بعد 16 عاماً على الانقسام الداخلي الفلسطيني، زاد الشرخ والتنافر بين قطبي الانقسام، وزاد الفشل في استعادة وحدة النظام السياسي؛ الذي تتحمله قطاعات مختلفة، بخاصةً النساء والشباب. في وقت تتصاعد الاعتداءات الإسرائيلية، يستمر تردي الوضع السياسي، وإخفاق القوى السياسية في إنهاء الانقسام، بسبب مصالح بعضهم في استمراره، إذ تحولت أزمة النظام السياسي إلى أزمة بنيوية شاملة، فاقمت من حدة المأزق، وهو ما يفرض على جميع القوى السياسية والاجتماعية القيام بأدوارها، ووقف صمتها المُريب الشبيه بالتواطؤ.
لم ترتق الحلول التوافقية إلى مستوى الواقع ومتطلباته؛ أي ركزت على أولوية الصراع مع الاحتلال وتجاهلت التباينات الداخلية، وما زال الحوار بعيداً عن الخوض في تأثيرات الانقسام على المجتمع الفلسطيني، مع انتشار اليأس والإحباط، وفقدان الثقة بسبب سوء الأوضاع المعيشية، في حين ينشغل طرفا الانقسام في الصراع على السلطة، وترسيخ الانفصال.
على مدار سنوات الانقسام؛ استبعدت القوى السياسية المتنفذة ممثلي المجتمع المدني، وأقصت القطاعات الاجتماعية، خاصةً قطاع المرأة، إذ انعكس الانقسام على النساء بشكل نوعي ومختلف، على الرغم من تمثيلهن الرمزي تحت ضغط المؤسسات النسوية، إلا أن حضورهن لم يعكس حضور قضاياهن الحقوقية، بسبب اقتصار المعالجات على البحث في الخلاف السياسي، ومراعاة مصالح القوى السياسية، وعدم الاعتراف بالخلاف الاجتماعي والفكري، كسبب من أسباب الانقسام، وعدم مساهمة "نساء الفصائل" في الضغط على أحزابهن لتحسين تمثيلهن ومشاركتهن.
أثر الانقسام على المرأة
صدرت دراسات عديدة خلال السنوات التي تلت الانقسام، حول تعرض النساء للعنف السياسي، وتراجع أوضاعهن وحقوقهن السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والصحية، جراء خفض سقف الحريات العامة والمدنية، ضمن بيئة اجتماعية محافظة وتقليدية. يختلف انعكاس عقوبات طرفي الانقسام المتبادلة على العضوات مقارنة بالأعضاء، ومآلاتها في خلخلة النسيج الاجتماعي، خاصةً؛ العقوبات المتعلقة بالحجز والاستدعاء والتحقيق وتقييد الحركة والفصل من الوظائف ومنع التوظيف، على الرغم من عدم مشاركة العضوات إجمالاً في الاقتتال، فضلاً عن التحريض عليه، بل كن متلقيات لأبعاده ونتائجه السلبية، ومنها ما عُرِف بالزواج والطلاق الحزبي.
لا يعني تراجع الأمل بتحقيق المصالحة الفلسطينية؛ في المدى المنظور، فقدانه كلياً، بل يعني أن المسؤوليات تطرح نفسها على المكونات المجتمعية المختلفة
أما أثر الانقسام على حياة النساء الجماعية، فيمكن التوقف عند أثر تقييد الحريات العامة والخاصة، وانتهاك الحقوق المدنية، وعدم تطبيق القوانين وانحياز القضاء، وأحياناً تضارب القوانين والتراجع عنها، وابتداع بدائل قانونية كـ "قانون الشقاق والنزاع في قطاع غزة"، الذي أقرّ من كتلة حماس في المجلس التشريعي، التي واصلت الاجتماع وإصدار القوانين.
في الطرف الآخر، استمر إصدار التعاميم في الضفة الغربية المحتلة، من أجل تجميل القانون المتقادم المنفصم عن واقع التطورات، وإطالة عمره لتهريب الاستحقاقات العملية في إصدار القوانين والتشريعات المتناسبة مع الواقع، كما استمر إصدار تعديلات قانونية بموجب قرارات رئاسية تستند إلى المادة 43 من القانون الأساسي، التي تمنح الرئيس هذه الصلاحيات أثناء حالة الطوارئ، مبرهنة على عجز القوانين السارية عن تلبية تطورات الواقع.
تباعد برنامجي تدريجي
بين عدم الاعتراف بالخلاف الاجتماعي علناً؛ والاستبعاد والتفرد بالقرار، وإعلاء شأن المصالح الحزبية والفئوية وقع المواطنون ومنهم النساء ضحية التجاذبات السياسية والانقسام، ما هدَّد وحدة النسيج الاجتماعي الذي أصابته شروخ واختلالات عميقة، فبينما تراجع قطاع غزة عن مكتسبات الحركة النسائية الفلسطينية، التي حققتها على مدار أربعة عقود، بسبب غياب أجندة حركة حماس النسوية، راوحت تلك المكتسبات في مكانها في الضفة الغربية، بسبب تردد السلطة وعدم حسم موقفها من الأجندة الاجتماعية، بل وتراجعها.
