تحضر المقاومة الشعبية بقوة في مجمل تاريخ المقاومة الفلسطينية، من إضراب 1936 إلى مختلف الثورات والهبات الشعبية العفوية خلال فترة الانتداب البريطاني، وصولا إلى انتفاضة عام 1987، وانتهاء بانتفاضة عام 2000، وما تبعها من نماذج مختلفة من المقاومة الشعبية، التي طاولت مختلف مدن فلسطين (الضفة الغربية والقدس ومدن الداخل) بغرض التصدي لمختلف سياسات الفصل العنصري والتطهير العرقي التي تقوم بها الدولة الصهيونية في كافة المناطق ضد السكان الأصليين، عبر سن قوانين عنصرية ومصادرة أراض وبناء المستوطنات ومشاريع التطوير في مناطق الداخل (داخل الخط الأخضر)، فجميعها تستهدف تهجير السكان ومصادرة الأراضي وبناء جيتوهات معازل للفلسطينيين.
القدس ميدان ثورة الربيع الفلسطيني
تشكلت منذ سنة 2011 حالة حراكية رافضة لإجراءات الاحتلال الصهيوني في مدن فلسطين بالضفة الغربية والمدن المحتلة عام 1948، وشكلت مدينة القدس حالة ذات خصوصية، شكلت معادلة ردع في المدينة ما بعد انتفاضة الأقصى حتى هبة الشيخ جراح وسلواد كانت لها أنماط مميزة خاصة بمدينة القدس ووضعها الجغرافي ومكانتها الزمنية؛ منها العمليات الفردية والاحتجاج الشعبيّ والتفاعل الخارجي والمقاومة العنفية غير المنظمة رغم برامج وأد المقاومة المطبّقة بأشكال متفاوتة في مختلف ثنايا جغرافيا النكبة الفلسطينية.
كانت نهاية انتفاضة الأقصى وما تلاها من تفاهمات دايتون الأمنية بين الاحتلال الصهيوني والأجهزة الأمنية الفلسطينية، وما رافقها من انقسام الجسم السياسي في الضفة الغربية وقطاع غزة بداية لانطلاق "هبة السكاكين" في أكتوبر/تشرين الأول 2015- 2018التي كانت تعبيرا مجردا عن إرادة المقاومة المنظمة. اتسمت تلك المرحلة فيما عرف إعلاميا بـ"الذئاب المنفردة" أو "الفهود المنفردة" أنها عمليات فردية من خلال أفراد يبادرون إلى التخطيط والتنفيذ ودفع الثمن منفردين، لا يحتوي عملهم في الغالب الأعمّ على عنصر تنظيمي أو على خطوط تواصل، ما جعل التنبؤ بعملياتهم في خانة المستحيل أمنياً، وجعل استجابة الاحتلال المركزية تجاههم برفع ثمن عملياتهم على عائلاتهم ومحيطهم الاجتماعي.
كان التحدي الذي دفع هذا الفعل الفردي إلى التفجُّر والمبادرة محاولةَ حكومة الاحتلال فرض التقسيم الزماني في المسجد الأقصى المبارك بحصر الدخول إليه في اليهود خلال الأعياد اليهودية، ومنع المسلمين بمن فيهم موظفو الأوقاف من دخوله، والتنكيل بالمرابطين والمرابطات على أبوابه، فانطلقت موجة العمليات تلك وتمكنت خلال ثلاثة أسابيع فقط من فرض التراجع على الاحتلال من خلال تفاهمات "كيري" التي أُعلِنت في عمان في 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2015، والتي أعلن المحتل بعدها منع اقتحام أعضاء حكومته وبرلمانه.
ورغم استمراريتها على فترات متباعدة، لكنها كرست للاحتجاجات الشعبية بأدواتها البسيطة كالحجارة وإحراق العجلات وإغلاق الشوارع ورفع الأعلام، وهو يشكل التعبير الجماعي بأبسط الأدوات، منها هبة رمضان أبو خضير عام تموز/يوليو 2014 التي انطلقت عقب إحراق المستوطنين للفتى الشهيد محمد أبو خضير حياً، ولم تلبث هذه المواجهة أن انتقلت إلى جبهة غزة لتتحول إلى حربٍ شاملة.
