تشكّل المرجعيات الدستورية والقانونية، الناظم الأساسي الذي يحدد شرعية المنظومات السياسية التي تتولى إدارة الشأن العام، وهي المسألة التي يمكن من خلالها قياس منسوب شرعية أي نظام سياسي، ومدى تمثيل إرادة الشعب كمصدر للسلطات، في المؤسسات السياسية على اختلاف أشكالها. في تجارب الدول الديمقراطية، ثمة ضوابط تمنع اجتراء مراكز صناعة القرار، على محددات شرعيتها وممارستها السياسية، أما في الأوضاع التي تهدر فيها البنى السياسية الحاكمة، المرجعيات القانونية الناظمة لها – كما في تجارب البلاد العربية – فتغدو الأزمات الوطنية والداخلية انعكاساً لسلطة القوى المهيمنة، على سلطة النصوص والقوانين، وإمكانية التلاعب بها. في الحالة الفلسطينية على وجه الخصوص، يثير مثل هذا النقاش حول مسألة الشرعية، في بعديها القانوني والسياسي، مشكلات وتعقيدات مُركبة. لعلَّ السجال الدائر حول الانتخابات الفلسطينية (الرئاسية – التشريعية – المجلس الوطني) ما يكشف طبيعة ونوعية التحولات العميقة، التي تتعدى أزمة الشرعية في المؤسسات السياسية القائمة، إلى دلالات التباين الحاد في مواقف الفلسطينيين، حيال معنى، ووظيفة هذا الاستحقاق الانتخابي، في ظل غياب رؤية وطنية حول مستقبل القضية الفلسطينية برمتها. ما يفسر وجود عدة مقاربات، واستجابات مختلفة، في التعامل مع ملف الانتخابات، فرضتها أحداث ووقائع مفصلية، طالت ساحات الداخل والخارج. حيث أدى تموضع مركز القرار الفلسطيني في الداخل، عشية اتفاق أوسلو، إلى تهميش تجمعات اللاجئين في الخارج، وانسحاب مظلة ممثلهم الشرعي من فوق رؤوسهم.
تُمهد تلك الخلفية حول تحولات المشهد الفلسطيني، إلى تقديم قراءة قانونية، تتناول دراسة وتحليل الآثار المترتبة، على مراسيم الانتخابات الفلسطينية، ومدى إمكانية التعويل عليها، في معالجة وترميم أزمة الشرعيات الفلسطينية بمختلف مستوياتها. لاسيما أن التفاهمات الوطنية، التي جرت تسوية الملف الانتخابي وفقاً لها، باتت صيغة مختلفة في الخطاب الفلسطيني الراهن، عن مفهوم التوافق الفصائلي، الذي طبع محطات منظمة التحرير الفلسطينية في أزمنة صعودها، وكان الباركود الوطني، والتجسيد العياني لمفهوم الشرعية الثورية، التي قامت على شرعية الإنجاز بالدرجة الأولى. آنذاك كانت تتطابق هوية المنظمة إلى حدٍ بعيد، مع مضامين نظامها الأساسي، وتعكس اختصاصات وصلاحيات مؤسساتها، قوة تمثيلها لعموم الشعب الفلسطيني. كان المجلس الوطني، وفق النظام الأساسي لمنظمة التحرير، هو السلطة العليا للمنظمة، وبموجب (المادة 5) "يُنتخب أعضاء المجلس الوطني عن طريق الاقتراع المباشر من قبل الشعب الفلسطيني، فيما تنص (المادة 6) على أنه إذا تعذر إجراء الانتخابات "استمر المجلس الوطني قائمًا إلى أن تتهيأ ظروف الانتخابات". اللافت أنه ومنذ المجلس الوطني الفلسطيني الأول عام 1964، ولغاية الدورة الثالثة