يمكن القول إنّ حركة فتح هي الأكثر تعقيدًا على الساحة الفلسطينية، فقد جعلت اتّفاقية أوسلو قيادة الحركة، التي أطلقت حركة التحرر الفلسطيني بعد النكبة، حزب سلطةٍ، في ما احتفظ قسمٌ مهمٌ من الحركة، وخاصةً من الأجيال الجديدة، بنفَسِ الحركة المقاوِمة، وما زال منخرطًا عمليًا بالنضال المسلّح وغير المسلّح.
تتقاطع مسيرة حركة فتح كثيرًا مع حركاتٍ تحرريةٍ عديدةٍ، في تحوّلها من منظّمةٍ تحرريةٍ إلى سلطةٍ سلطويةٍ يشوبها، أو ينخرها الفساد، وحزب اتحاد زيمبابوي الوطني الأفريقي، بقيادة الرئيس الراحل روبرت موغابي، أكبر مثالٍ على ذلك، كما لم ينجُ الحزب الوطني في جنوب أفريقيا، الذي ناضل ضدّ نظام التمييز العنصري، من مآلٍ مماثلٍ. الفرق أنّ حركة فتح التي ناضلت للتحرر من الاحتلال الإسرائيلي، قد تبوأت السلطة تحت مظلة الاحتلال، ووفق شروط إسرائيل في اتّفاقيات أوسلو، وما تبعها من تفاهماتٍ، خصوصًا أنّ الأجهزة الأمنية قد بنيت وفقًا لهذه الشروط، كما ركز التمويل الغربي على قوات الأمن المختلفة، بالنسبة لأميركا والغرب عمومًا فإن شرط تنفيذ اتّفاقيات أوسلو، وقيام "كينونةٍ"؛ ولا أتحدث عن دولةٍ فلسطينيةٍ، كان وما زال تأمين "أمن إسرائيل"، أي منع المقاومة، وضمان عدم دخول السلطة في تحالفاتٍ دفاعيةٍ مع أيّ قوةٍ إقليميةٍ، تعتبرها إسرائيل تهديدًا لها.
المهم الآن استمرار الفعل المقاوم، الذي وضع خطوطًا حمراء للقيادة المتنفذة، فلا الاحتلال ولا واشنطن معنيان بإنقاذ حركة فتح
الظروف المشوهة التي أحاطت ببناء السلطة، وتحوّل الحركة إلى رأس حكمٍ بدون سيادةٍ، أثرت على كوادر الحركة ومعنوياتهم؛ وفق مشاهدات الكاتبة الشخصية، فقد فهموا أنّ أوسلو ليست انتصارًا، ورأت منهم من ذرف الدمع عشية عودته إلى فلسطين، وفي الوقت نفسه، ومع مرور الوقت بدأ بعضهم ينظر إلى الدفاع عن أخطاء وخطايا السلطة كأنّه دفاعٌ عن تاريخ فتح، نتيجةً لارتباط مصدر رزقه بالسلطة، أو بحكم الانخراط بالفساد.
لكن استمرار الاحتلال وقسوته وبطشه، وخفوت الأمل بقيام دولةٍ فلسطينيةٍ، وتصاعد التناقض مع حركة الاستيطان وتمددها، أبقت على جذوة المقاومة، بل كانت تزداد اشتعالًا وتأثيرًا على كوادر حركة فتح، فقد كانت قياداتٌ فتحاويةٌ من أبرز رموز المقاومة "اللاعنفية" في التصدّي لجرافات الاحتلال، تحاول منع إسرائيل من مصادرة أراضي جبل أبي غنيم، في بيت لحم، ومن بناء مستوطنة (هارحوما) الكبيرة، وذلك بين 1995-1997، وشاركت حركة فتح في "هبّة النفق"، في القدس عام 1996، تلك المشاركات، وهبّاتٌ صغيرةٌ أخرى، رغم التنسيق الأمني الذي أثّر على حركة المقاومة الفلسطينية وشوّه المفاهيم، أبقت الحركة منخرطةً في المواجهة الرئيسية مع الاحتلال، نتيجةً لاستمرار الاحتلال نفسه.
في تلك الفترة (1996 و2002)، قابلت الكاتبة وناقشت أفرادًا من الأمن الفلسطيني، كان بعضهم مستسلمًا لما أقنع نفسه بأنّه ضرورةٌ لتحقيق الحلم الفلسطيني، إذا تطلب الأمر القبول بشروطٍ أمنيةٍ إسرائيليةٍ، لكن أغلب من تحدثت إليهم احتدّوا من أسئلتها، وأجابوها بغضبٍ، مؤكّدين أنهم لن يترددوا في مواجهة الجيش الإسرائيلي، وهذا ما حدث في الانتفاضة الثانية.
لكن يجب الاعتراف بأنّ قيادة "فتح" قد رسخت نفسها حزبًا حاكمًا، فكرًا وممارسةً، ما أضر بالحركة نفسها، وسمح بممارساتٍ سلطويةٍ لقياداتٍ فتحاويةٍ في السلطة وأجهزتها، ولا شكّ أنّ الرئيس الراحل/ الشهيد يتحمّل جزءًا كبيرًا من المسؤولية، ما أحدث تباعدًا بين قياديي فتح من شاغلي المواقع في السلطة من جهةٍ، وكوادر الحركة والشعب الفلسطيني من جهةٍ أخرى. لكن دعم عرفات لانخراط فتح في الهبات الشعبية، إضافةً إلى دور الهيئة العليا للحركة وقادتها، مثل الأسير مروان البرغوثي، والراحل عثمان أبو غربية، ساهما في إبقاء فكرة المقاومة حيةً، وتنشئة جيلٍ يسعى إلى استمرارية فتح كحركةٍ مقاومةٍ، على الرغم من كلّ خطايا السلطة والقيادة.
