تخوّفات إسرائيلية جدّية من المحكمة الجنائية الدولية: ما المختلف هذه المرّة؟

28 ابريل 2024
متظاهرون يتضامنون مع فلسطين أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، 18 أكتوبر 2023 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- دولة الاحتلال الإسرائيلي تواجه قلقاً بسبب احتمالية إصدار المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال ضد مسؤولين بارزين، بما في ذلك نتنياهو، على خلفية اتهامات بجرائم حرب في غزة.
- إسرائيل تحاول تفادي الملاحقة القضائية بإجراء تحقيقات داخلية وتواجه ضغوطاً من الولايات المتحدة ودول أخرى لحمايتها من المساءلة الدولية.
- المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية يواجه اتهامات بالانحياز لإسرائيل، مما يثير تساؤلات حول إمكانية محاكمة مسؤولين إسرائيليين تحت السلطة القضائية العالمية.

تتخوف دولة الاحتلال الإسرائيلي من إمكانية إصدار المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال، في الأيام القريبة، ضد مسؤولين سياسيين وعسكريين إسرائيليين، على رأسهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، في ظل حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، مع أن المحكمة لم تصدر، خلال سنوات سابقة، أي أحكام بحق قادة الاحتلال، وهو ما قاد إلى اتهام المحكمة بالتواطؤ مع الاحتلال في قضايا تتعلق بالفلسطينيين وعدم إنصافهم.

وعادة ما تلجأ إسرائيل إلى إجراء تحقيقات داخلية، تتخذ طابعاً شكلياً، وتزعم من خلالها محاسبة المسؤولين عن ارتكاب انتهاكات بحق الفلسطينيين، الأمر الذي يوفر لها الوسيلة القانونية الكافية للتهرب من الخضوع لمحاكمة دولية بسبب قانون التكامل الذي يتيح لها "محاسبة" نفسها بنفسها، وهو ما يترك مساحة كبيرة لاستمرار جرائمها. لكنها هذه المرة قد تجد مخرجاً إضافياً أيضاً لتفادي أوامر الاعتقال ضد مسؤوليها، وفق تقارير إسرائيلية تشير إلى ممارسة الولايات المتحدة ودول أخرى ضغوطاً لمنع إصدار أوامر اعتقال، وذلك في ظل الجهود الكبيرة التي تبذلها إسرائيل عالميّاً بهذا الخصوص في الأيام الأخيرة. 

وليس مستبعداً خضوع مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية كريم خان للضغوط، وهو الذي أبدى تعاطفاً كبيراً مع الإسرائيليين منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وأبدى انحيازاً واضحاً للسردية الإسرائيلية للأحداث، ولا سيما لدى زيارته مناطق غلاف غزة ولقائه عائلات محتجزين إسرائيليين في غزة ومسؤولين وغيرهم، فيما اتهمت دولة الاحتلال حركة حماس بارتكاب جرائم حرب وطالبت خان بتدخل المحكمة. ويومها استبق خان أي تحقيقات يمكن أن يجريها مكتبه بالقول إنه كان شاهداً على قسوة في المواقع التي هاجمها عناصر حماس. وتابع أن هذه الهجمات "تمثّل جرائم دولية تعد من بين الأخطر التي هزّت ضمير البشرية، وهو نوع من الجرائم التي تأسست المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق فيها". كما أكد  أن "الطريقة التي ترد إسرائيل من خلالها على هذه الجرائم هي موضع معايير قانونية واضحة تحكم النزاعات المسلحة".

ما الذي يعنيه قرار الجنائية الدولية

وفي جميع الأحوال، لا يعني صدور الأوامر، أن الدول التي لديها صلاحية تطبيقها ستقوم بذلك، وهو ما سبق أن حدث في الماضي. مع هذا تبدو التخوفات الإسرائيلية كبيرة هذه المرة، في ظل الإدانات الدولية الكبيرة للجرائم التي ترتكبها دولة الاحتلال في قطاع غزة، والمظاهرات الواسعة حول العام والضغط الدولي. كما أن مجرد إصدار الأوامر يمثل إدانة أخرى للجرائم الإسرائيلية وحجمها وخسارة أخرى لدولة الاحتلال أمام الرأي العام العالمي.

وخلال جلسات عُقدت أخيراً لمسؤولين إسرائيليين كبار لمناقشة التصدي لإصدار هذه الأوامر، عبّر عدة مسؤولين عن مخاوفهم، وهو ما دفع وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس، في حديث للقناة 12 العبرية، حول أوامر الاعتقال المتوقّعة والمخاوف لدى المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل، إلى القول إنّ "هذا نفاق مطلق. حتى لو تطلب الأمر البقاء في البلاد وعدم المغادرة، لن يمنعنا أحد من الدفاع عن المصالح الأمنية للمواطنين ومنح الجيش الإسرائيلي إمكانية العمل. هذا لن يردعنا". 

