على مدار السنوات الثلاث عشرة الماضية تراجعت علاقات الاتحاد الأوروبي مع دولة المجر التي انضمت إليه في 2004. ولم تُنس بعد لقطة ترحيب رئيس المفوضية الأوروبية السابق، جان كلود يونكر، قبل سنوات، برئيس حكومة المجر فيكتور أوربان بعبارة: مرحباً يا ديكتاتور.
ويعيد أوربان اليوم اللعب، عبر وسائل الإعلام التي يهيمن عليها، لعبة التهديد بـ"الخروج من الاتحاد الأوروبي"، لفرض شروطه على بروكسل. ومنذ أن اعتلى أوربان السلطة، للمرة الثانية بعد 1998، باكتساح تحالفه "فيديز" ثلثي مقاعد البرلمان في 2010، أخذت بودابست تصطبغ أكثر فأكثر بأفكاره القومية المتشددة. وبخطاب شعبوي، امتلك "فيديز" مقدرة على إقناع الجماهير بسردية تقوم على التخويف من الغرباء ومظلومية التاريخ.
واصل أوربان ومحيطه منذ صيف 2015 اعتبار تدفق المهاجرين نحو أوروبا مؤامرة
فالمجر لم تعد جزءاً من إمبراطورية قديمة (النمساوية المجرية)، بل باتت بلدا "صغيرا"، ومهددة قيمها المسيحية-الأسرية مجدداً من تدفقات الهجرة، كما يسوق أوربان ورجالات الحكم الجديد.
وليس غريباً في السياق استدعاء وقوع البلد تحت الهيمنة العثمانية في القرن السادس عشر، للقول إن ما جرى في 2014 و2015 من تدفق مهاجرين نحو أوروبا عبر بودابست يعبّر عن "اجتياح إسلامي" متجدد، لرص صفوف الشعب من أجل قبول المزيد من تقييد الحريات في البلاد الواقعة في وسط الطريق من البلقان نحو النمسا ومنها إلى ألمانيا ودول الشمال.
ويتحدث باحثون وسياسيون ووسائل إعلام غربية عن أن أوربان يسير بالمجر نحو نظام تسلطي. أما الرجل نفسه فله خطابه الواضح، الذي ورّطه مرات كثيرة، في اعتبار تلك الاتهامات "مجرد مؤامرة"، ومصدرها الملياردير الأميركي المجري-اليهودي جورج سوروس، ومن خلفه "اليسار والليبراليين" في الغرب. بل في مرات معينة اعتبرها "مؤامرة يهودية" تساق ضد بلده المحافظ.
على تلك الخلفية، وغيرها من تفاصيل، وجدت دول أوروبا الغربية نفسها في ورطة جدية مع نمط حكم لا يشبه قارتها، بل أشبه بما طمحت إليه الفرنسية مارين لوبان وبقية أحزاب التطرف القومي في إيطاليا والنمسا وإسبانيا وبريطانيا ورومانيا وسلوفاكيا وبولندا، وقائمة طويلة من الأحزاب المتشددة الساعية إلى السلطة.
الفارق بين تلك الأحزاب وحزب "فيديز" أنها في أكثر الأوقات لم تستطع تجاوز عتبة العشرين في المائة من أصوات الناخبين، باستثناء تجربة يورغ هايدر النمساوي الراحل، ووصول جورجيا ميلوني إلى السلطة في روما.
التخويف لتسويق التطرف القومي
تحالف "فيديز" ليس فقط طيعاً بيد أوربان، كما يوصف في عواصم أوروبا المنزعجة من مشهد التحولات المجرية منذ سنوات، بل مرر ما تجده بروكسل منافياً تماماً لمبادئ وقيم الاتحاد الأوروبي، على مستوى القرارات والقوانين التي نقلت البلد من "ديمقراطية ليبرالية" إلى "نظام غير ليبرالي وغير ديمقراطي"، كما أطلق عليه أستاذ هارفارد ومستشار جامعة وسط أوروبا في بودابست، مايكل إغناتيف.
ومسيرة أوربان نحو السلطة لم تبدأ فقط في توقيت هيمنته على البرلمان في انتخابات 2010، بل قبل ذلك. فسيرته الذاتية وأفكاره أثرت، كما بقية الأنظمة الحالمة بالفردية والتسلط، على الطريقة التي يحكم بها بلده.
كان يردد أنه سياسي ليبرالي معارض للحكم الشيوعي والاتحاد السوفييتي السابق، بل ومن خلال خطبه استطاع رمي كل مشاكل المجر على الحكومات التالية للحكم الشيوعي، متهماً إياها بأنها "اشتراكية" تتحمل مسؤولية الفقر وتردي الأوضاع، معتبراً أنه وتحالفه "فيديز" أفضل من سينقذ البلاد.