والعشرين الأخيرة له، والتي انعقدت في رام الله عام 2018، بقيً تطبيق (المادة 6) هو القاعدة العامة في تشكيل عضوية المجلس. إذ لم نشهد ولا مرة طيلة عمر المجلس اللجوء إلى الانتخابات وفق (المادة 5). قد لا نجد غرابة في ذلك، إذا تتبعنا محطات نشأة وترسيخ مكانة المنظمة، حين كان التوافق الفصائلي قائماً وممكناً، وفي تلك المراحل التي كانت شرعية الإنجاز لها الأولوية، على الشرعية الانتخابية الديمقراطية. بيد أن مياها كثيرة جرت، لاسيما في منعطفات الخلاف والانقسام الفصائلي، وحتى قبل بدء زمن أوسلو / السلطة، حيث بات خلالها يتعذر الوصول إلى التوافق الفصائلي، وتآكلت معها شرعية الإنجاز بصورة دراماتيكية، وأضحى قيام السلطة عشية أوسلو، يقتضي بناء شرعية دستورية وقانونية، تغطي شرعية وجود وأعمال مؤسسات السلطة. بالمقابل لم يعد ممكناً حتى ترميم المجلس الوطني، الذي أصبح التعطيل والتوظيف السياسي لمكانته المتبقية، هو الحقيقة المريرة التي لم يعد بموجبها يُمثل السلطة العليا للمنظمة، طالما أن المنظمة نفسها، تحوّلت إلى أداة لتغطية وتمرير قرارات تتعلق بالمشروع السياسي للسلطة.
من صور تحوير دور المنظمة، اجتماع المجلس الوطني في غزة عام 1996، بغرض شطب وتعديل مواد من النظام الأساسي، وكان ذلك بمثابة ترجمة واقعية لذاك التحول في دور ومكانة المنظمة. لا تغيب عن أذهاننا أيضاً، دلالات تعطيل اجتماعات المجلس الوطني لسنوات طويلة، مع أن النظام الأساسي للمنظمة يُلزم رئاسة المجلس بالدعوة إلى انعقاده بصورة دورية سنوياً. حتى الدورة الطارئة التي عقدت عام 2009، لملء شواغر اللجنة التنفيذية، بعد انقطاع اجتماعات المجلس لأكثر من ثلاثة عشر عاماً، تعرضت لانتقادات قانونية وإجرائية كثيرة، يمكن العودة إلى ما كتبه حولها شيخ القانونيين الفلسطينيين، المرحوم الدكتور أنيس مصطفى القاسم في مقال بعنوان " الشرعية الفلسطينية في خطر".
التساؤل إذاً، من وحي تحولات المرجعية الوطنية ووثائقها القانونية، يدور حول صلات المتغيرات التي طرأت على المجلس الوطني، بالمراسيم الرئاسية المتعلقة بالانتخابات والتي صدرت في 15/ يناير2021؟ والأجوبة عليه تقترن بدلالات ونوعية التوافق الفصائلي الجديد، الذي صدرت المراسيم بناءً عليه، لأنه توافق قام على محصلات الانقسام والتدهور، في المشروع الوطني الفلسطيني، وعلى ترميم شرعيات السلطتين في رام الله وغزة، وليس على رؤية وطنية لمعالجة أزمة المشروع الوطني، وتحديث رؤية قانونية تستجيب لضروراته وتحديّاته. ذلك أن المدخل السليم للمعالجة المطلوبة، يكمن في إحياء المنظمة، وإعادة بناء مؤسساتها ابتداءً، وفي أساسها المجلس الوطني، الذي لم يعد التوافق الفصائلي مدخلاً لبث الحياة الوطنية فيه. حيث جاء الشق من المرسوم، والمتعلق بانتخابات المجلس من الناحية الزمنية، والتي حددها في 31 أغسطس/ آب القادم، مؤشراً على