعتماد ترشيحه. ويضم "تحالف الشعب" كلاً من حزب الشعب الجمهوري بقيادة كلجدار أوغلو، و"الحزب الجيّد" بزعامة ميرال أكشنر، وحزب "السعادة" برئاسة تمل قره موللا أوغلو، وحزب "دواء" بزعامة علي باباجان، وحزب "المستقبل" برئاسة أحمد داود أوغلو، و"الحزب الديمقراطي" بزعامة غولتكين أويصال.
وكانت زعيمة "الحزب الجيّد" قد أعلنت انسحابها من "الطاولة السداسية" اعتراضاً على ترشيح كلجدار أوغلو، لتعود وتقدم مقترحات جديدة في ما يتعلق بتعيين مرشحيها، وهما رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، ورئيس بلدية أنقرة منصور ياواش، نائبين للرئيس. ولم يصدر أي توافق بهذا الخصوص رغم موافقة أكشنر على ترشيح كلجدار أوغلو.
وتمّ الاتفاق بين أحزاب هذا التحالف على خريطة طريق للمرحلة الانتقالية مكونة من 11 مادة، أبرزها أن "إدارة تركيا في المرحلة الانتقالية ستكون وفق مبادئ النظام البرلماني المتفق عليها عبر الدستور والقانون وفصل السلطات بالاستشارة والتوافق". وبموجب الاتفاق، فإنه في حال فوز المعارضة "سيتم الانتقال للنظام البرلماني المعزز بحسب نتائج الانتخابات وشكل البرلمان الجديد بأسرع وقت ممكن ويدخل حيز التنفيذ، وخلال الفترة الانتقالية فإن زعماء الأحزاب المنضوية داخل تحالف الشعب سيكونون نواباً للرئيس".
وانضم إلى هذا التحالف بشكل غير معلن حزب الشعوب الديمقراطي الكردي اليساري، في مشهد يشابه انتخابات الإدارة المحلية التي جرت في عام 2019، وقادت إلى فوز المعارضة بحكم كبرى المدن التركية، وخصوصاً أنقرة وإسطنبول. وفي تلك الانتخابات، كان التحالف يضم 4 أحزاب، ولم يسم "الشعوب الديمقراطي" مرشحاً من طرفه للانتخابات، ففازت المعارضة بعد تصويت الناخبين الأكراد لمرشحي المعارضة.
وخلال المرحلة الحالية التي تقود إلى انتخابات مايو، أعلن حزب الشعوب الديمقراطي مرة أخرى، الأربعاء الماضي، عدم اختياره مرشحاً رئاسياً من طرفه، في دلالة على دعم مرشح المعارضة و"تحالف الشعب" كمال كلجدار أوغلو.
ويقود حزب الشعوب الديمقراطي تحالفاً باسم "الجهد والحرية"، ويضم إلى جانبه 6 أحزاب. وبخلاف كونه حزباً ممثلاً في البرلمان بكتلة كبيرة، فإن الأحزاب الأخرى هي أحزاب صغيرة ذات طابع كردي أو شيوعي.
من جانب آخر، يبرز تحالف "أتا"، أي "الأجداد"، ويضم حزب النصر القومي المتطرف، و3 أحزاب أخرى غير معروفة على نطاق واسع، وكلها ذات توجهات قومية متطرفة. ويتزعم التحالف النائب البرلماني أوميت أوزداغ، العنصري، والذي يقود خطاب الكراهية تجاه الأجانب وخصوصاً السوريين والأفغان، ويشدد في حملته على أمر واحد وهو سعيه إلى طرد الأجانب. والتحالف قدّم مرشحاً للبرلمان هو الأكاديمي المتطرف سنان أوغان، الشهير أيضاً بخطاباته العنصرية.
وبخلاف التحالفات المذكورة، قد تكون هناك تحالفات أصغر من قبل أحزاب أخرى، كما أن أحزاباً ستدخل الانتخابات بشكل فردي من دون تحالف، مثل حزب الوطن وزعيمه المرشح للانتخابات الرئاسية دوغو برنجيك، وحزب "الرفاه من جديد" وزعيمه فاتح أربكان المرشح للانتخابات، وحزب البلد ومرشحه المنشق من حزب الشعب الجمهوري، ومنافس أردوغان في الانتخابات الأخيرة السابقة (2018)، محرم إنجه.
انتخابات تركية مصيرية
ومهما تعددت التحالفات والترشيحات، يبدو أن الانتخابات ستجري بين التحالف الجمهوري وتحالف الشعب، أي بين الرئيس أردوغان وزعيم المعارضة كمال كلجدار أوغلو، وبشكل أقل المرشح الرئاسي السابق، والمرشح الحالي في الوقت نفسه، محرم إنجه.