أفضل تعبير عن الحالة التي وصلت إليها المجر في ظل رئيس حكومة قومي متشدد، هو أوربان، كان لوزير خارجية أول حكومة ديمقراطية بعد الحكم الشيوعي، غيزا جيسسينزكي، بأنها "تتجه نحو حكم الحزب الواحد مرة أخرى، وهذه المرة بدون إرهاب (يقصد قمع السلطة الاشتراكية السابقة)"، وذلك في تصريحات نقلتها عنه صحافة أوروبية تتابع مجريات سير المجر، بعيداً عن أسس وشروط الانتماء إلى نادي الاتحاد الأوروبي.
يعتبر أوربان الليبرالية "أخطر من الشيوعية" وبأنها تهدد القيم الأوروبية المسيحية
حين شاهد العالم ركل الصحافية للاجئ يحمل طفلته على الحدود الجنوبية للمجر في 2015، كانت بودابست ترى المسألة في سياق "طبيعي"، بعد أن شيّدت سياجاً حدودياً مع صربيا بحجة منع ما يسمونه "تهديد القيم المسيحية ولأجل حمايتها".
فقد أقر البرلمان قانوناً صارماً منذ ذلك الحين يقضي بسجن أي مواطن يتعاطف مع أو يساعد اللاجئين والمهاجرين. وانتشرت في طول وعرض البلد لافتات تحرّض على اللاجئين باعتبارهم جاءوا "ليسرقوا أعمال ونساء الهنغاريين (المجريين)".
قامت تلك الدعاية على فكرة تسود لدى تحالف "فيديز" وعند أوربان شخصياً، كمبرر لكل هذا التطرف القومي المتسارع، والمتصادم مع قوانين القارة الأوروبية، ليس فقط في ما يتعلق بمسؤولية البلد عن تقاسم حصص المهاجرين، بل باعتبار المجر ضحت من أجل إيقاف المد الإسلامي (العثمانيين) في القرن السادس عشر، وانتهى الحال بهم بالوقوع تحت حكمهم لنحو 150 سنة.
ومنذ صيف 2015 واصل أوربان ومحيطه اعتبار تدفق المهاجرين نحو أوروبا بـ"المؤامرة" التي يشارك فيها سوروس والماسونيون وأثرياء اليهود "لتقويض الثقافة المسيحية، وبتمويل هجرة الشبان الأفغان من بلادهم البعيدة".
لم يتغير الخطاب كثيراً رغم مرور نحو 10 سنوات على التدفقات الأولى للاجئين، ولا يزال "الخطر" من "إغراق أوروبا" بهم عنواناً للإبقاء على التشدد، وكسب الأرياف المجرية والناخبين الذين يعيشون على دعاية وسائل بث صارت بنحو 80 في المائة بيد السلطة الحاكمة.
مع حليفه اليميني المتطرف حزب "يوبيك" ظل "فيديز" يخاطب عاطفة المجريين حول "مظلومية التاريخ"، وأن المجر أكبر بكثير من جغرافيتها الحالية، حيث يسوقون لاقتطاع معاهدة تريانون للسلام بعد الحرب العالمية الأولى (وقعت في 1920) باعتبارها سرقت ثلث أراضيهم وجعلت نصف المجريين أقليات في دول أخرى.
الصدام مع أوروبا... أوليغارشية متوسعة
بناء على تلك الخلفية الفكرية المنتشرة في الشارع المجري، والتي يعترف بتأثيرها العميق جيسسينزكي، وغيره من الأكاديميين المجريين، تبقى العلاقة الأوروبية - المجرية متوترة، وآخذة بالتحول إلى كتلة لهب متراكمة قد تنسف الجسور المستقبلية، بل تثير قلقاً من تحولها إلى انسحاب من الاتحاد الأوروبي على الطريقة البريطانية.
الإطباق على النظام القضائي، وتقييد الحريات، والتحكم بوسائل الإعلام، تقلق الأوروبيين الذين اعتقدوا أن بودابست في 2004 استوفت شروط عضوية الاتحاد الأوروبي، من خلال الفصل التام بين السلطات والحفاظ على أسس النظام الديمقراطي الليبرالي.
ويبدو أن الحكومة المجرية استكملت مشروعها الداخلي لجعل التركيز منصبا على "الروح القومية" و"القيم الأسرية المسيحية"، وأن "المجر تحارب بيروقراطيي بروكسل (أي مؤسسات الاتحاد الأوروبي)"، كما هو الحال في خطاب الأحزاب الشعبوية القومية المتطرفة في أوروبا.
