لا تهدف هذه المقالة إلى المفاضلة ما بين دونالد ترامب وجو بايدن، وإذا كان جليًا أن نجاح ترامب يعني استمرار المواجهة مع المشروع الصهيوني، بل وتصاعدها، إلا أن نجاح بايدن لا يعني تراجع هذا المشروع، بقدر ما سيكون بمنزلة إعادة الوضع الفلسطيني إلى المربع السابق ذاته، دون التوصل إلى أي نتائج عملية كفيلة بتحقيق حل عادل للقضية الفلسطينية. هذا الوضع قد يريح السلطة الفلسطينية قليلًا، إذ سيحفظ دورها المؤقت كطرف شكلي في المعادلة، بدلًا من أن تواجه لحظة الحقيقة اليوم فتعتدل أو تعتزل.
لم تبدأ صفقة ترامب - نتنياهو المعروفة بصفقة القرن يوم الإعلان الرسمي عنها في واشنطن (كانون الثاني/ يناير 2020)، أو في إعلان الشطر الاقتصادي منها في العاصمة البحرينية (حزيران/ يونيو 2019)، إذ يؤكد الراحل صائب عريقات أن هذه الخطة ذاتها قدمها الإسرائيليون للجانب الفلسطيني في عام 2012، باللغة نفسها التي صيغت بها، أي أنها لا تعدو أن تكون نصًا إسرائيليًا بخطاب صهيوني ديني، كما يصفها عزمي بشارة، وقد قطع فيها ترامب مع المبادرات الأميركية السابقة، وبدأ من جديد، لتنسجم تمامًا مع هذا الخطاب. ويلاحَظ أن الإدارة الأميركية شرعت في تنفيذ الصفقة قبل إعلانها، ولم تُبقِ من الدولة الفلسطينية، التي يُفترض أنها تعد بها الفلسطينيين، سوى التسمية. وبدأت الخطوات الأميركية في تنفيذها، سواء كان ذلك بوقف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أم الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن.
لم يكن موقف السلطة والفصائل الفلسطينية، وعلى امتداد هذا الزمن، بمستوى الحدث، حيث اكتفت ببيانات الشجب والاستنكار، وحضور بعض المؤتمرات العربية والإسلامية، دون اتخاذ أي خطوات فعلية، مكتفية بالتلويح بخطوات تعتزم اتخاذها لاحقًا، ودون المضي قدمًا في تنفيذ أي إجراءات جدية، سواء لترتيب البيت الفلسطيني وإنهاء الانقسام، أم الاتفاق على مشروع وطني فلسطيني جامع، أم إنهاء اتفاق أوسلو، وسحب اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل، ووقف التنسيق الأمني معها. وعلى الرغم من وجود توصيات وقرارات من المجلس الوطني الفلسطيني والمجلس المركزي، منذ عام 2015، بالسير في هذا الاتجاه، فإنها جميعها بقيت حبيسة الأدراج، واستمر الجمود في الموقف إلى ما بعد ظهور نتائج الانتخابات الإسرائيلية، وإعلان بنود الاتفاق الائتلافي بين الليكود وحزب أزرق أبيض، والتي تضمنت تأييد صفقة القرن، وتفويض بنيامين نتنياهو اتخاذ قرار الضم.
طوال هذا الوقت الممتد أعوامًا، بقيت السلطة الفلسطينية في موقع الانتظار تترقب تغيّرات متخيلة، وتتوهم قدرتها على التأثير فيها، مثل نتائج الانتخابات الإسرائيلية، وإمكانية إسقاط نتنياهو عبر توصية الكتلة العربية في الكنيست الصهيوني بالتصويت لصالح بيني غانتس. وخلال ذلك كله، استمرت علاقات السلطة الفلسطينية مع الإدارة الإسرائيلية كالمعتاد، حتى إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي تاريخًا محددًا لتنفيذ الضم، حيث بدأ الجميع يستشعر الخطر الداهم الزاحف، ويسعى جهده لإيقافه.