تبدلت توجهات نسبة من المواطنين بعد الزلزال وأصبحوا مقتنعين بأن أردوغان هو الذي بنى تركيا الحديثة
وتجري في الوقت الحالي عمليات استكمال الأوراق المطلوبة من قبل المرشحين للانتخابات، على أن تكتمل خلال الأيام المقبلة قبيل إعلان المقبولين ممن يستوفون الشروط، حيث بلغ عدد المرشحين الرئاسيين الذين قبلت أوراقهم بشكل مبدئي 13 مرشحاً. ويحتاج معظمهم إلى تأمين 100 ألف توقيع للترشح خلال الأيام المقبلة، فيما أردوغان وكلجدار أوغلو لا يحتاجان لأنهما ترشحا عن طريق الكتل الحزبية البرلمانية، ولا يمتلك الباقون كتلاً نيابية في البرلمان.
يقول الصحافي في وكالة "إخلاص" التركية إبراهيم أباك، لـ"العربي الجديد"، إن "هذه الانتخابات هي الأهم خلال الـ20 سنة الأخيرة، وقد تكون المنعطف الأخير والهام لحزب العدالة والتنمية الذي حكم منذ 20 عاماً، بنسب وصلت أحياناً إلى 52 في المائة (فوز أردوغان بالانتخابات السابقة)"، وأوضح أن أجواء الانتخابات المنتظرة "يمكن تقسيمها إلى مرحلة ما قبل الزلزال وما بعدها".
ولفت أباك إلى أنه "بحسب المعلومات الميدانية المتوفرة من مختلف المناطق، واستطلاعات الرأي رغم عدم موثوقيتها، فقد كان هناك تجار أو شركات تعمل في مناطق الزلزال واتجاهاتها كانت ضد حزب العدالة والتنمية، حيث كان الناس هناك غير مقتنعين بما يقدمه الحزب من خدمات، ولكن بعد الزلزال، هناك من بات يدرك أن الرئيس أردوغان هو الذي بنى تركيا الحديثة وقادر أن يبنيها بعد الكارثة، وهناك من حسم قراره بعدما كان متردداً".
واعتبر أباك أن "مقولات تحالف المعارضة تتضمن حديثاً عن توقف مشاريع كثيرة، وهو ما يترك انطباعاً سيئاً لدى الناخبين، حيث إن المواطنين يبحثون عن الخدمات، إلا أن هذا لا يؤثر في الناخبين المتجذرين وخصوصاً حزب الشعب الجمهوري ولن يغيروا رأيهم"، وأعرب عن اعتقاده بأن "الرئيس أردوغان بعد هذه التطورات قد يحسم الانتخابات، ولكن قبل الانتخابات كانت هناك تباينات"، معرباً عن أمله في "أن تكون الانتخابات حرّة ونزيهة وتؤدي إلى عودة إعمار البلاد وتأسيس دولة القانون والحريات".
من جهته، قال الصحافي يوسف سعيد أوغلو إن "شكل التحالفات توضّح بنسبة 95 في المائة، وكانت الأوساط تنتظر قرار كل من حزب الرفاه من جديد، وقرار حزب الشعوب الديمقراطي، وكانت هناك شكوك تتعلق بتحالف الحزب الكردي مع تحالف الشعب، في ظل أصوات داخل الحزب الجيّد تعترض على هذا التحالف، لكن الواضح أن التحالف تمّ ويدل على أن المعارضة قد تكون متقدمة بخطوة على التحالف الحاكم".
ولفت إلى أنه "في الوقت الذي جاءت التطورات في التحالفات لصالح المعارضة بكسب تأييد أهم وأكبر الأحزاب الكردية، فإن حزب العدالة والتنمية خسر اسم وسمعة القيادي الراحل نجم الدين أربكان وأنصار الرؤية الوطنية، مع رفض زعيم حزب الرفاه من جديد التحالف مع الحزب الحاكم، وهو ما يضع المعارضة في موقف متقدم نوعاً ما، إلا إذا حصلت تصدعات داخل الطاولة السداسية، مع حديث عن اعتراضات داخل الحزب الجيد على التحالف غير المعلن مع الحزب الكردي المتهم بعلاقته ودعمه لحزب العمال الكردستاني الانفصالي".
وأشار سعيد إلى أن "الهيئة العليا للانتخابات ستعلن النتائج النهائية للترشيحات الرئاسية، وستعلن لاحقاً أيضاً قوائم الأسماء المرشحة للانتخابات البرلمانية، وعندها ستبدأ الدعاية الانتخابية التي ستجري في ظل شهر رمضان وفي مرحلة لا تزال كارثة الزلزال مسيطرة على البلاد". وأضاف أنه "من المؤكد بحسب الرأي العام الداخلي، أن من يسيطر ويدير المرحلة المقبلة بشكل سليم ستميل كفته باستمالة أصوات المترددين وحسم الانتخابات"، مستبعداً "أن تشهد المرحلة المقبلة تغييراً كبيراً في التحالفات، إذ إن كل شيء بات شبه محسوم".