وعلى طول خط المواجهة المستعرة بين أوربان وساسة أوروبا، بقيت بودابست، حتى وقت قصير قبل غزو روسيا لأوكرانيا، تجد حلفاء لها في سلوفاكيا والتشيك وبولندا، والآن رومانيا وربما بلغاريا، ومع ساسة إيطاليا والنمسا وألمانيا والدنمارك والسويد، وغيرها من دول، في أقطاب اليمين القومي المتشدد. بل حتى على مستوى البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، استطاع "فيديز" وأوربان تكوين صداقات وتحالفات من خارج مجموعة المحافظين فيه (الأحزاب الشعبية المحافظة).
أوربان متهم بفتح بلده أمام الاستثمارات الصينية وشركاتها وعلاقات جيدة مع بوتين
وحتى اليميني المتشدد الأميركي، ستيف بانون، الذي سبق أن شغل منصب
كبير مستشاري الرئيس الأميركي للشؤون الاستراتيجية، عندما كان ترامب يتولى المنصب قبل أن يطرده، على علاقة طيبة مع "رجالات أوربان"، ومنهم مستشاره المقرب أرباد هابوني، فيما يعتبره أوروبيون آخرون، بسبب خطابه المعادي للمهاجرين، والمسلمين على وجه الخصوص، مثلاً أعلى للسياسات التي يجب انتهاجها في القارة العجوز.
خلاف المجر مع الاتحاد الأوروبي لم يعد ينحصر في بعض التشريعات المتعارضة مع مبادئ الديمقراطية، بل بكل قيمه وأسس العضوية فيه. وبشكل خاص يتعلق الأمر بهيمنة سياسية على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. وبمعنى آخر نسف أوربان ومؤيدوه في برلمان منتخب بشكل ديمقراطي في 4 دورات (منذ 2010) مبدأ أساسياً يتعلق بفصل السلطات، كما يتهمه على الأقل الأوروبيون وخصومه الذين أُضعفوا إلى حد كبير.
تركيز على الحكم الفاسد والأوليغارشية
في سياق انتقادات سياسيين ومشرعين أوروبيين للحالة المجرية فإنهم يركزون بصورة أساسية على أن نمط حكم أوربان يحيل حياة الديمقراطية التمثيلية إلى حكم فاسد وأوليغارشية وحكم عائلي وولاء المقربين، ما ينعكس بصورة مدمرة على الديمقراطية الأوروبية، بحسب التصريحات التي تصل إلى حد وصف الرجل بأنه "ديكتاتوري ومستبد".
كما باتت التصنيفات المتعلقة بمقاييس ديمقراطية الدول تعتبر المجر تحت حكم أوربان، مثلما يفعل "فريدوم هاوس"، "ديمقراطية جزئية". وحتى الباحثون في مشروع في جامعة غوتيبروغ السويدية توصلوا إلى نتيجة بأن ما يجري في المجر هو "انتخابات تسلطية استبدادية". بالطبع يرفض أوربان تلك التهم، بل يعتبر الليبرالية "أخطر من الشيوعية" وبأنها "تهدد القيم الأوروبية المسيحية".
خلال السنوات الأخيرة، بدأ الأوروبيون يتململون أكثر من استخدام بودابست الأموال الأوروبية (حصلت على أكثر من 100 مليار يورو منذ 2004) في اتجاه تعزيز قبضته على الحكم، وتمرير تشريعات تستهدف الأقليات، وتغذي التعصب القومي. ومنها خطط "الحفاظ على الأسرة" باستخدام الأموال لدعم النساء في زيادة النسل، بمنحهن أموالاً وتخفيضاً ضريبياً، بالإضافة إلى زيادة في رواتب المعاشات التقاعدية للحفاظ على تصويتهم لـ"فيديز". السياسات المالية تلك خلقت أزمة مالية متزايدة في البلد، وصلت فيها نسبة التضخم إلى ما فوق 20 في المائة. وتتهم تقارير مقياس الشفافية العالمية المجر بأنها تتحول إلى رابع أكثر بلد أوروبي فساداً.
تستدل التقارير الأوروبية على تشكل طبقة أوليغارشية محيطة بأوربان شخصياً، باستفادة الكثير من معارفه من العطاءات والمناقصات التي لا تتماشى والقوانين الأوروبية، وباتوا يمتلكون المليارات، مثل صديقه السباك لورنيك ميساروش، الذي أصبح في غضون سنوات قليلة أغنى رجل في المجر.