حينها فقط، اتخذت السلطة الفلسطينية وقيادة منظمة التحرير عددًا من القرارات، كان أهمها تعليق الاتصالات مع الجانب الإسرائيلي والإدارة الأميركية، والتحلل من الاتفاقات المعقودة مع الإسرائيليين، ومن ضمنها التنسيق الأمني، والتوقف عن تسلّم أموال المقاصة، دون أن توضح معنى التحلل من الاتفاقات، وهل هو إلغاء أم تجميد أم وقف مؤقت. كما أعلنت عن رفض الانضمام إلى مفاوضات سلام تكون مرجعيتها صفقة القرن، والدعوة إلى مفاوضات سلام جديدة من خلال مؤتمر دولي للسلام تحضره الرباعية الدولية وأطراف أخرى.
استراتيجية السلطة الفلسطينية في ظل ولاية ترامب
على الرغم من أن الضم الفعلي للأراضي الفلسطينية هو عملية مستمرة لم تتوقف يومًا، حيث تجاوز عدد المستوطنين 700 ألف مستوطن. ووفق تقرير حديث لمنظمة بتسيلم، فإن إسرائيل قد صادرت ما يزيد على 75 في المائة من أراضي الضفة الغربية، ما بين المستوطنات، والطرق الالتفافية، والمحميات الطبيعية، والمناطق العسكرية، فإن السلطة الفلسطينية ميّزت ما بين الضم القانوني والضم الفعلي، إذ إن الضم القانوني وصفقة القرن يعنيان عمليًا إنهاء دور السلطة الفلسطينية، وتحويل المدن الفلسطينية إلى معازل، في ظل سيطرة إسرائيلية مطلقة. وهذا يفسر رفض السلطة الفلسطينية صفقة القرن، كما يوضح سبب اختيار توقيت الإعلان عن إجراءاتها لمواجهة الصفقة بإعلان بنيامين نتنياهو تاريخ بدء تطبيق الضم القانوني، رغم مرور أشهر وأعوام على الضم الفعلي وعلى ترتيبات الصفقة المختلفة.
استندت السلطة الفلسطينية في رفض خطة الضم إلى إجماع فلسطيني كامل، وإلى موقف عربي شكلي تمثّل بقرارات باهتة من جامعة الدول العربية، وإلى موقف دولي مناهض لرؤية ترامب – نتنياهو، لكنها في حقيقة الأمر أرادت أن تُبقي الطرق المختلفة المؤدية إلى بقائها مفتوحة، فقد تحللت من الاتفاقات ولم تعلن إلغاءها، وأوقفت التنسيق الأمني، لكنها التزمت بما دعته محاربة الإرهاب والحفاظ على الأمن، وامتنعت عن تسلّم أموال المقاصة الضريبية، وهي أموال الشعب الفلسطيني، لتضع الجميع أمام احتمال انهيار الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وهو إجراء لم تكن له أي ضرورة، إذ عندما طالبت بمساعدات بديلة قيل إنها تمتلك أموالًا عند الطرف الإسرائيلي الذي قايضها على هذه الأموال بالعودة إلى جميع الاتفاقات السابقة، بما فيها التنسيق الأمني.
كما لجأت السلطة إلى فتح ملف المصالحة الفلسطينية، وعقدت اجتماعًا للأمناء العامين للفصائل، وتعهدت بإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية وانتخابات المجلس الوطني، واتُفق على تشكيل قيادة مشتركة للمقاومة الشعبية السلمية، وانتقدت بشدة تطبيع بعض الدول العربية مع إسرائيل، وبادرت إلى سحب سفرائها لديها، لأن هذا التطبيع قد أضر بالاستراتيجية الفلسطينية، وأحدث شرخًا في الموقف العربي، ومثّل اختراقًا صهيونيًا للنظام العربي، يوحي بإمكان ممارسة ضغوط عربية لإجراء تحويلات هيكلية في رؤية السلطة الفلسطينية وبنيتها. لكن العقوبات على غزة لم تُرفع، ومرسوم الانتخابات لم يُوقّع، واجتماع يتيم للأمناء العامين لم يتكرر، ولم تُشكَّل قيادة موحدة، ولم تشهد الأرض المحتلة جهودًا حقيقية رسمية لتصعيد المقاومة الشعبية، وعاد السفراء إلى مواقع عملهم، ما دامت العلاقات بين السلطة ذاتها وإسرائيل قد عادت إلى مجاريها السابقة.
