تعبير عن العنف
تُعتبر المقابر الجماعية إحدى الصور التي تدل على بشاعة وحجم العنف الذي شهده العراق بعد الاحتلال. ووفقاً لمسؤول عراقي رفيع في وزارة الداخلية، فإن العدد المتوقع لتلك المقابر يبلغ نحو 700 مقبرة تنتشر في عموم مدن البلاد، مضيفاً: "يمكن القول إن هناك في كل مدينة مقبرة أو مقبرتين تتشابه إلى حد بعيد، فالضحايا مدنيون قُتلوا على الهوية أو هم من أفراد الأمن العراقي، لكن صانع المقبرة يختلف بين جماعات القاعدة ومشتقاتها وداعش في ما بعد، والمليشيات، وليس كل المليشيات، بل تلك الموالية لإيران فقط"، على حد وصفه.
حسين السعدي، تبنّى منذ عام 2006 عملاً خيرياً، مع مجموعة من رفاقه في دفن الجثث التي كانت تُلقى في مكبات النفايات وعلى قارعات الطرق، أو تلك التي يُعثر عليها في مقابر جماعية صغيرة. يشير السعدي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن "المليشيات المدعومة من إيران كانت تنتهك حرمات العراقيين من جهة لدواعٍ طائفية، فيما ينافسها بذلك الانتهاك في الطرف المقابل تنظيم القاعدة ومن ثم داعش الآن"، لافتاً إلى أن "ذلك كان يحصل بشكل شبه يومي في بغداد، وكان عملنا يقتصر على أحياء معدودة في شرقي العاصمة. واكتشفنا عدة مرات مقابر جماعية، حيث ألقيت جثث في حفر صغيرة وتم طمرها".
بعد انتهاء مرحلة العنف الطائفي، كانت وسائل الإعلام المحلية تنقل باستمرار، عن مصادر أمنية، تأكيدها العثور على مقابر جماعية في مناطق متفرقة من البلاد، وكان في أغلبها ضحايا من المدنيين الأبرياء، لا سيما الشباب. وفي هذا السياق، يشير الرائد في الشرطة العراقية محمد النداوي، إلى أن ظاهرة المقابر الجماعية بدأت عام 2006 أو قبلها بقليل وتلاشت بشكل شبه كامل بين عامي 2009 و2013 لكنها عادت اليوم وبقوة، مضيفاً أن "التفنن الآن من قِبل المجرمين يفوق التصور، فبعضهم يتم دفنهم وهم أحياء بالجرافات، والآخرون يُحرقون وبعضهم يفجرون داخل الحفرة بالديناميت ثم يُرمى عليهم التراب كي لا يتم التوصل إلى هوياتهم". ويعتبر أن "المقابر الجماعية نتاج خالص للمليشيات والقاعدة سابقاً، واليوم بعودتها وبقوة تصلح لأن تكون بطاقة تعريف لمليشيات الحشد وداعش".
تغيير ديمغرافي
كان التخطيط لتغيير ديموغرافية المناطق أحد أهم الأسباب التي رفعت نسبة المقابر الجماعية، إذ كانت تمثل عامل رعب للسكان الذين تُكتشف بالقرب منهم واحدة من تلك المقابر، بحسب كاظم عباس الجبوري، أحد الزعماء القبليين في بغداد. ويقول الجبوري في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "مقابر جماعية اكتُشفت في المناطق المحيطة بالعاصمة، التي تسمى حزام بغداد، بالإضافة إلى مقابر في محافظات أخرى، أبرزها ديالى (شرقي البلاد)"، موضحاً أنه كان يحضر باستمرار إلى مواقع يُعلن عن العثور فيها على مقبرة جماعية، "كنت أحاول معرفة أسماء المغدورين ومن سكان أي من مناطق البلاد؛ فبين أبناء قبيلتي الكثير من المفقودين، عثرنا على بعض منهم في مقابر جماعية، وما زال 12 شخصاً مفقودين".