وإذا كانت هذه العوامل تشرح إلى حدٍ بعيدٍ انخراط فتح، وحتّى أجهزة الأمن الفلسطينية، في الانتفاضة الثانية عام 2002، وبتوجيهٍ رسميٍ من عرفات، فإنّ التناقضات التي أنتجتها أوسلو، وسياسات القيادة بين فتح المقاومة وفتح السلطة، قد برزت في تحدّي بعض قياديي فتح، وأهمّهم محمود عباس، لدعم وتمويل عرفات للانتفاضة، وبخاصةً العمليات المسلّحة. توجيه عرفات إلى كوادر فتح بالانخراط بالمقاومة، بجميع أشكالها حقيقةٌ مثبتةٌ؛ فالأسير مروان البرغوثي يقضي حكمًا مؤبدًا في المعتقلات الإسرائيلية، لدوره؛ بطلبٍ من عرفات، في ما سمي "الانتفاضة الثانية"، إضافةً إلى أَسر مئاتٍ من أعضاء الحركة والأجهزة الأمنية، خلال سنوات الانتفاضة الثانية، لاشتباكهم مع جيش الاحتلال.
هناك استمرارٌ للانخراط في المقاومة، على الرغم من استياء الرئيس عباس، فوفقًا لتقدير محامي الأسرى، فإنّ نحو 60 إلى 65 بالمئة من الأسرى، البالغ عددهم 5000 أسيرٍ، هم من أعضاء فتح، وحسب نادي الأسير الفلسطيني فإن 350 من أصل 550 أسيرٍا من المحكومين بالمؤبد من فتح، والأهمّ أن عدد الأسرى من فتح ليسوا جميعا من زمن الانتفاضة الثانية، بل إن العديد من كوادر فتح، ومنهم مَن تواصلت معهم الكاتبة، كانوا يجدون أنفسهم في المعتقلات الصهيونية لمددٍ قصيرةٍ، منها 4 أشهر فقط، ويعودون إلى عملهم دون عقابٍ من القيادة، ما يدل على أنّ القيادة تعي تداعيات أيّ قرارٍ يعاقب على مقاومة الاحتلال.
الفرق أنّ حركة فتح التي ناضلت للتحرر من الاحتلال الإسرائيلي، قد تبوأت السلطة تحت مظلة الاحتلال، ووفق شروط إسرائيل
تبدو قوة التيّار المقاوم داخل حركة فتح صاعدةً، على الرغم من إبعاد الرئيس عباس لمعارضيه، وبالذات مؤيدي تيّار الأسير مروان البرغوثي، وإهماله لحملات إطلاق سراح البرغوثي، بل ومحاولته تقويض نفوذه. فبروز المجموعات المقاومة، مثل "كتيبة جنين" و"عرين الأسود"، أعطى نفَسًا جديدًا للتيّار المتعارض مع سياسات عباس، خصوصًا "عرين الأسود"، التي تشكلت؛ في جزءٍ منها، من أوساط حركة فتح، كما انضم أعضاء الحركة إلى كتيبة جنين، وهم من قادتها، بالإضافة إلى المكوّن الأساسي، وهو الجهاد الإسلامي.
أتاح صعود هذه المجموعات للتيّار الفتحاوي المناوئ لسياسات عباس قيادة التحرك الشعبي والوطني، للضغط على قيادات فتح والفصائل، بما في ذلك حماس، لتوحيد جهودهم لمواجهة إسرائيل، حتّى أنّ أفراد فتح وقيادتها في مخيم "جنين" قد تحدوا قيادة فتح والسلطة، بعد المداهمة الأمنية، بل وأبلغوهم أنهم سيقفون مع المخيم في مجابهة السلطة إذا حاولت القضاء على كتيبة جنين، فساهمت بذلك كوادر فتح المنضمة إلى المجموعات المقاومة في منع حمام دمٍ فلسطينيٍ، رغم أن قيادة فتح بثت خطابًا تحريضيًا، لتعبئة الأمن ضدّ كلّ من يعارض القيادة، باعتبار ذلك خطرًا على الحركة.
التناقض بين شقي فتح؛ في الفكر والممارسة، مرشحٌ للتوسع، لكن التيّار القويّ حتّى الآن وضع حدًا لمحاولة تغول السلطة على حالة النهوض الفلسطيني، إضافةً إلى أن الرئاسة؛ على ضعفها ومهادنتها لأميركا، رفضت الآن تجريم الأسرى والشهداء، على الرغم من كلّ الضغوط الأميركية الساعية إلى وقف رواتب عائلات الأسرى والشهداء، فذلك موضوعٌ تفجيريٌ، ويحتوي على تجريمٍ لكلّ التاريخ الفلسطيني.
يحتاج الشعب الفلسطيني إلى قيادةٍ قويّةٍ وثوريةٍ، كما أنّ إرهاصات النهوض المقاوم، ومشاركة تيّار فتح المقاوم فيها، قد يُنتِج قيادةً بديلةً، تفرض نفسها بفعل الفعل المقاوم، لا يهم إذا كانت تجديدًا لفتح، أو بناءً لائتلاف حركة تحررٍ جديدةٍ. المهم الآن استمرار الفعل المقاوم، الذي وضع خطوطًا حمراء للقيادة المتنفذة، فلا الاحتلال ولا واشنطن معنيان بإنقاذ حركة فتح، بل هما معنيان بتفكيكها، وتمسُّك قيادة فتح بامتيازات السلطة لن يقويّها، إنّما يسرع تدميرها، والمستقبل للتيّارات المقاومة، سواء أدت إلى انبعاثٍ جديدٍ لفتح أو لحركةٍ جديدةٍ.