ويعيد هذا النقاش الضوء على محطات سابقة، بين الجنائية والدولية ودولة الاحتلال، والتي لم تفض إلى خطوات عملية، على الأقل حتى الآن. وسبق أن شرعت المحكمة الجنائية الدولية بتحقيقين أوليين بجرائم متعلقة بإسرائيل. وكانت المرة الأولى تتعلق بقضية الهجوم الدموي على أسطول الحرية عام 2010، والذي كان يرمي إلى كسر الحصار المفروض على قطاع غزة وإيصال مساعدات إنسانية، وقررت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية في حينه فاتو بنسودا، في مايو/ أيار من عام 2013، فتح تحقيق أولي حول الهجوم. وفي مارس/ آذار 2021، أعلنت المحكمة رسمياً الشروع بتحقيق بشبهة ارتكاب جرائم حرب في الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلتين، وقطاع غزة اعتباراً من 13 يونيو/ حزيران 2014. وقبل ذلك كان قبول فلسطين، دولة عضواً في المحكمة، تمتد أراضيها إلى هذه الأراضي ويجوز لها التوجه إلى المحكمة، للتحقيق في جرائم وقعت في أراضيها. وقررت المدعية العامة أن هناك مجالاً لفتح تحقيق، لكنه لم ينضج بعد. ورداً على هذه الخطوة، قامت دولة الاحتلال الإسرائيلي، حينها، بتجميد نصف مليار شيكل من أموال المقاصّة التي تحوّل إلى الفلسطينيين.

تاريخ من التهرب الإسرائيل

وخلال الفترة السابقة، تم تحديد عدة قضايا رئيسية للفحص، الأولى جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في حربها على غزة عام 2014، التي أطلقت عليها اسم "الجرف الصامد"، وكان القرار ينص على فحص الجرائم التي ارتكبها جنود الاحتلال وجرائم يُزعم أن حماس ارتكبتها. والقضية الثانية جرائم الحرب التي ارتكبتها قوات الاحتلال خلال مسيرات العودة (أحداث السياج) في عام 2018، بالإضافة إلى الجرائم التي ترتكبها جهات سياسية في إسرائيل في ما يتعلق بالبناء في المستوطنات، وخلُصت المحكمة إلى أن اختصاصها الجنائي يشمل جميع الأراضي الواقعة خارج الخط الأخضر، بموجب انضمام "دولة فلسطين" إلى المعاهدة، وعلى الرغم من أن إسرائيل من الدول الموقّعة على "نظام روما الأساسي"، إلا أنها لم تصدّق رسمياً عليه. 

وإسرائيل إحدى الدول الأربع التي وقّعت على المعاهدة، لكنها أبلغت المحكمة رسمياً، في أغسطس/ آب 2002، بأنها لا تخضع لإجراءاتها وقواعدها (إلى جانب الولايات المتحدة وروسيا والسودان). ورغم أن إسرائيل لم تقدّم رداً رسمياً للمحكمة، في إطار سياستها بعدم الاعتراف بسلطة المحكمة عليها، لكن بالمقابل، نشر المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية في حينه، آفحاي مندلبليت، في ديسمبر/ كانون الأول 2019، رأياً شاملاً حول عدم اختصاص محكمة الجنايات في القضية التي رفعتها فلسطين. وعلل موقفه بأن دولة مستقلة ذات سيادة هي وحدها التي يمكنها منح الاختصاص للمحكمة، فيما لا تلبي السلطة الفلسطينية شروط إقامة دولة. كما ادّعى أن إسرائيل لديها ادعاءات قانونية في ما يتعلق بالأراضي التي حددتها المحكمة على أنها أراضي السلطة الفلسطينية، وأن إسرائيل والسلطة الفلسطينية اتفقتا على حل هذه النزاعات في إطار المفاوضات، بما في ذلك اتفاقيات أوسلو، بحيث إنه بتوجهها إلى المحكمة، فإن السلطة الفلسطينية تتجاوز حدود الاتفاقيات مع إسرائيل وتطلب من المحكمة أن تبت في القضايا السياسية.

 الحرب الحالية

وفي السياق ذاته، اعتبرت دولة الاحتلال الإسرائيلي أن عملية طوفان الأقصى شكّلت انتهاكاً خطيراً للقانون الجنائي الدولي، وأنها تُعدّ جرائم حرب ضد الإنسانية وربما جرائم إبادة جماعية. وكان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان قد زار إسرائيل والضفة الغربية المحتلة، في الثالث من ديسمبر/ كانون الأول 2023، وأبدى استعداده للعمل بشراكة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي من أجل محاكمة عناصر حركة حماس الذين شاركوا في الهجوم على منطقة غلاف غزة في السابع من أكتوبر/ الأول، وفق قوله.