ويشير إلى أن "أبناء عمومتي المغدورين يسكنون مناطق في أقضية محيطة ببغداد، عثرنا عليهم وقد دفنوا عشوائياً بشكل مجموعات، وذلك في حوادث وقعت بين أعوام 2006 و2008"، لافتاً إلى أن "المليشيات كانت تتعمد رفع شعارات طائفية وهي تدخل مناطقنا المعروفة بأنها ذات غالبية سنّية. وعملت المليشيات على ترويع السكان وانتهت بالاستيلاء على الكثير من المنازل، بطريقة وضع اليد أو الشراء بأثمان بخسة، وما كان ذلك ليحصل لولا اعتمادها العنف". ليست المليشيات وحدها التي تسبّبت في إقامة مقابر جماعية، يقول الجبوري، الذي يملك معلومات واسعة حول ذلك الموضوع، موضحاً أن "تنظيم القاعدة، الذي أدى دوراً بارزاً في انعدام الأمن في العراق، تسبّب بحصول مجازر بحق مدنيين وعناصر أمنيين في أنحاء متفرقة من البلاد".
مرحلة "داعش"
لم يتوقف الأمر على المليشيات وتنظيم "القاعدة"، إذ تسارعت وتيرة القتل في العراق بسيطرة تنظيم "داعش" على مساحات كبيرة وصلت إلى نحو ثلث البلاد، وذلك في صيف 2014، ونشر التنظيم الرعب في المناطق التي فرض فيها سيطرته، واشتهر بتنفيذ عمليات قتل وحشي، كان ينشرها على مواقعه الخاصة على الإنترنت، وهي تُظهر عمليات قتل وإعدامات بطرق غريبة لأفراد أو جماعات. ومع بدء العمليات العسكرية التي شنّتها القوات العراقية، مدعومة بقوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، لتحرير المدن من سيطرة "داعش"، اكتُشفت العديد من المقابر الجماعية لمدنيين كان التنظيم أعدمهم في وقت سابق. وفيما لم يتبق للتنظيم من سيطرة في العراق سوى على مساحة صغيرة جداً، بالقياس لما كان يسيطر عليه حتى قبل عام من الآن، بدأت الكثير من المقابر الجماعية تُكتشف في مناطق كانت تحت سيطرته.
وحذرت الأمم المتحدة من جرائم الحرب التي ارتُكبت على يد "داعش"، إذ نفذ التنظيم عمليات إعدام بحق رجال ونساء، لإدانتهم بارتكاب مخالفات يعتبرها التنظيم جرائم تستحق القتل. وتحدثت الأمم المتحدة، في تقرير سابق لها، نُشر مطلع 2016، عن اكتشاف عدد من المقابر الجماعية، من ضمنها مقابر في مناطق استرجعتها الحكومة من سيطرة "داعش". ونقل التقرير عن الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، يان كوبيش، قوله: "على الرغم من الخسائر المستمرة التي تكبّدها داعش على يد القوات الموالية للحكومة العراقية، إلا أن هذه الآفة ما فتئت تقتل وتشوّه وتهجّر المدنيين العراقيين بالآلاف وتتسبب بمعاناة غير مسبوقة. وأكرر دعوتي وبقوة إلى جميع أطراف الصراع لضمان حماية المدنيين من تأثيرات أعمال العنف".
وفي الموصل، شمالي البلاد، حيث تواصل القوات العراقية تقدّمها في معركة استعادة السيطرة على ما تبقى من المدينة، عثرت تلك القوات على ست مقابر جماعية حتى الآن، وذلك في خلال عمليات التمشيط التي تجريها في الأحياء المحررة من قبضة تنظيم "داعش" في ساحل الموصل الغربي. ووفقاً لما كشفه جنود مشاركون في معركة الموصل لـ"العربي الجديد"، فإن المقابر اكتُشفت في الحدائق العامة والمتنزهات وساحات كرة القدم وباحات المدارس، بواقع مقبرة جماعية واحدة لكل ثلاثة أحياء من التي تحررت حتى الآن. ويُقدر عدد من دفن فيها بأكثر من 800 ضحية قتلهم التنظيم بشكل جماعي ورمى عليهم التراب بواسطة الجرافات بعد إحداثه حفرة عميقة تكفي لأعداد أكبر.
