بداية تجب الإشارة إلى أن فئة الفلول القدامى تضم حكام وزعماء أنظمة وسلطات الاستبداد والفساد العربية التي حكمت بلادنا في مرحلة ما بعد الاستقلال، وفشلت في امتحانات الخبز والحرية والكرامة وفلسطين، ثم نجحت الثورات العربية التي اندلعت قبل عشر سنوات في إسقاط معظمهم، مثل حسني مبارك وزين العابدين بن علي، وعلي عبد صالح الله ومعمر القذافي. أما الفلول الجدد فهم نتاج الثورات المضادة الساعية إلى إعادة إنتاج الأنظمة الساقطة عبر قادة جدد يمثلهم عبد الفتاح السيسي وخليفة حفتر وعبير موسي، بينما يمثل بشار الأسد استثناءً فريداً وسلبياً لجهة أنه مزيج من الفلول القدامى والجدد.
فلسطينياً، ينتمي محمود عباس إلى طبقة الفلول القدامى، ولو واصلت عربة الثورات الأصيلة طريقها على السكة الصحيحة لرحل بالتأكيد. ومنذ سنوات عبر انتخابات تنافسية حرة ونزيهة وضمن مناخ فلسطيني مختلف جذرياً يلحظ إدارة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي عبر مقاومة شعبية سلمية تستلهم روح الانتفاضة الأولى وميدان الثورة المتنقل، عربياً من دولة إلى أخرى. أما خصمه اللدود محمد دحلان، فينتمي إلى الفلول الجدد، هذا يفسر طبعاً إقامته في أبوظبي باعتبارها عاصمة الثورة المضادة، كما علاقته الحميمة والوثيقة مع رموز الفلول الجدد الثلاثة السيسي وحفتر وموسي.
القاعدة السابقة مهمة لفهم المرسوم الرئاسي الذي أصدره الرئيس محمود عباس في منتصف كانون الثاني/ يناير الجاري لإجراء الحزمة الانتخابية بالتتابع لا بالتزامن مع إعطاء الأولوية للانتخابات التشريعية - 22 أيار/ مايو - ثم الرئاسية - 31 تموز/ يوليو - وأخيراً إعادة تشكيل المجلس الوطني - 31 آب/ أغسطس - وإجراء الانتخابات له حيثما أمكن، علماً أنها فسحة زمنية ضيقة جداً وتفضح حقيقة نواياه في إعادة تشكيل المجلس كونها غير كافية لإجراء الانتخابات في الشتات حيث يقيم ستة ملايين ونصف مليون فلسطيني، أي أكثر من نصف الشعب الفلسطيني.
في الحقيقة يسعى عباس إلى إجراء انتخابات معلبة محدودة المخاطر على طريقة الفلول القدامى ذات شكل ديمقراطي. أما جوهرياً فيهدف أساساً إلى تحديث قيادته وتشديد قبضته الاستبدادية الأحادية على السلطات والمؤسسات كافة.
طوال السنوات الماضية جرت المطالبة فلسطينياً بإجراء الحزمة الانتخابية الكاملة كتتويج لعملية المصالحة وإنهاء الانقسام لا مدخلاً له على أن يسبقها تشكيل حكومة وحدة وطنية تشرف على توحيد المؤسسات ورفع العقوبات والحصار عن غزة وحلّ المسائل والأزمات الملحة العالقة كالموظفين والحريات العامة ومعتقلي الرأي والعقيدة، وأداء الأجهزة الأمنية، ومن ثم الذهاب إلى الحزمة الانتخابية الكاملة بالتزامن لا التتابع مع إعطاء الاهتمام الكبير وحتى الأولوية لانتخابات المجلس الوطني بصفته البرلمان الجامع الذي سيأخذ على عاتقه مهمة إعادة بناء ديمقراطية شفافة ونزيهة لمنظمة التحرير باعتبارها الإطار القيادي المرجعي الأعلى والجامع للشعب الفلسطيني في أماكن وجوده المختلفة.
هذا يشبه في الحقيقة النقاش الذي ساد بعد اندلاع الثورات العربية تحديداً في ما يخص المطالبة بتطبيق معادلة الدستور قبل الانتخابات خلال المرحلة الانتقالية لضمان انتقال نزيه وسليم ومأمون من النظام الاستبدادي إلى الديمقراطي المؤسساتي الرشيد.