تمزَّق النسيج الاجتماعي وفشل المعنيون بحماية المجتمع وحفظ السلم الأهلي، بذلك ينبغي استعادة التفويض والعقد الاجتماعي الممنوح، والتوصل إلى عقد اجتماعي جديد، لاستعادة الثقة في النظام السياسي وقدرته على حماية أمن الوطن والمواطن والسلم الأهلي.
شهدت بنية القيادة الفلسطينية الفكرية تحولات أدت إلى قطعها مع التزاماتها المبدئية، المسجلة بالمرجعيات المقرة كوثيقة الاستقلال والقانون الأساسي، بسبب خشيتها من تحريض القوى التقليدية في بيئة نمطية محافظة، وتفاقمت بسبب غياب إرادة التغيير الاجتماعي، فاتسعت الفجوة بين الخطاب النظري والعملي على أرض الواقع، وأدّى الانقسام مع مرور الوقت إلى تباعد برنامجي، بين المحافظات الشمالية (الضفة) والجنوبية (غزة).
بالنتيجة غابت عن الاتفاقيات والتفاهمات الموقعة، أية نصوص لها علاقة بهوية الدولة المنشودة، بسبب عدم مشاركة القوى الاجتماعية، ولم تراعِ مصالح الشرائح والطبقات الاجتماعية، ولا استثمرت خبرات المجتمع الغنية، ومنها خبرات النساء وطاقاتهن في إكساب الاتفاقيات الأبعاد الحقوقية من منظور نسوي، كما لم يُفَعَّل دور اللجان المشكلة بتمثيل القوى الاجتماعية، ومنها لجنة المصالحة المجتمعية، ولجنة الحريات العامة، ولجنة التعويض عن الأضرار، بسبب الفهم النمطي السائد، الذي يعتبر أن الوحدة الوطنية تتحقق تلقائياً بتوحد الفصائل السياسية، أو توافقها على الموقف السياسي.
الدليل على ذلك؛ رفض مكتب المجلس الوطني الفلسطيني مطالبة الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية المشاركة في لجنة النظام الداخلي، رفقة الجمعيات والمراكز والأطر النسوية، في رسالته التي وجهها في يونيو/حزيران 2012، بذريعة أن الاتحاد مُمَثَّل أوتوماتيكياً من خلال القوى السياسية المشاركة بالاجتماع، وكأن معالجة الانقسام حكرٌ على الذكور دون منح الحق للجميع من جهة، أو أن الحوار يختص بالقضايا السياسية حصراً، دون ارتباطه بالقضايا الاجتماعية، ما يمثل تسطيحاً لقضايا الخلاف وتجريدها من بعدها الاجتماعي.
استبعاد النساء يعني استبعاد قضاياهن عن مائدة الحوار، التي تنطلق من خصوصية وضعهن في المجتمع، ومن حقائق التمييز الممارس ضدهن بسبب الجنس، الأمر الذي يعني تلقائياً استمرار التمييز وعدم المساواة، والظلم والإجحاف بحق قطاع كبير بحجم القطاع النسوي، على صعيد المشاركة في صنع القرار؛ القانوني والاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
استبعدت القوى السياسية المتنفذة ممثلي المجتمع المدني، وأقصت القطاعات الاجتماعية، خاصةً قطاع المرأة،
تجاهل عناوين الانقسام ذات الأبعاد العقائدية والفكرية والخلاف الاجتماعي، أو النظر إليها كقضايا هامشية ليست ذات أولوية، يقود إلى استمرار الاحتقان والأزمات، بسبب غياب العدالة الاجتماعية واستمرار التمييز، وهو ما طرحته الحراكات العربية المطالبة بتحقيق العدالة الاجتماعية، والتي شهدت صراعات وتحولات سياسية واجتماعية لم تستقر بعد.
القيمة المضافة لمشاركة المرأة
مشاركة المرأة الفاعلة في الحوار، تستحضر قضاياها القانونية والتشريعية وحقها بالمشاركة على الطاولة، الرد المذكور سابقاً؛ حول المشاركة في لجنة النظام، يؤكد أن النظرة للخلاف باعتباره محض خلاف سياسي، وهو ما لا يمكن نفيه، وخاصة أنه انفجر لأسباب سياسية وأمنية لا تخفي المصالح البينية، لكن الإقرار بالخلاف السياسي لا يعني التنكر للخلافات الفكرية المتصلة بموقع المرأة في النظام السياسي، وحقوقها وطبيعة القوانين التي تمس حياتها، من حيث ديمقراطيتها ومساواتها. وقد برز الخلاف حولها في أكثر من محطة في الماضي، ولا زالت تثار كلما جرى نقاش أحد القوانين ذات الصلة.