وأكد المدعي أهمية امتثال جميع الأطراف للقانون الدولي، بما في ذلك توريد المستلزمات الإنسانية. كما أشار خان إلى وجود مشورة قضائية في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وإلى وجوب التحقيق في حالة وجود شبهات، ما اعتبرته إسرائيل إشارة قوية إلى مبدأ التكامل مع القانون الجنائي الدولي، والذي يتيح لها فعلياً متابعة الأمور بنفسها دون تدخل دولي وبالتالي تكون هي القاضي والجلاد. وتحدّث خان أيضاً عن عنف المستوطنين واعتداءاتهم على الفلسطينيين في الضفة الغربية، وقال إن التحقيقات في المحكمة الجنائية الدولية ستجري بسرعة وبنجاعة. وأعلن كريم خان في أكثر مناسبة، أن المحكمة تحقق بجدية في أي جرائم يُزعم ارتكابها في قطاع غزة، منذ بداية الحرب الحالية، كما سبق أن كتب عبر منصة إكس أن "من ينتهكون القانون سيحاسبون"، وأعرب عن قلقه من الاجتياح البري المحتمل لرفح.

دعاوى ضد مسؤولين إسرائيليين

في ورقة موقف نشرها المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، في يناير/ كانون الثاني الماضي، اعتبر أن موافقة إسرائيل على التعاون مع المحكمة، من أجل محاكمة قادة "حماس" في ما يتعلق بالمحتجزين الإسرائيليين في القطاع وفي أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ستشكل تغييراً كاملاً في سياسة إسرائيل، ولذلك من غير المرجح أن يحدث هذا. وأشارت الورقة ذاتها إلى أنه في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدا أن ظاهرة رفع الدعاوى الجنائية ضد المواطنين الإسرائيليين في مختلف دول العالم قد تزايدت. وكانت هناك عدة محاولات لتطبيق الصلاحيات العالمية ضد عسكريين وسياسيين سابقين، بدعوى أنهم مسؤولون عن ارتكاب جرائم حرب خلال عمليات الجيش الإسرائيلي المختلفة في الصراع مع الفلسطينيين. 

وتدور هذه الشكاوى حول سلسلة من الأحداث، من بينها اغتيال القائد في كتائب عز الدين القسام الشيخ صلاح شحادة، في يوليو/ تموز عام 2002، ما أدى أيضاً الى استشهاد 14 مدنياً، من أفراد عائلة شحادة وجيرانه، ما أثار ردات فعل واسعة. وتثير حالة كهذه، من وقت لآخر، جدلاً اسرائيلياً عاماً حول مسألة ما إذا كانت هناك مخاوف حقيقية من محاكمة ضباط في الجيش الإسرائيلي. ولفت المعهد إلى أنه لم تصل بأي حال من الأحوال شكوى كهذه ضد إسرائيل إلى مرحلة التحقيق في حيثيات الأمر، بل أُوقفت جميعاً أو لا تزال في مرحلة ما من الإجراءات الأولية.

وأضاف أنه "من الواضح تماماً أن هيئات الادعاء في الدول الأوروبية غير متحمّسة في التعامل مع محاكمة الإسرائيليين، وفي جميع الحالات تقريباً أيدت إنهاء الإجراءات. وفي بعض الحالات، غُيِّر القانون، بشكل يحد من إمكانية استخدام الصلاحيات القضائية العالمية عامةً، وفي كل الأحوال يجعل من الصعب استخدام هذه الصلاحيات ضد الإسرائيليين". 

وكانت القضايا الأكثر إشكالية ضد الإسرائيليين، بحسب ورقة المعهد، هي تلك الحالات التي كان من الواضح فيها أن دولة إسرائيل لا تنوي اتخاذ أي إجراء قانوني، ولا حتى فتح تحقيق جنائي ضد المسؤولين عن فعل معيّن، ما يعني أن احتمالات الملاحقة القضائية تكون مرتفعة، خصوصاً عندما لا تقوم إسرائيل بإجراء تحقيق على الإطلاق، أو عندما تكون التحقيقات التي تجريها غير معمقة، وتستمر لفترات طويلة. وخلُصت الورقة إلى أن هذا لا يعني أن الإسرائيليين لن يُحاكموا أبداً في يوم ما أمام المحاكم بموجب السلطة العالمية، ومن الممكن بالتأكيد أن تجري محاكمة كهذه في وقت ما في المستقبل.

المساهمون