المدة القصيرة جداً، وغير الكافية لإجراء التحضيرات اللازمة لانتخاب المجلس. عدا أن انتخاب المجلس عن طريق "الانتخابات حيثما أمكن، وبالتوافق إذا لم يكن ممكناً" كما ورد في نص المرسوم، ما يشفّ عن نية واضحة لتطبيق خيار التوافق، وفق المحاصصة الفصائلية المعهودة. ما سينسحب بدوره في حال تمرير تعيينات المجلس بهذه الطريقة، على كافة مؤسسات المنظمة المنبثقة عنه "المجلس المركزي – اللجنة التنفيذية". يعكس التعامل مع مشكلات التمثيل المتراكمة في المنظمة، تصلب العقلية التي تصر على تجاهل تحولات الواقع الفلسطيني في العقود الثلاثة الأخيرة، والتي دون معالجة تأثيراتها الوطنية الشاملة، يصعب التفكير بكيفية تصحيح التمثيل، بمختلف تعبيراته الديمقراطية، ومن أبرز الحقائق التي نجمت عن تلك التحولات:
أولاً: أن أزمة العمل الوطني الطويلة والعميقة، وما تداعى عنها من أزمة ثقة كبيرة بين الشعب والفصائل، جعلت من أكثرية مجتمع اللجوء الفلسطيني، في عداد المستقلين غير المنتمين للفصائل، لاسيما الأجيال الناشئة التي فقدت الحوافز للانخراط في الأحزاب والقوى السياسية. مؤدى ذلك أن أي توافق فصائلي على استكمال أعضاء المجلس، سيعني حكماً إقصاء غالبية اللاجئين الفلسطينيين، ما يفسر الكثير من المواقف الرافضة أو اللامبالية، في أوساطهم تجاه ملف الانتخابات. بل يرون فيه تتويجاً لسياسات استبعادهم وتهميش قضيتهم وحقوقهم، والتي انجلت بصورة أوضح خلال حقبة أوسلو.
ثانياً: يشير توزع وتشتت اللاجئين خارج فلسطين، وتُقدّر أعدادهم حسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني حتى نهاية عام 2020، بنصف تعداد الشعب الفلسطيني المُقدر بحوالي 13.7 مليونا، إلى أن توزعهم على دول ومناف متعددة، لم يعد عذراً مقبولاً لعدم مشاركتهم في اختيار ممثليهم للمجلس الوطني، عن طريق الاقتراع المباشر، ومع ثورة التكنولوجيا والاتصالات، التي جعلت من العالم قريةً كونيةً، توفرت العديد من الوسائط والبرامج، القادرة على تجاوز معيقات الجغرافية السياسية، والمتطلبات اللوجيستيكية المتعلقة بتنظيم وسير العمليات الانتخابية.
ثالثاً: في ضوء النكبات والمآسي، التي شهدها اللاجئون في العقود الأخيرة، ومثالها الصارخ فلسطينيو سورية، فإن نظرة اللاجئين لانتخابات المجلس الوطني، لا تنفصل عن مخاوفهم، من إعادة تدوير أزمة المشروع الوطني تحت سقف أوسلو، وأن يصب ذلك في استمرار استغلال المنظمة، التي تنازلت قياداتها عن 78% من فلسطين التاريخية، مقابل دولة لم تعد قابلة للحياة، بفعل عمليات الضم والاستيطان والتهويد. ما يطرح بالنسبة للاجئين، سؤال الجدوى من التعويل على عملية ترميم المجلس الوطني، دون أن تسبقها ورشة وطنية، تشارك فيها الفصائل والمستقلون، لإعادة النظر بكل التجربة الفلسطينية، ومراجعة وتصويب مساراتها السياسية، بما يلبي حقوق وتطلعات الكل الفلسطيني.
