في الأيام الأخيرة، كان لموضوع الانسحاب من أفغانستان حصة ملحوظة من مداولات السياسة الخارجية في واشنطن، شارك فيها معظم المعنيين في الإدارة، على رأسهم الرئيس جو بايدن، الذي قالت الناطقة في وزارة الخارجية الجمعة، إنه كان على ما يكفي من "الوضوح" في هذا الخصوص خلال مؤتمره الصحافي الخميس.
في الواقع، كان كلامه كلّ شيء ما عدا الوضوح. وهكذا كان أيضاً ما صدر في هذا الموضوع عن وزيري الخارجية والدفاع وعدد من كبار العسكريين. موقف ضبابي مفتوح على أكثر من تفسير واحتمال، وكأن الإدارة تعتمد في هذا الملف نوعاً من سياسة "الغموض البنّاء" الذي يعكس حالة من الارتباك والحيرة، بما يعيد التذكير بسياسة "الفوضى البنّاءة" التي طرحتها وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس في 2006، والتي انتهت إلى المزيد من التدهور في المنطقة، من دون أن يعني ذلك بالضرورة أن النتائج محكومة بالتشابه في الحالتين.
الرئيس بايدن تحدث عن الانسحاب بلغة مواربة. يريد المغادرة "لكن بصورة آمنة ومنظَّمة". مستعجل، لكن ليس في الموعد المضروب أول مايو/ أيار المقبل. فقط "عندما تتوافر الظروف". وإذ يشدد على "عدم وجود نية للبقاء هناك لمدة طويلة"، إلا أنه لا يحدّد، ولو على وجه التقريب، مدة البقاء.
وزير الخارجية أنتوني بلينكن، الذي انتهى الخميس من اجتماعات حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وبعد التداول في الأمر مع الحلفاء، ردّد ذات النغمة: "دخلنا معاً.. ونغادر معاً في الوقت المناسب" كما قال. ومثله فعل وزير الدفاع لويد أوستن الذي زار كابول الأحد الماضي، حيث ربط الانسحاب بتراجع مستوى العنف "الذي ما زال عالياً". وقال إن القرار بالنهاية لرئيسه وليس له. وفي تصريح له لدورية "فورين بوليسي"، حرص على التناغم أكثر مع خطاب الإدارة "التي تريد ترك ما أمكن من الخيارات مفتوحة" على حدّ تعبيره.
الجهات العسكرية بقيت أيضاً ضمن هذا الإطار، ولو بقدر أوضح من التلميح. قائد قوات العمليات الخاصة الجنرال ريتشارد كلارك قال في جلسة مع لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ قبل أيام، إن القوات الأفغانية ما زالت "تعتمد" على الدعم الذي توفره الولايات المتحدة ودول التحالف، وما "توفره من إمكانات تحتاجها لمواجهة "طالبان" والقوى الأخرى الموجودة في أفغانستان"، وذلك في ضوء "تزايد العمليات على رغم الاتفاق على خفضها". ويذكر أن رئيس هيئة الأركان الجنرال مارك ميلي، كان قد مهّد لهذا التوجه بإعلانه أن الانسحاب "مرهون بمدى خفض "طالبان" لعملياتها العسكرية".
البنتاغون لا يخفي تحذيره من رخاوة الوضع الأفغاني بدون قوات التحالف. أفصح أكثر عن هذه النقطة بعد غياب الرئيس السابق دونالد ترامب الذي عقد اتفاق الأول من مايو. والرئيس بايدن متردّد بين تجاوز البنتاغون ورغبته في تجاهل الموعد الذي وافق، بل شدد عليه الرئيس السابق. لكنه يميل إلى الخيار الأخير. فالانقلاب على سياسات سلفه صار عملية ملازمة لمعظم قراراته في عدة ملفات خارجية.
وإذا كان هذا النهج قد حظي اجمالاً بالتأييد، إلا انه أدى في بعض الحالات إلى طرح علامات استفهام حول صوابيته وتداعيات ترجمته، لأن إطاحة خطوات ترامب وترتيباته تحصل من دون أن يكون البديل منها جاهزاً، وبما أدى إلى شيء من الانكشاف المحرج. تبدّى ذلك في موضوع الهجرة واللجوء عبر الحدود الجنوبية التي فتحها بايدن أمام القاصرين الذين كانت التدابير السابقة تقضي ببقائهم في الشق المكسيكي من الحدود ولغاية البت بطلبات قبولهم لدخول الأراضي الأميركية. فكان أن سبّب ذلك موجة من القادمين، أدّت إلى شبه أزمة حدودية تعاملت معها الإدارة بكثير من التخبط.
كذلك تجلّى هذا النقص، أو هكذا بدا، في قضية النووي الإيراني. الإدارة السابقة وضعت لائحة واضحة بالشروط المطلوبة لتسوية الأزمة مع إيران، ولو انها اعتُبرت غير معقولة. لكن إدارة بايدن ما زالت تتحدث بالعموميات عن "تطويل مدة الاتفاق وتقويته"، والبحث عن مدخل للتفاوض عبر بوابات إقليمية ملحقة بطهران. وإلى حدّ ما، كان الأمر كذلك في مقاربة الإدارة للعلاقات مع موسكو والصين، التي غلب عليها الحرص على تبليغهما بأن ساكن البيت الأبيض الجديد مختلف عن سلفه، وبلغة لا تتناسب، خصوصاً في البداية، مع تشديده على عودة إدارته إلى "الدبلوماسية" في الشؤون الدولية.
التذبذب مع التركيز على تظهير الفوارق مع ترامب من دون عرض البدائل بوضوح أدّى مع بعضه إلى شيء من الاهتزاز في المجال الخارجي، وبالتحديد في أفغانستان، على الأقل حتى الآن.