قبيل حلول موعد نقاش المحكمة العليا في إسرائيل، في 12 سبتمبر/أيلول الحالي، الالتماسات التي قُدّمت للطعن في تعديل قانون أساس "تقييد حجة المعقولية"، بعدة أيام، بادر رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إلى استعمال استراتيجيتين، في محاولة منه لمنع تدخّل المحكمة واتخاذ قرار ضد تعديل القانون. وقد يزيد إصدار المحكمة قراراً بإلغاء القانون، أو تعديله بشكل جوهري، من التصدع والاحتقان والتوتر في المشهد السياسي في إسرائيل، وقد يؤدي إلى أزمة حادة، أو إلى تقديم الانتخابات، وهو السيناريو الأسوأ بالنسبة إلى نتنياهو والتحالف الحكومي.
الاستراتيجية الأولى كانت المناورة والمراوغة عبر تسريب أخبار عن اقتراح حل وسط جديد بين نتنياهو وأقسام من المعارضة، طرحه رئيس الدولة إسحاق هرتسوغ. والاستراتيجية الثانية، استعمال التهديد الصريح والمباشر من قبل أقطاب التحالف تجاه قضاة المحكمة العليا، بغية منع تدخّل المحكمة في قانون أساس "حجة المعقولية".
في بداية سبتمبر الحالي رشحت أخبار عن طرح هرتسوغ مبادرة جديدة، عبر مفاوضات "سرية وغير مباشرة" بين الائتلاف الحكومي والمعارضة، من أجل التوصل إلى تسوية بخصوص خطة "إصلاح القضاء"، بهدف التوصل إلى "اتفاقات واسعة"، تنص على صيغة مخففة من قانون "حجة المعقولية"، وعدم تغيير لجنة تعيين القضاة، على أن تبقى الغالبية المطلوبة لتعيين القضاة 7 من 9 أعضاء، وتجميد بقية التشريعات لمدة عام ونصف عام، على أن يرتكز ذلك على قانون أساس.
استراتيجية المناورة والمراوغة لنتنياهو فشلت خلال ساعات قليلة من إطلاقها
وأوضح ديوان رئيس الدولة، في بيان، أن هرتسوغ "يسعى لمنع اندلاع أزمة قانونية، والتوصل إلى حل من أجل الحفاظ على الديمقراطية ووحدة الشعب في إسرائيل". هرتسوغ ادعى أن نتنياهو وافق على المقترحات، وأن هناك إمكانية للتوصل إلى تسوية ما، وأن هناك مفاوضات مع ممثلين عن حزب "المعسكر الوطني" الذي يترأسه بني غانتس، وعن أقسام من منظمي الاحتجاجات.
ربط عدد من المحللين في إسرائيل بين تصرف نتنياهو ومرونته تجاه مقترح التسوية، بالقول إن الأمر يتعلق أيضاً بالسعودية، إذ يريد نتنياهو تهدئة الأجواء السياسية من أجل تحقيق إنجاز سياسي، والتقدم بمسار التطبيع مع السعودية، وتوطئة للقاء مع الرئيس الأميركي جو بايدن. ورأى نتنياهو أنه يمكن لذلك أن يشكل مخرجاً لإشكالياته السياسية الداخلية والخارجية والاقتصادية، فضلاً عن أن التوصل إلى حل وسط مقبول من نتنياهو والمعارضة وأقسام من حركات الاحتجاج قد يقطع الطريق أمام تدخّل المحكمة العليا وإلغاء القانون، أو المطالبة بتعديله جذرياً.
"الليكود": لا تفاهم مع غانتس
إلا أن التفاؤل مع نشر الأخبار الأولية عن التسوية لم يدم طويلاً، وسرعان ما قتل حزب "الليكود" هذه الإمكانية، بحيث أعلن أنه لا توجد أي تفاهمات مع غانتس. كذلك عارض وزير القضاء ياريف ليفين، صاحب مشروع تقييد القضاء، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، هذه التسوية، وهاجموا أي إمكانية لحل وسط، ووصفوه بالخضوع للمعارضة.
وكذلك عارضته أطراف مركزية من المعارضة، التي لم تكن شريكة في تلك المفاوضات، مثل رئيس المعارضة يئير لبيد، ورئيس حزب "إسرائيل بيتنو" أفيغدور ليبرمان، وحركات الاحتجاج، التي رأت في ذلك محاولة خداع جديدة من قبل نتنياهو، فضلاً عن أن غانتس نفسه لم يرد على هذه الأخبار.