تحيلنا الحقائق السالفة، إلى أن المعنيين والمهتمين بالانتخابات الفلسطينية (التشريعية في 22مايو/ أيار والرئاسية في 31يوليو/ تموز القادمين) هم مكونات فصائلية ونخب مستقلة، وكتل أهلية ومجتمعية واسعة في الداخل الفلسطيني، لا يجوز التقليل من حجومها، نظراً لتأثير تلك الانتخابات ودورها - كما يأملون - في التخفيف من معاناتهم، بفعل الاحتلال، والانقسام، والحصار، وتردي أوضاعهم المعيشية. هذه الزاوية من النظر التي تحكم مواقفهم العامة من الانتخابات، لا يعنيها كثيراً الجدال القانوني، حول مشكلة التطابق، بين شرعيات السلطة وشرعية المنظمة، والتي تمت على حساب تجزئة الحقوق الفلسطينية، وتغييب الإطار المرجعي، لكل مكونات الشعب الفلسطيني. رغم تعدد دوافع تفاعل الداخل الفلسطيني مع الانتخابات، في ضوء المتغيرات والوقائع، التي أنتجتها تجربتي السلطة، في الضفة الغربية وقطاع غزة، فضلاً عن الحاجة لوجود إدارة وطنية، تدير شؤون المجتمع في الداخل. بالمقابل نرى أن بروباغندا التوافق الفصائلي، تحاول استغلال ظروف وحيثيات تلك المواقف، تحت ستار مبدأ الممارسة ديمقراطية، بهدف تصريف نتائج الانتخابات لترميم شرعياتها المثلومة. فالرئيس حسب القانون الأساسي للسلطة، قائم بحكم الأمر الواقع منذ العام 2010، والمجلس التشريعي الذي انتهت دورته الانتخابية عام 2009، انشطر إلى مجلسين غير شرعيين. في حين أن هناك مطاعن قانونية، في كافة القوانين والقرارات الصادرة عن الرئيس، والمجلس التشريعي، خلال الفترة الطويلة التي تلت انتهاء ولايتهما. لا يتوقف تنازع الشرعيات عند هذا الحد، فقد كشفت تجربة السلطة تحت الاحتلال، عجزها وقصورها، عن تجسيد رؤيتها لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، لأنها رهنت تلك الرؤية بموافقة الاحتلال، وبالضغط الأميركي، وكان ذلك ضربا من الوهم، بددته وقائع صلبة على الأرض.
من دواعي الخيبة، أن مسارات القابضين على القرار الوطني الفلسطيني، لم تؤدِ فحسب إلى تفكيك مرتكزات الخطاب الوطني، وتجزئة وحدته العضوية، بل إلى تخفيض سقف الخطاب الوطني، إلى ما دون سقف الشرعية الدولية، ونذكر كمثال على التفريط بالثوابت الوطنية المكفولة، في قرارات الشرعية الدولية، ذاك المشروع الذي قدمته السلطة الفلسطينية، إلى مجلس الأمن في كانون الأول عام 2014، وطالبت بموجبه المجلس؛ بأن يقوم بتحديد أسس التفاوض بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، بدلاً من مطالبتها الجازمة بإنهاء الاحتلال عن كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما ورد في عشرات القرارات الدولية بهذا الخصوص. علاوةً على تضمين المشروع نصاً يؤكد على إيجاد حل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين، وفي ذلك طمس مؤلم لحقيقة ساطعة، وهي أن الحل العادل مصون بالقانون، وليس بالاتفاق والتوافق، مع المسؤول الأول عن نكبة اللجوء الفلسطيني وهو الكيان الصهيوني، وأن القرار الأممي 194، لا لبس فيه لجهة إلزام الاحتلال بتنفيذ عودة اللاجئين إلى ديارهم التي شردوا منها.
في ضوء ذلك من غير المتوقع أن تؤدي الانتخابات الفلسطينية إلى معالجة أزمة الشرعية الفلسطينية، طالما أنها ستتم بمعزل عن مسار يوائم بين عدالة القضية الفلسطينية وطنياً وسياسياً وحقوقياً، وضرورات إنقاذ المشروع الوطني الفلسطيني من الانحراف والضياع. فكيف سيكون عليه المشهد في صناديق ومحاصصات، تُعيد إنتاج نفس الطبقة السياسية التي أنتجت كل هذا الخراب..