مشاركة المرأة في الحوار الوطني؛ إلى جانب القطاعات الأخرى أمرٌ طبيعيٌ، لإصلاح أجندة الحوار ومساره، ووضع القضايا والاعتبارات النوعية الخاصة على طاولة الحوار والتفاوض، بما يعمق المصالحة ويخدم استدامتها. وهذا السيناريو لا يجحف بحق بقية القطاعات والشرائح، بل يدعو إلى تمثيلها لضمان التوازن، بديلاً عن الحوار الذي وصل إلى طريق مسدود.
الحوار النسائي أولاً
كي تصل الحركة النسائية الفلسطينية إلى طاولة الحوار الوطني، عليها خوض الحوار في ما بينها، عبر أدواتها المختلفة، من اتحاد عام وأطر وجمعيات ومراكز ومؤسسات بمختلف تلاوينها، بوجود المستقلات وممثلات الحركات النسوية الإسلامية، للتفاوض والتوافق على القضايا ذات الصلة بحقوق المرأة، ومشاركتها السياسية، رغم إدراك صعوبة نقاش الجزء المتعلق بالشق الاجتماعي الشائك يجب عدم تأجيله، بل ينبغي خوضه بشجاعة ووضوح، آخذين بعين الاعتبار المبادرات التي حصلت على صعيد خوض حوارات سياسية ونسوية موازية، كان لها أثر إيجابي لصلتها العميقة بحقوق النساء في المجتمع، ومنزلتهن القانونية ومكانتهن الاجتماعية، استناداً إلى مرجعيات محلية، ومقاربة الالتزام بالوثائق الدولية، والاطِّلاع على الدراسات الصادرة حول أثر الانقسام على المرأة وتوصياتها، وما خرجت به الحوارات النسوية، ومنها تجربة الحوار الذي أدارته مؤسسة مفتاح، وكذلك الوثيقة التوافقية حول مخرجات الحوار النسوي، الذي أداره مركز مسارات بمشاركة جميع الاتجاهات النسائية، وتشكيل المبادرة النسوية للحوار، إذ يمكن اعتبارهما نموذجين ملهمين للشباب والنقابات والطلبة لخوض حوارات مماثلة، والمطالبة بتوسيع الحوار الوطني حول الانقسام، وإخراجه من ثنائيته المقيتة، وسيطرتها على مخرجاته ومآلاته.
خرجت الوثيقة بمطلب تمثيل المرأة بمعدل ثلاثين بالمئة من العدد الإجمالي للمكونات المشاركة في جلسات الحوار، التزاماً بقرارات المجلسين الوطني والمركزي، ما يعني تخصيص كل فصيل ثلث مقاعده للعضوات، وتمثيل المستقلات بذات النسبة، وهو ما ينبغي أن ينطبق على النقابات والاتحادات والمجتمع المدني. التي عليها المبادرة إلى تشكيل الأطر الحوارية، التي لن تختطف دور أحد بناءً على القواعد التالية:
أولا: اعتماد لغة الحوار وتكريسها كأسلوب وحيد لحل الخلافات الداخلية، وتوفير الأجواء الملائمة لبدء الحوار، والعمل على ترسيخه، بما يحوله إلى لغة وثقافة وسلوك سائد.
ثانياً: طيّ صفحة الانقسام، يتطلب الحوار بين القطاعات والشرائح الاجتماعية المختلفة حول مرتكزات المصالحة المجتمعية، من منظور القطاع ومصالح الفئة التي يمثلها، انطلاقاً من المرجعيات المقرَّة، ممثلة بوثيقة الاستقلال ومبادئ القانون الأساسي وإقرارهما بمبدأ المساواة بين المرأة والرجل.
ثالثاً: تحول الحوار الاجتماعي القطاعي إلى خيار مستهدف، بسبب الفشل الذي مُنيت به الحوارات الوطنية أولاً، والإقصاء الذي واجهه المجتمع المدني بأسره ثانياً، ما جعل الحوار الموازي للقوى الاجتماعية ممراً إجبارياً للضغط على القوى السياسية المنقسمة لتوسيع دائرته، استشعاراً بالمخاطر المتعاظمة التي تمر بها القضية الوطنية.
رابعاً: تقييم الحوار دورياً، وإعلان نتائجه بشفافية، رغبةً في تكريس ثقافة الحوار الديمقراطي وتعزيزها في المجتمع، ومن أجل تقديم نموذج للحوار الشفاف والديمقراطي.
وأخيراً، لا يعني تراجع الأمل بتحقيق المصالحة الفلسطينية؛ في المدى المنظور، فقدانه كلياً، بل يعني أن المسؤوليات تطرح نفسها على المكونات المجتمعية المختلفة، وينبغي الانتباه لها، فالفشل الذي مُنِيت به الأحزاب السياسية المشاركة، يفرض على القوى الاجتماعية؛ صاحبة المصلحة في الحل، اقتراح مواقفها وتوافقاتها، والمطالبة بمشاركتها بقوة، وفي مقدمتها القطاعات والقوى الاجتماعية النسائية والشبابية، المتضررة من استمرار الانقسام أكثر من غيرها، من أجل الدفاع عن حقها في المشاركة بالحوار الوطني بغرض إنهاء الحوار، وعدم تجاوز مصالحها الجمعية، عبر عقد الصفقات من خلف ظهرها.