180 ألف مفقود
العقيد فراس ناجي عبدالله، أحد ضباط وزارة الداخلية العراقية وعمل بين عامي 2014 و2016 كمسؤول عن شرطة النجدة في إحدى ضواحي بغداد، يقول لـ"العربي الجديد"، إن كل التقديرات التي تتحدث عن المقابر لا يمكن اعتبارها صحيحة مطلقاً. ويضيف: "لدينا نحو 180 ألف مفقود خلال 11 عاماً فقط ولا نعلم مصيرهم سوى أنهم خُطفوا، ومن المؤكد أن أغلبهم الآن دُفن في مقابر جماعية موزعة على جميع مساحة ومدن العراق، وهذا يعني أنه لدينا ضعف المقابر التي تُقدر بـ600 مقبرة جماعية". ويشير إلى أنه "حتى الآن نحن لا نمتلك أجهزة كشف أو وسائل حديثة، والمقابر تُكتشف بطرق عدة، إما من خلال شهود عيان كانوا موجودين على بُعد خلال المجزرة، أو من اعترافات للمتهمين أو أن الرائحة القوية لجثث الضحايا تدلنا، أو أن نجد مجموعات كبيرة من الكلاب السائبة تنبش في مكان ما فنذهب ونجد يد أو ذراع أحدهم خارج التراب".
ويلفت عبدالله إلى أن ديالى تتصدر المناطق التي فيها مقابر جماعية، تليها بغداد وصلاح الدين والأنبار وبابل ونينوى، موضحاً أن "المقابر تختلف من واحدة لأخرى، بعضها تكون حُفرٌ طبيعية ترمى فيها الجثث ثم تردم بالتراب بواسطة الجرافات، مساحة بعضها نحو ثلاثة أمتار وبعمق متر واحد، وصولاً إلى مساحات تبلغ عشرات الأمتار وبعمق أكثر من ثلاثة أمتار".
عبد الكريم العزاوي، الذي اختُطف نجله عمر عام 2007، فقَدَ الأمل بالعثور عليه حياً بعد نحو ثلاثة أشهر من الخطف. يقول لـ"العربي الجديد"، إنه دفع فدية للخاطفين على أمل إطلاق سراحه بحسب ما وعدوه، لكنهم قطعوا الاتصال به بعد تسلمهم المبلغ المطلوب. ويشير إلى أنه ما زال يهرع نحو أي مقبرة جماعية تُعلن الجهات الحكومية اكتشافها، أملاً بالعثور على جثته.
أما أمل هادي، وهي من سكان محافظة ديالى، فبنت قبراً لولدها طه، طوّقته بأكاليل من الزهور، وتحرص على زيارته كل أسبوع. تقول لـ"العربي الجديد": "مات ولدي، قلبي يعلمني بذلك، لقد اقتادته المليشيات عام 2008 عندما داهمت منزلنا، منذ ذلك الحين لم أره، وبعد أربعة أعوام قررت بناء قبر له". ويسعى عدد من أعضاء البرلمان العراقي إلى سنّ قانون يتعلق بضحايا المقابر الجماعية أسوة بقوانين مشابهة، كقانون السجناء والمعدمين السياسيين. وحول ذلك، يقول عضو "تحالف القوى" محمد الدليمي، لـ"العربي الجديد"، إن "سنّ قانون يتعلق بضحايا تلك المقابر بات أخلاقياً أكثر من كونه تنظيمياً". ويضيف: "لدينا آلاف في تلك المقابر، وهناك عشرات آلاف المفقودين قد نجدهم في مقابر أخرى لم تُكتشف حتى الآن، وذووهم معلّقون بين السماء والأرض، فلم يُمنحوا تعويضاً وأولادهم المفقودون لم يُحتسبوا شهداء ولم تصرف لهم شهادة وفاة طبيعية، وحتى زوجاتهم غير قادرات على إكمال حياتهن من بعدهم".