طالب رئيس البرلمان الإستوني والمرشح لمنصب الرئاسة، هين بيلواس، روسيا بإعادة مناطق في مقاطعتي لينينغراد وبيسكوف الروسيتين (شمال غرب) إلى سلطة بلاده، وفقاً لمعاهدة مبرمة في عام 1920. وتكشف تصريحات المسؤول الإستوني الأخيرة عن الصعوبات التي تواجهها روسيا في عملية ترسيم الحدود بعد مرور نحو ثلاثة عقود على انهيار الاتحاد السوفييتي. وعلى الرغم من الجهود المتواصلة لترسيم نحو 61 ألف كيلومتر من الحدود التي تجمع روسيا مع 18 دولة، لم تستطع روسيا ترسيم حدودها مع عدد من البلدان من إستونيا في الشمال الغربي، إلى اليابان في أقصى الشرق، مروراً بأوكرانيا وجورجيا في الجنوب الغربي. وعلى الرغم من توصل روسيا إلى اتفاقات أنهت الخلافات مع الصين وكازاخستان، تظهر انتقادات للسلطات بسبب اتهامها بالتخلي عن مساحات واسعة لجارتيها، أثارت في عدة مرات أزمات دبلوماسية حادة.
وخلال مؤتمر لحزب الشعب الإستوني المحافظ أخيراً، قال بيلواس إنه "يجب على السلطات الروسية أن تمنح إستونيا جزءاً من الضفة اليمنى لنهر نارفا ومنطقة بيتشورا"، مشيراً إلى أن "معاهدة تارتو للسلام، المبرمة في عام 1920، والحدود المشار إليها فيها، لا تزال سارية". وأكد أنه "يعارض التصديق على اتفاقية ترسيم الحدود مع روسيا".
وأبرمت معاهدة "تارتو" للسلام بين جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفييتية وإستونيا في 2 فبراير/شباط 1920. وتنازلت روسيا فيها عن منطقة بيتشورا الواقعة حالياً في مقاطعة بيسكوف، إضافة إلى المنطقة الواقعة على الضفة اليمنى لنهر نارفا التابعة حالياً لمقاطعة لينينغراد لصالح إستونيا، وأعيدت هذه المناطق إلى الحدود الإدارية لروسيا الاتحادية الاشتراكية السوفييتية في عام 1944.
وقعت وزارتا خارجية البلدين على مشروع اتفاقية حدودية عام 2014، ولكن حتى الآن لم يصادق البرلمان الإستوني عليها
ووقع البلدان اتفاقاً لترسيم الحدود في عام 2005 بعد مفاوضات شاقة استمرت منذ 1989، لكن برلماني البلدين لم يصدقا على الاتفاق بعدما أدرجت إستونيا إشارات إلى أحكام معاهدة "تارتو" للسلام. وحينها، رفضت موسكو الإضافات الجديدة ورأت أنها قد تفتح الباب مستقبلاً على مطالب حدودية من الجانب الإستوني. وفي 18 فبراير 2014، وقعت وزارتا خارجية البلدين على مشروع اتفاقية حدودية جديدة، تتضمن ترسيم الحدود البرية والبحرية، وحتى الآن لم يصادق البرلمان الإستوني على الاتفاقية. وفي المقابل، تشدد موسكو على أن معاهدة "تارتو" ليست سوى وثيقة تاريخية فقدت قوتها القانونية، وتصّر على المصادقة على الاتفاقية الحدودية الأخيرة.
وعزا بيلواس رفضه المصادقة على الاتفاقية إلى أنّ "معاهدة تارتو للسلام مازالت سارية المفعول حتى اليوم، وكذلك حدود الدولة التي وقعت عليها"، مشدداً على أنه "لا يوجد أي داع أو سبب لإضفاء الشرعية على الاحتلال الإجرامي لبيشورا وضواحي نارفا". وكان بيلواس أثار جدلاً واسعاً في خطابه للمواطنين بمناسبة العام الجديد 2021، حين قال إن البرلمان الإستوني لن يصادق على معاهدة الحدود لعام 2014 مع روسيا. وفي المقابل، نفت وزيرة الخارجية الإستونية، أورماس رينسلو، في خريف العام الماضي، وجود نية لدى حكومتها لتقديم مطالبات بشأن الحدود مع روسيا، في موقف تمليه التزامات إستونيا حين انضمت إلى حلف شمال الأطلسي في مارس/آذار 2004، والتي تحتم عليها اقراراً بعدم وجود مشكلات حدودية مع طرف ثالث.
وفي حين تواصل إستونيا التذكير بخلافاتها الحدودية مع روسيا، فقد تخلّت لاتفيا عن مطالبها الحدودية في عام 2007 تنفيذاً لشروط الانضمام إلى حلف الأطلسي.