تلك الهبة أسست لموجة من الهبات المقدسية التالية التي كانت أهميتها هي تراجع دولة الاحتلال عن سيطرتها أو عن إحكام سيطرتها على المدينة أو عن إخلاء مناطق وبيوت لصالح مستوطنين كما حدث في باب الأسباط يوليو/ تموز 2017 مع رفض المرابطين الدخول من البوابات الإلكترونية والاعتصام على أبوابه لحين إزالتها، وهو اعتصام بدأ بأعداد قليلة لم تزد عن مئات، ثمّ لم يلبث أن تحول إلى حالة جماهيرية عفوية تجمع عشرات الآلاف دون الحاجة إلى قيادة وتوجيه. تجددت تلك المقاومة المدنية الشعبية في هبة باب الرحمة عام 2019 حتى تمكن الحراك الشعبي من إعادة فتح مصلى باب الرحمة خلال خمسة أيام من الاحتجاج والمواجهات بعد 16 عاماً من إغلاقه.
بات المقدسيون يثقون في قدرتهم أكثر في إجبار الدولة الصهيونية على التراجع عن سياستها العنصرية تجاههم وتجاه بلدتهم. فكان الميدان وحضورهم الأكثر نجاعة وقوة، وكان ذلك في هبة باب العامود في مطلع رمضان الماضي 2021 ثم في حي الشيخ جراح وفي اقتحام 28 رمضان، وتطورت تلك الاندفاعات الشعبية العفوية إلى حركات منع متكرّرة؛ تنطلق لتمنع المحتل من فعل محدّد، وتتمكن بالفعل من تحقيق هدفها فتنتهي، وتمهّد بنجاحها للاندفاع في أماكن أخرى ليس فقط في القدس، ولكن تنتقل إلى بلدات فلسطين المحتلة عام 1948 في اللد والرملة وتثبت ناجعتها، لتعود مرة أخرى في مدينة بيتا على جبل صبيح فيما عرف بالارتباك الليلي.
كان الزخم الشعبي والمواجهات الشعبية في هبة باب العامود والشيخ جراح له دور فعال في إيصال الصوت الفلسطيني لحركة التضامن الدولية في كل العالم، وفرضت حالة من عزلة على الصهاينة وأبرزت زيف الرواية الصهيونية، وسرعان ما تم استعادة الإدانة الدولية الواسعة للاحتلال وسياسات الفصل العنصري التي تمارسها الدولة الصهيونية تجاه الفلسطيني صاحب الحق في البلاد.
"كل فلسطين" العودة إلى المقاومة الشعبية
"إن هبّة كل فلسطين كسرت كل الوقائع التي فرضناها خلال العقود الثلاثة الأخيرة تحديدا في ما يتعلق بتقسيم الشعب الفلسطيني إلى مجموعات سكانية مختلفة - في القدس والضفة وغزة والأراضي المحتلة عام 1948"، هذا ما ذكرته دراسة صهيونية صادرة عن مجلس الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب في 17 مايو الماضي، وخلصت تلك الدراسة إلى أنه بات ضروريا إعادة قراءة تلك الاحتجاجات جيداً من قبل القيادة الإسرائيلية لطرح آراء وأفكار مغايرة في حالة العودة إلى عملية التسوية والمفاوضات مع السلطة الفلسطينية.
تعددت نماذج المقاومة الشعبية في مختلف الأراضي الفلسطينية من زبوبا وعانين والطيبة وطورا الغربية في جنين، إلى دير الغصون وكفر قدوم وجيوس وفلامية وحبلة وعزون وعزبة طبيب في طولكرم وفي قلقيلية، إلى نعلين وبلعين وبدرس في رام الله، مروراً بالمعصرة وأم سلمونة والولجة في بيت لحم وانتهاء في بيت أمر ويطا في الخليل.
وفي بيتا نموذج آخر على المقاومة الشعبية الجادة حيث نجح أهالي بيتا خلال ستة وستين يوما في انتزاع الخطوة الأولى نحو النصر على المستوطنين؛ بإجبارهم على إخلاء جبل صبيح الذي تحول لرمز مقاومة الاستيطان في الأشهر الأخيرة.
وبشعور الهزيمة والذل أخلى المستوطنون مستوطنة افيتار التي أقاموها على الجبل فرادى حتى لا يعطوا أهالي بيتا مشهد انتصار، وشهدت الليلة الأخيرة قبل الإخلاء مواجهات ضارية استمرت حتى انسحاب آخر مستوطن من الموقع ليؤكد أهالي بيتا أنهم طردوا آخر مستوطن منها على وقع المقاومة إذ لم يسمحوا لهم بانسحاب هادئ.