هوّة عميقة بين الأطراف كافة
بالون التجارب الذي أطلقه نتنياهو نُفِّس بسرعة كبيرة من قبل الأطراف كافة، الشركاء في التحالف الحكومي، ومن قبل المعارضة وحركات الاحتجاج، ما يؤكد عمق الهوّة بين الأطراف ومأزق الحالة السياسية، وصعوبة التوصل إلى اتفاق وسط بين التحالف والمعارضة أو حركات الاحتجاج.
والأهم عدم وجود ثقة في صفوف المحتجين والمعارضة بنتنياهو. كل هذا يوضح أن الأطراف كافة تتعامل مع الحالة القائمة كلعبة صفرية. نتنياهو حاول من طريق تسريب الأخبار استباق انطلاق النقاش في المحكمة العليا بالالتماسات التي قدمت ضد قانون تقييد "حجة المعقولية"، التي كانت بتاريخ 12 سبتمبر الحالي، لكي يمنع أو يخفف من الأزمة المتوقعة، ويمهد للقاء بايدن. استراتيجية المناورة والمراوغة فشلت خلال ساعات قليلة من إطلاقها، وقبل أيام معدودة من جلسة المحكمة العليا. لذلك، لجأ نتنياهو والتحالف الحكومي إلى استراتيجية التهديد المباشر لقضاة المحكمة العليا.
مداولات المحكمة العليا تحت تهديد اليمين
للمرة الأولى في تاريخ القضاء في إسرائيل، شارك 15 قاضياً في جلسة مداولات حول التماسات قُدّمت ضد تعديل قانون أساس "حجة المعقولية"، بسبب حساسية الحالة القانونية والسياسية، بحيث يمكن أن تكون هذه أول مرة تتخذ فيها المحكمة العليا قراراً بإلغاء أو تعديل قانون أساس، إذ كان متبعاً ألا تتدخّل بقوانين الأساس التي يسنّها الكنيست، بسبب مكانته.
وفق التحليلات كافة، هناك أغلبية تراوح بين 8 إلى 9 قضاة يؤيدون تدخّل المحكمة وإلغاء القانون. هذا المشهد ذروة التوتر بين السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية منذ إعلان الحكومة خطة تقييد القضاء بداية العام الحالي. لم يكتفِ نتنياهو بالمناورة السياسية لتفريغ جلسة المحكمة من أهميتها، أو استباق القرار بترويج إمكانية التوصل إلى تفاهمات مع المعارضة، أو عبر مبادرة أحادية الجانب من الحكومة لتخفيف تعديل القانون، بل بادر إلى توجيه تهديدات مباشرة، وإعلان مواقف حادة تجاه المحكمة العليا، قبيل انعقاد جلسة الاستماع في الالتماس ضد "حجة المعقولية" وخلالها، وألمح إلى أن التحالف لن يحترم قرار المحكمة إذا كان ضد القانون.
وأقام اليمين تظاهرة قبل أيام من موعد الجلسة، أمام مبنى المحكمة العليا، لدعم الخطة الحكومية، وتهديد قضاة المحكمة بشكل غير مباشر، لمنعهم من التدخل في قانون أساس. سموتريتش وجّه، في كلمته خلال التظاهرة، رسالة مباشرة إلى رئيسة المحكمة العليا، وقال لها: "أستر حيوت، لا تجرؤي على إبطال قانون أساس. المسؤولية تقع عليك".
وأضاف: "حتى لو كنتم تعتقدون أن التعديلات خاطئة، فإن إبطال قانون أساس هو تجاوز لصلاحيات المحكمة العليا، وهو نهاية الديمقراطية الإسرائيلية. أحثّكم على عدم القيام بذلك، والامتناع عن قرار من شأنه أن يمزق المجتمع الإسرائيلي ويفكك العائلات ويلحق الضرر بالجيش الإسرائيلي". بذلك يحمّل سموتريتش رئيسة المحكمة العليا المسؤولية عمّا قد يحدث، ويبرئ سلفاً الحكومة من أي إسقاطات لقرار المحكمة.