أوكرانيا
وإلى الجنوب الغربي من الحدود، يتبادل مسؤولون وإعلاميون من روسيا وأوكرانيا التشكيك في تبعية كثير من المناطق في جنوب وشرق أوكرانيا وجنوب غرب روسيا، في صراع يوظف فيه كل جانب التاريخ الطويل المشترك للشعبين، في معارك السياسة الحالية. ويرى كثير من القوميين الروس أنّ أوكرانيا تقتصر على المناطق الغربية القريبة من الحدود مع بولندا، فيما باقي المناطق تعد امتداداً لأطراف الإمبراطورية الروسية، ويشيرون إلى أنّ اسم أوكرانيا (عند الطرف أو الحافة) هو دليل على أنها جزء لا يتجزأ من روسيا. وعادة ما ينظر القوميون الروس إلى مدن خاركوف وأوديسا وماريوبل على أنها روسية، ناهيك عن مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، ويجمع معظم الروس على أن تبعية شبه جزيرة القرم روسية وأن هذا أمر غير قابل للنقاش.
يرى كثير من القوميين الروس أنّ أوكرانيا تقتصر على المناطق الغربية القريبة من الحدود مع بولندا
وفي المقابل، يقول كثير من الأوكرانيين إنّ كييف كانت أول عاصمة للإمارات السلافية بين القرنين التاسع والثاني عشر للميلاد، قبل تدميرها على يد المغول. وفي أحدث حلقات الصراع التاريخي الإثني المعقد، قال النائب في البرلمان الأوكراني عن حزب التضامن الأوروبي، أليكسي غونشارينكو، إن منطقة كوبان جنوب غرب روسيا يجب أن تنتمي إلى أوكرانيا. وتقع المنطقة بمحاذاة شمال القوقاز على الضفة اليسرى لنهر كوبان، وصولاً إلى بحر آزوف، بمساحة 96 ألف كيلومتر مربع، وسيطرت عليها الامبراطورية الروسية في عام 1793 بعدما كانت لقرون تحت سيطرة خانية القرم التترية. ورداً على تصريحات تشير إلى أن خاركوف وأوديسا مدن روسية، ذكّر غونشارينكو بأنه "قبل مائة عام" في كوبان كانوا يتحدثون الأوكرانية، مشدداً على أنها "أراض أوكرانية" معزولة عن البلاد "بإرادة القدر". وأوضح أن ألقاب أهالي المنطقة وأغانيهم الشعبية وثقافتهم ولكنتهم، تشير بوضوح إلى أصولهم الأوكرانية. ويستشهد الإعلام الأوكراني بالإحصاءات السكانية في نهاية القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين. فحسب إحصاءات عام 1897، شكّل الأوكرانيون هناك نحو 47 في المائة من السكان، مقابل 42 في المائة للروس. وفي عام 1926، ازادت نسبة الأوكرانيين إلى 62 في المائة، وتراجعت نسبة الروس إلى 33 في المائة، قبل أن يصبح الروس أغلبية مطلقة ويتراجع الأوكرانيون إلى 1.6 في المائة ليحتلوا المرتبة الثالثة بعد الأرمن.
وفي ظلّ الاختلاط السكاني الكبير، وتبدل الأطراف المسيطرة على منطقة جنوب غرب روسيا والقوقاز، تكثر المشكلات الحدودية، حيث توجد أقليات روسية وازنة باتت خارج حدود بلادها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، كما جرى في إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية اللذين أعلنا استقلالهما من جانب واحد عن جورجيا بعد حرب عام 2008.
تتنازع روسيا واليابان على ملكية الجزء الجنوبي من أرخبيل الكوريل
اليابان
وفي خلاف أثارته تحالفات واتفاقات الحرب العالمية الثانية، تتنازع روسيا واليابان على ملكية الجزء الجنوبي من أرخبيل الكوريل في أقصى شرق روسيا، ويعطل الخلاف الحدودي توقيع اتفاق سلام بين البلدين منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وسيطر الاتحاد السوفييتي على جزيرة سخالين الجنوبية إضافة إلى جزر إيتوروفو، وكوناشيري، وشيكوتان، وجزر هابوماي ما بين 28 أغسطس/آب و5 سبتمبر/أيلول من عام 1945، بعدما ألغى معاهدة الحياد السوفياتية اليابانية، مستغلاً ضعف اليابان بعد أسابيع من إلقاء الولايات المتحدة قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناغازاكي. وتصّر اليابان على أن "الأراضي الشمالية" كما تطلق عليها، احتلتها القوات السوفييتية بعد التوقيع على إعلان انتهاء الحرب بمقتضى اتفاقية بوتسدام بداية أغسطس 1945، وتتهم القوات السوفييتية بطرد المواطنين اليابانيين منها.