بنت السلطة الفلسطينية استراتيجيتها على السير حتى منتصف الطريق في مواجهة الاحتمالات المختلفة، وإن كانت لم تُخفِ، ومنذ اليوم الأول، هدفها الرئيس وهو العودة إلى المفاوضات عبر الرباعية والرعاية الدولية. وفي الوقت ذاته، لجأت إلى المناورة المحدودة بالمصالحة والفصائل، والتلويح بالمقاومة الشعبية، بانتظار ما ستسفر عنه الانتخابات الأميركية لتقرير خطوتها المقبلة.
بات من المرجح أن يكون جو بايدن الرئيس الأميركي المقبل، وهو وإن كان صهيونيًا كما يعلن، إلا أن سياسته تختلف جذريًا عن سياسة ترامب؛ ففي حين أن ترامب يعطي الأولوية لحل القضية الفلسطينية وفق منظور توراتي صهيوني قائم على اعتبار أنها أرض إسرائيل، فإن رؤية بايدن تشابه رؤية السياسة الأميركية التقليدية في ما يتعلق بالحفاظ على أمن إسرائيل ودعمها، وإدارة الصراع في المنطقة، وعدم الانجراف خلف حلول تؤدي إلى توترات غير متوقعة، وهي سياسة يميل إليها تيار صهيوني عريض يؤمن بالقضم الفعلي التدريجي، ولا يريد أن يورط إسرائيل بقرارات غير محسوبة.
سيتجه بايدن أكثر باتجاه الموقف الأوروبي من القضية الفلسطينية، وهو الموقف ذاته الذي يتبنى إدارة الصراع، وتقديم حلول جزئية ذات طابع اقتصادي، تساهم في إبقاء الوضع على ما هو عليه، مع غض النظر عن الإجراءات الإسرائيلية المتبعة داخل الأرض المحتلة، تحت ذريعة أن هذا كله سيخضع للتفاوض في مرحلة ما، رغم اعترافهم الضمني الواضح من تطور مشاريع ومباحثات السلام حول أهمية الحقائق على الأرض. وسيلجأ بايدن، كما هو مرجح، إلى إعادة تمويل وكالة غوث اللاجئين، وفتح المكتب الفلسطيني في واشنطن، وعودة المساعدات الأميركية للسلطة.
هذا الموقف يوافق سياسة الرئيس محمود عباس، فهو يضمن استمرار بقاء السلطة ودورها الوظيفي في هذه المرحلة، مع استمرار الوعود بالمفاوضات ومشاريع الحلول التي لن تصل إلى نتيجة، وستتراجع احتمالات الوحدة الفلسطينية، أو إعادة بناء منظمة التحرير وتشكيل قيادة موحدة، أو المضي باتجاه المقاومة الشعبية، وسيشجع على ازدياد وتيرة التطبيع العربي الرسمي، وسيؤدي من جهة إلى مزيد من الانقسام، ومن جهة أخرى إلى محاولات دؤوبة من تجمعات فلسطينية مختلفة للبحث والاتفاق على مشروع وطني فلسطيني جديد.
كيف نخرج من هذه الدائرة؟
في 1/9/1982، قدم الرئيس الأميركي رونالد ريغان "مبادرة سلام أميركية لشعوب الشرق الأوسط"، وهي المبادرة التي عُرفت باسم مشروع ريغان. وخلال فترتي ولايته التي امتدت حتى عام 1989، حاول العرب التوفيق بين مشروعه ومشروع مؤتمر القمة العربية في فاس. وبذل الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية جهدًا متواصلًا، دون جدوى، في محاولة إقناع الولايات المتحدة الأميركية بعقد مؤتمر دولي للسلام، والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا للفلسطينيين في هذا المؤتمر، وتهدئة المخاوف المشتركة للولايات المتحدة وإسرائيل من احتمال قيام دولة فلسطينية مستقلة، عبر توصل الأردن ومنظمة التحرير إلى اتفاق عمّان الذي ينظم صيغة التعاون بينهما للوصول إلى حل سلمي، كما ينظم العلاقة المستقبلية بينهما من خلال الاتفاق على اتحاد كونفدرالي، ولم ينجح ذلك بسبب التعنتين الأميركي والصهيوني، وإصرارهما على اعتراف المنظمة بحق إسرائيل في الوجود، وإدانة الإرهاب، والتوقف عن العمليات العسكرية، والاعتراف بقراري مجلس الأمن 242 و338، وكلما استجابت المنظمة خطوة تُطلب منها خطوات أخرى إضافة إلى الإصرار على تكرار تجربة كمب دايفيد في المفاوضات المباشرة، ورفض المؤتمر الدولي، أو النظر إليه باعتباره مؤتمرًا شكليًا لا دور له.
بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، اتصل الرئيس رونالد ريغان بالملك حسين هاتفيًا، في مساء يوم الخميس الموافق 28/1/1988، وقال له: "إنّ الأحداث في الأراضي المحتلة أصبحت مصدر قلق شديد لنا، وقد بلّغنا إسرائيل عن انزعاجنا من تصرفاتها بلغة واضحة وفعالة. المظاهرات، العنف، الإبعاد، والإضرابات؛ كلها توضّح أن عتبة جديدة قد قُطعت في الضفة الغربية وغزة. الشعب الفلسطيني غير مستعد للبقاء ساكنًا، وإسرائيل مرتبكة ولا تعلم كيف ستتعامل مع الانتفاضة. التطورات المحتملة تشكّل خطرًا على المنطقة بأسرها. الطريقة الوحيدة لمجابهة هذه التطورات هي إعطاء الفلسطينيين سببًا للأمل وليس لليأس. نحن بحاجة إلى مبادرة سلام فعالة تؤدي إلى نتائج ملموسة، وبسرعة. نحن جميعًا لا نستطيع أن نتقبل استمرار الوضع الراهن، ونحن على استعداد لبذل محاولةٍ جديدة. وهذه المرة نعالج المواضيع الجوهرية المتعلقة بالتسوية النهائية والإجراءات المرحلية".
وأعرب الرئيس الأميركي عن رغبته في إرسال فيليب حبيب لمقابلة الملك، مؤكدًا أنه وإن كانت السنة "سنة انتخابات في أميركا، وأن الوقت غير مناسب لطرح مبادرات جديدة، إلا أننا إذا لم نتحرك الآن، فسنندم جميعًا".
على جناح السرعة، وبعد يومين فقط، وكما هو مدون في المستدرك من يوميات عدنان أبو عودة: الأرض والزمن والسلام، والذي سيصدر قريبًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وصل فيليب حبيب إلى عمّان ليلتقي الملك حسين، ناقلًا إليه قلق ريغان بشأن الأحداث في الأراضي المحتلة، ورغبته في بعث الحيوية والحياة في مسيرة السلام، مؤكدًا أن الهدف هو التوصّل إلى تسوية شاملة، وليس تحسين الأوضاع في الضفة الغربية وغزة فحسب.
تتضمن النقاط التي عرضها حبيب على الملك حسين تراجعًا عن المواقف الأميركية السابقة والمستمرة على امتداد الإدارات الأميركية المتعاقبة، إذ تراجع عن المفاوضات المباشرة، ووافق على المؤتمر الدولي بمشاركة سورية والاتحاد السوفياتي، وترك مسألة مشاركة منظمة التحرير ضمن وفد أردني – فلسطيني للعرب ليقرروا كيفية معالجتها. وتعهد بوضع حد لمصادرة إسرائيل الأراضي، ومنح الفلسطينيين مسؤولية إدارة شؤونهم، لتكون بداية عملية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وتأمين الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني بمعناها الواسع، وتنطبق هذه المبادئ على جميع الأراضي المحتلة، بما فيها الجولان. ويؤكد حبيب في هذا اللقاء أن الولايات المتحدة قد عانت الكثير في الماضي نتيجة عدم وضوح موقفها، متعهدًا بأن تمارس الولايات المتحدة الضغط اللازم على إسرائيل.
بالتأكيد فإن هذا الموقف الأميركي، القلق في حينه، ليس مثاليًا ولا مقبولًا بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني، وربما يكون محاولة لاحتواء الوقائع الجدية التي فرضتها الانتفاضة الفلسطينية الأولى، لكن الدرس المستفاد هنا هو أن العودة إلى المفاوضات لن تحل المشكلة، فالوقت ليس وقت مفاوضات لن يعبأ أحد بالموقف الفلسطيني فيها، وليس وقت تقديم حلول، وإنما هو وقت تصعيد النضال بجميع الوسائل المتاحة، من أجل تغيير ميزان القوى عبر تراكم النضالات المختلفة، وهو الدرس الذي علينا تعلمه من مكالمة ريغان ومن الانتفاضة.