وفي مدن الداخل المحتل كانت حركة الاحتجاج واسعة ضد ما يسمي مشاريع التطوير للمدن العربية في يافا والنقب والجليل الاعلى. وقام فلسطينيو 1948 باحتجاجات ضد العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، ونظّموا مسيرات داعمة ومناصرة لغزة وللقدس والأقصى، ومساندة لأهالي حي الشيخ جراح الذين يتصدون لمخطط ترحيلهم وتشريدهم ونقل عقاراتهم ومنازلهم للمستوطنين.
وفي تحول خطير يعكس تصعيدا في معركة الصراع على الوجود في فلسطين التاريخية، أعطت الحكومة الإسرائيلية الضوء الأخضر لعصابات المستوطنين بمهاجمة فلسطينيي 48، والاعتداء عليهم في المدن الساحلية، في محاولة لترويعهم وردعهم عن المشاركة في الهبّة الشعبية، وسلخهم عن القضية الفلسطينية.
ورغم اعتداءات المستوطنين وقمع الشرطة الإسرائيلية للاحتجاجات داخل البلدات العربية، وتهديدات المؤسسة الإسرائيلية باستعمال القوة المفرطة لإخماد الهبة الشعبية، فإن الاحتجاجات تواصلت، كان الداخل الفلسطيني سباقا في إعلان إضراب الكرامة يوم 18 مايو/أيار الجاري، ليعم كل فلسطين التاريخية، في مشاهد عززت وحدة الكل الفلسطيني وأسست لمرحلة جديدة في التعامل مع إسرائيل.
جدوى استمرار المقاومة الشعبية الفلسطينية
تخبرنا دراسات المقاومة الشعبية أن حركة اللاعنف تنجح إذا استطاعت إحراز نتائج ملموسة على الأرض كزيادة تكلفة السياسات القمعية للنظام الاستعماري تحديدا، تعمل للانطلاق من فكرة مقاطعة الاحتلال والاستعمار على المستويات كافة وترسيخ القناعة بضرورة استمرار المقاومة.
كان من أهم نتائج المقاومة الشعبية الفلسطينية، خاصة في هبة الشيخ جراح - باب العامود، أن أفقدت شرعية الكيان الصهيوني لدى أصدقائه وحلفائه المحليين والدوليين، حيث أظهرت مدى سطحية التطبيع القائم بين الدول العربية والكيان الصهيوني وهشاشته من جهة. أما من الناحية الدولية ساهمت في تقوية الحراكات العمالية والسياسية والاجتماعية والمدنية التي ظلت على مدار العقود الأخيرة في حالة من الضعف والتهميش داخل مجتمعاتها بشأن دعمها للقضية الفلسطينية، من خلال التفاف غير مسبوق وتوسّع هائل في تقبل الخطاب الفلسطيني والالتحام مع الحراكات الأخرى التي تواجه العنصرية والفاشية في العالم. واستطاعت الهبة الشعبية في كل فلسطين أن تمايز بين أنصار القضية الفلسطينية وبين أنصار الصهاينة، وساهمت في انحسار قدرة الصهاينة على خلق حالة تضامن واسعة مع الكيان، كما ساهمت في اتخاذ دعم فلسطين شكلا إضافيا لاتساع تبنّي الخطاب الفلسطيني، ووصولها إلى حراكات سياسية تقدّمية وحتى ليبرالية في الشمال والجنوب العالمي معاً، الأمر الذي أدى إلى زعزعة الغطاء الأخلاقي الذي استند عليه العدو منذ ما يقارب السبعين عاماً.
لذا نحن في فلسطين لدينا خيار وحيد، هو الاستعداد لاستدامة المقاومة الشعبية وبناء الإنجازات بالتراكم والتكرار، فتصل الاندفاعات الشعبية المتتالية مع الزمن وتراكم التراجعات المتتالية إلى ما كان يمكن لانتفاضةٍ من عدة شهور تحقيقه، لكن بزمنٍ أطول وطريقة مختلفة من التكيف تنتقل من التحكم إلى المواكبة والاستثمار. وفرض توازنات جديدة غير مسبوقة في هذا الصراع.