حدود لا متناهية ومشاكل لا تنتهي
وعلى الرغم من تمكن روسيا من حل الخلافات التاريخية مع الصين حول المناطق الحدودية في عام 2004، وإنهاء المشكلة التي كادت تتسبب في 1969 في نشوب حرب واسعة بين البلدين، يواصل كثير من القوميين الروس انتقاد الاتفاق بحجة أنه تخلى عن مساحات واسعة للصين.
وفي ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، تسببت تصريحات عضوين في مجلس الدوما (البرلمان) الروسي في أزمة دبلوماسية مع الجارة الأقرب لروسيا، كازاخستان. وحينها، فجّر رئيس لجنة التعليم والعلوم في مجلس الدوما، فياتشيسلاف نيكونوف، عن حزب "روسيا الموحدة"، موجة غضب في كازاخستان بعدما قال في برنامج على القناة الروسية الحكومية الأولى، إن "كازاخستان ببساطة لم تكن موجودة، ولم يكن شمال كازاخستان مأهولاً على الإطلاق. لقد كانوا (الكازاخ) موجودين، ولكن بعيداً في الجنوب. وفي الواقع، فإن أراضي كازاخستان هي هدية كبيرة من روسيا والاتحاد السوفييتي". وصبّ عضو لجنة الموازنة والضرائب في مجلس الدوما، النائب عن حزب السلطة، يفغيني فيودروف، الزيت على النار بإشارته إلى أن نيكونوف لم يأت بأي شيء جديد بخصوص "الهدية الروسية". وانتقد ردود الفعل الكازاخية الغاضبة على تصريحات زميله في حزب "روسيا الموحدة".
وفي نهاية العام الماضي، وقّع الرئيس فلاديمير بوتين قانوناً يمنع ويجرم التنازل علن أي قطعة من أراضي روسيا لأي طرف خارجي، بعدما تم إقراره نتيجة الاستفتاء الأخير على التعديلات الدستورية في عام 2020.
يطلق القوميون الروس دورياً نصائح للكرملين لتوسيع الأراضي الروسية
ويطلق القوميون الروس دورياً نصائح للكرملين لتوسيع الأراضي الروسية. وفي 2014، وبعد ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، نصح الكاتب والسياسي القومي الراحل، إدوارد ليمونوف، الكرملين بضم المقاطعات الشمالية من كازاخستان بعد انتهاء حكم الرئيس الكازاخي السابق نور سلطان نازربايف. وذكر في مقال بعنوان "روسيا المثالية"، أن "المدن الروسية التي باتت وراء الحدود (الروسية) في داخل كازاخستان، تجذبنا بدءاً من أورالسكا حتى أوست كاونغورسك (مدينتان في شمال كازاخستان)، ويجب أن تصبح تابعة لروسيا وضمن حدودها". ودعا رئيس الحزب الليبرالي الروسي وعضو الدوما، فلاديمير جيرينوفسكي، أكثر من مرة إلى ضم كلّ آسيا الوسطى للأراضي الروسية، باسم "مقاطعة آسيا الوسطى الروسية". ومن أجل إنهاء الحراك في بيلاروسيا، اقترح جيرينوفسكي نهاية العام الماضي ضم الجمهورية إلى روسيا.
ومن الواضح أنّ خلافات روسيا الحدودية مع الجوار ستتواصل، ولن تقتصر على تلك المشكلات التي خلفتها نتائج الحرب العالمية الثانية، وانهيار الاتحاد السوفييتي، بل تتعداها إلى المناطق التي خضعت في حقبة تاريخية ما لسيطرة الامبراطورية الروسية، أو فيها أقليات روسية وازنة باتت خارج حدود الدولة الروسية التي تشغل أكثر من سدس اليابسة، بنحو 17 مليون كيلومتر مربع. ويبدو أن شهية كثير من الساسة الروس مفتوحة لضم مناطق ذات أغلبية سكانية روسية وأخرى كانت ضمن الإمبراطورية الروسية. ففي نهاية عام 2016، وعلى هامش اجتماع للجمعية الجغرافية الروسية، سأل الرئيس فلاديمير بوتين الطفل ميروسلاف أوسكيركو ذا السنوات التسع المهتم بالجغرافيا عن حدود روسيا، ورداً على إجابة الطفل إن حدود روسيا تمر عبر مضيق بيرينغ "حيث الولايات المتحدة"، قال بوتين مازحاً إنّ "حدود روسيا لا تنتهي أبدا".