على العكس تماماً تبنى عباس عبر مرسومه الرئاسي معادلة الانتخابات كمدخل للمصالحة وإنهاء الانقسام، وبالتالي إجراءها وفق الواقع الراهن، والغرض واضح طبعاً ويتمثل بالاستفادة من الحكومة الفتحاوية الحالية التي يديرها أحد مساعديه، كما استثمار الواقع السيئ في غزة حيث العقوبات والحصار انتخابياً مع نيته إعادة رواتب الموظفين المقطوعة، ووقف الإجراءات التعسفية بحقهم وتقديم منح ومساعدات اقتصادية واجتماعية للغزيين تبدو أقرب إلى الرشى الانتخابية من تهيئة الظروف المؤاتية أمام انتخابات شفافة عادلة ونزيهة.
إلى ذلك، استبق عباس مرسوم الانتخابات بسلسلة من المراسيم والقوانين أمّم من خلالها السلطة القضائية وفرض قبضته عليها تماماً بما يتعارض مع القانون الأساسي "الدستور المؤقت" وقاعدة فصل السلطات، علماً أنه استحدث محاكم إدارية ومحكمة انتخابات يقوم هو شخصياً بتعيين أعضائها وفق تنسيب مجلس القضاء الأعلى الذي شكله من موالين له وتقاطعه نقابة المحامين، بل وتطالب بمحاكمة رئيسه المعين لاشتراكه في المذبحة العباسية بحق السلطة القضائية شكلاً ومضموناً.
الرئيس الفلسطيني قام كذلك بإجراء تعديلات على قانون الانتخابات، تحديداً الرئاسية منها، تظهر نواياه الاستبداية التسلطية، حيث أصبحت الانتخابات الرئاسية لدولة فلسطين لا للسلطة، مع العلم أن المصوتين فيها هم فلسطينيو الداخل فقط، ما يعني تخلياً عن اللاجئين وتنازلاً عن حقهم في العودة وحتى تشكيكاً بمواطنيتهم الفلسطينية.
على عكس المجلس التشريعي حيث اشتراط الترشح بالالتزام بالقانون الأساسي وقانون الانتخابات، تم ربط الترشح للرئاسة بالالتزام بالميثاق الوطني "المعدل" والبرنامج السياسي الحالي لمنظمة التحرير، ما يعني حرمان منافسيه الرئيسيين، تحديداً حركة حماس، من تقديم مرشح عنها لاعتراضهم على تعديل الميثاق من أجل تمرير اتفاق أوسلو، كما على البرنامج السياسي للمنظمة المفترض أن يتم وضعه من قبل هيئة منتخبة من الفلسطينيين في أماكن وجودهم المختلفة.
بناء على ما سبق، تبدو نوايا عباس واضحة جداً لإجراء انتخابات معلبة محجمة محدودة المخاطر ضمن المحددات وقواعد اللعب التي رسمها وفقاً لمصالحه. ومن هنا يمكن الاستنتاج أنها تشبه تماماً انتخابات أنظمة الفلول القدامى، وتحديداً الانتخابات البرلمانية التي أجراها نظام حسني مبارك في العام 2005، وربما تشبه أكثر الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة التي أجراها النظام الجزائري المحدّث التفافاً على مطالب الجماهير المنتفضة في الميادين المطالبة بنظام مدني ديمقراطي جدّي وحقيقي، علماً أن الرئيس عبد المجيد تبون يبدو وكأنه نسخة محدثة من الراحل عبد العزيز بوتفليقة، شديد الشبه بمحمود عباس، خاصة في ما يتعلق بالانتماء إلى فئة الفلول القدامى.
وبناء عليه أيضاً، ثمة أمل ضئيل في أن تخلق الانتخابات سيرورة تؤدي إلى المصالحة وإنهاء الانقسام، وربما تفعل العكس تماماً، أي أن تنظم الانقسام في مشهد سوريالي يبدو أقرب إلى الكونفدرالية بين سلطتين ضعيفتين منقسمتين وخاضعتين للاحتلال الإسرائيلي وإن بدرجات متفاوتة، وربما تؤدي أيضاً إلى مزيد من الأزمات والاشكالات، وتخلق سيرورة تكرس وتؤبد الانقسام، وهنا تكون السوريالية حاضرة والكونفدرالية أيضاً، ولكن بين الضفة الغربية والأردن من جهة، وغزة ومصر من جهة أخرى.