وثمة أسباب أخرى للنفور الأوروبي في بروكسل من نمط حكم بودابست، الذي لم يعد برأيهم يفي بمعايير الديمقراطية، وتبني تعديلات قانونية تقيد الحريات، وهو أيضاً ما تذهب إليه تقارير قياس الديمقراطية والحريات، وتتعلق بما يسمونه "ابتزاز أوربان للقارة من أجل المال".
لعب أوربان على التناقضات
حين قرر الاتحاد الأوروبي، نهاية العام الماضي، تجميد دفع حصة البلد من أموال التعافي من جائحة كورونا حتى يلبي 27 شرطاً تتعلق باستعادة الديمقراطية ومبادئ الاتحاد الأوروبي، على وقع متغيرات الحرب في أوكرانيا وتراجع تأييد حزب "القانون والعدالة" البولندي الحاكم لنهج أوربان على مستوى قرارات القارة، بدأ أوربان يلعب لعبته المفضلة في اللعب على حبال التناقضات.
الرجل يستطيع عرقلة بعض القرارات الأوروبية، باستخدام حق النقض، وقد سرى ذلك أيضاً في سياق آخر متعلق بعضوية فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو). وهو متهم بفتح بلده أمام الاستثمارات الصينية وشركاتها، وعلاقات جيدة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وتتجلى الصداقة بين الاثنين بشكل خاص عندما تقاوم المجر العقوبات ضد روسيا، أو عندما تتردد في تقديم المساعدة لأوكرانيا.
ما يقلق الأوروبيين، في توجه أوربان أكثر نحو إظهار نفسه كبطل في عيون شعبه ومن يشبهه في التفكير على مستوى القارة، أن تقارير صحافية غير مؤكدة أشارت إلى اتفاق بينه وبين بوتين. كما طرح الكاتب والمؤلف السويدي المخضرم ريتشارد شوارتز، عن وعود روسية بأنه في حال نجحت "العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا" فسيلحق جزء من أراضي أوكرانيا في كارباثو (حيث يعيش سكان من أصول مجرية) بدولة المجر. وفي فبراير/شباط الماضي، اعتبر أوربان أن أوروبا "في حالة حرب مع روسيا"، معترضاً على انخراطها في دعم أوكرانيا اقتصادياً وعسكرياً، ومشدداً على أن العقوبات ضد موسكو "كارثية لأوروبا".
وكان أوربان، في أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي، وفقا لصحيفة "فايننشال تايمز"، صرح في برلين بأن "الرئيس الأميركي جو بايدن ذهب بعيداً بوصف بوتين كمجرم حرب". وراهن الرجل على أن عودة ترامب إلى البيت الأبيض تعطي أملاً بالسلام.
اتهام حكم أوربان بالتحول إلى "استبدادي كلاسيكي" وصل إلى أروقة المشرعين في البرلمان الأوروبي، إذ اعتبر أحد أقطاب يسار الوسط، من كتلة "الاجتماعي الديمقراطي" فيه، نيلز فوغلسانغ، أنه حان الوقت "لمواجهة هذا الاستبداد ونزع أوروبا قفازاتها المخملية في مواجهة الحكم الفردي الذي يشكل خطراً على كل أوروبا". بل يذهب آخرون إلى وصف أساليب أوربان في "الابتزاز" بأنها "أساليب مافيوية".
بالنسبة لبعض الأوروبيين، فإن خروج المجر من الاتحاد، بعد تجربة خروج بريطانيا الأقوى اقتصادياً، أقل تأثيراً على مشروع الاتحاد الأوروبي، لكنه في الوقت نفسه يشكل ضربة معنوية لرمزية توسع الغرب بعد انهيار الكتلة الشرقية في بداية تسعينيات القرن الماضي، ومشاريع تأهيل دول أخرى للعضوية في جنوب وسط القارة.
فمثل هذا الطلاق سيكون بلا شك محل ترحيب روسي صيني، وهو أيضاً يحمل مخاطر تأثير "الدومينو"، حيث تتربص القوى القومية المتعصبة، وعموم معسكر الشعبويين الأوروبيين لتسويق شعارهم عن الانعتاق من "بيروقراطية واستبداد قرارات بروكسل".
قد لا يكون الخروج من الاتحاد الأوروبي هو الهدف الرئيس لأوربان، بل كما يراه بعض المتابعين "رغبة في تغيير الاتحاد الأوروبي نفسه من خلال التأسيس لتحالفات مع قوى شبيهة في القارة".