كذلك هاجم رئيس الكنيست أمير أوحانا، في مؤتمر صحافي عُقد في الكنيست، قضاة المحكمة العليا. وقال، بنبرة تهديد واضحة، شبّهها الإعلام الإسرائيلي بأسلوب المافيا، إن "المحكمة العليا لا تملك صلاحية إلغاء قوانين أساس"، معتبراً أن إسرائيل "أمام مفترق طرق جديد وخطير".
شبه الإعلام الإسرائيلي تهديد أوحانا لقضاة المحكمة العليا بأسلوب المافيا
وقال أوحانا إن الكنيست لن يقبل تقويض إرادته و"الدوس عليه". وأضاف أن إلغاء قوانين أساس "قد يجرنا إلى الهاوية. إسرائيل دولة ديمقراطية، والشعب صاحب السيادة، هكذا كانت وستظل كذلك". وتابع: "في الدول الديمقراطية، يجب احترام السيادة، وهي للشعب، لا يوجد ولا يمكن أن يكون هناك أي خلاف حول ما إذا كان الكنيست مؤهلاً أو لا. ولا يوجد في التشريع ما يجيز للمحكمة القيام بذلك".
أوحانا: الكنيست صاحب الصلاحية لسنّ قوانين
وشدد أوحانا على أن الكنيست صاحب الصلاحية الحصرية لسنّ قوانين أساس، وأن هذه القوانين غير خاضعة لرقابة المحكمة العليا، معتبراً أن "المحاكم قبلت ذلك على مرّ السنين". وبذلك يمهد أوحانا لإمكانية رفض الكنيست والحكومة قرار المحكمة إن ألغى قانون تقييد "حجة المعقولية".
كذلك استبق حزب "الليكود" قرار المحكمة، ونشر بياناً صحافياً خلال جلسة مداولات المحكمة، يحمل لهجة تهديد واضحة. وجاء في البيان أن "أهم عنصر في الديمقراطية، أن الشعب صاحب السيادة. الكنيست يستمد سلطته من الشعب. وتستمد الحكومة سلطتها من الكنيست. وتستمد المحكمة سلطتها من قوانين الأساس التي يسنّها الكنيست". وأضاف: "إذا قامت المحكمة بإلغاء قوانين أساس، فإنها تمنح لنفسها السيادة عوضاً عن الشعب. إن هذه الخطوة المتطرفة ستقوض أسس الديمقراطية. وهذا خط أحمر لا يجوز تجاوزه".
تصريحات سموتريتش وأوحانا، بالإضافة إلى بيان "الليكود"، توضح أن التحالف الحكومي لن يقبل بقرار المحكمة إن ألغى قانون أساس تقييد "حجة المعقولية"، بحجة عدم وجود صلاحية للمحكمة للتدخل في قانون أساس يسنّه الكنيست، وإن السلطة الوحيدة هي للإسرائيليين الممثلين عبر الأحزاب في البرلمان. هذه المواقف تنقل الصراع القائم في المشهد السياسي الإسرائيلي إلى مرحلة ونوع مختلف عن القائم لغاية الآن، المتمثل بحركات احتجاج تتظاهر وتغلق شوارع، وتمتنع عن التطوع في الخدمة العسكرية الاحتياطية، وتحذر من مخاطر الخطوات الحكومية.
ففي حال اتخاذ المحكمة قراراً بإلغاء القانون، أو طلبت إدخال تعديلات جوهرية عليه، سيقود ذلك إلى صدام جدي بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، والسلطة القضائية، في ظل الانقسام في المجتمع الإسرائيلي وفي الأجهزة الأمنية.
هذه الوضعية ستزيد من الانقسام والتصدع في المجتمع الإسرائيلي، ومن الإسقاطات السلبية على الاقتصاد، وعلى تماسك ووحدة الجيش وبقية الأجهزة الأمنية التي أعلنت بشكل أو بآخر، أنها ستقف في هذه الحالة إلى جانب السلطة القضائية وتدعم القانون. هذا يعني أن الأزمة السياسية ستتعمق وتتوسع، وسترافقها أزمة قانونية جدية، وتزيدان معاً من الأزمة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية في إسرائيل. وهي حالة غير مسبوقة في المشهد السياسي والقضائي الإسرائيلي، ولا يمكن التكهن إلى أين ستؤدي هذه الحالة، إلا إلى تعميق وتعقيد التصدع والخلاف داخل المجتمع والمؤسسات الإسرائيلية.